من يحكم تونس؟ / الطاهر المعز

366

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 8/7/2021 م …

للتّذكير، كان جيفري فلتمان، نائب وزير الخارجية الأمريكية، بتونس، يوم فرار أو تهريب زين العابدين بن علي، ويُعتبر “فلتمان” من أخطر الموظفين السّامين في وزارة الخارجية آنذاك، فهو يتقن العربية والعبرية، وساهم بشكل كبير في توجيه السياسات الأمريكية بشرق أوروبا، بداية من سنة 1988، قبل سنوات قليلة من انهيار الإتحاد السوفييتي، ثم بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، حيث عمل سابقًا (من 1995 إلى 1998) كمستشار خاص للسفارة الأمريكية، بشأن تطبيق اتفاقيات أوسلو.

كان جيفري فلتمان رئيسا للقسم السياسي والإقتصادي بالسفارة الأمريكية بتونس، من 1998، أي مباشرةً بعد تل أبيب، إلى سنة 2000، قبل أن يتخصص بتخريب وتفتيت البلدان العربية…

كان برنامج “جيفري فلتمان” يتضمن زيارة قصيرة لتونس (ثم القاهرة خلال نفس اليوم)، لا تتجاوز بضع ساعات، بهدف إخماد الإنتفاضة، عبر إيجاد حل يُغَيِّر شَكْل الحُكم ويُبقي على جوهره الطبقي، وعلى تبعيّته للإمبريالية، لكن زيارته تحولت إلى إقامة لمدة ثلاثة أيام، نَصّب خلالها محمد الغنوشي رئيسًا، وما هو سوى آخر رئيس وزراء لدى بن علي، ثم وقع استبداله بفؤاد المُبَزّع، وهو وزير ممن خَدَموا بورقيبة وبن علي، وجاء بابن خالته “الباجي قائد السبسي” ليصبح رئيس حكومة، وخدم كذلك النظام القائم منذ 1956، ورتّب جيفري فلتمان الأمر لإدماج رُموز بعض القوى السياسية الرّخْوة في منظومة الحُكْم ( نجيب الشابي والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر )، وإدماج الإخوان المُسلمين الذين تعتبرهم الإمبريالية الأمريكية “إسلامًا سياسيًّا مُعتدلاً”، كما التيار الوهّبي، مُقارنة ب”طالبان” أو “القاعدة”…

في هذا المناخ، وعلى الجبهة السياسية، بدأ مسار إفراغ الإنتفاضة من مُحتواها، على أمل اقتصار النضال على الحملات الإنتخابية، بذريعة الإحتكام إلى الدّيمقراطية التّمثيلية…

على الجبهة الإقتصادية، أكّد المصرف المركزي التونسي أن الدّيون العمومية قاربت 25,64 مليار دينارًا، أو حوالي 14,5 مليار دولارا، سنة 2010، لترتفع إلى أكثر من 94 مليار دينارًا، أو أكثر من ثلاثين مليار دولارا، وساعد انخفاض الدينار واعتماد الإقتصاد على قطاعات غير منتجة، وغير ذلك من العوامل، في ارتفاع الدّيون الخارجية، التي استخدمت الدّولة أكثر من 90% من قيمتها لتسديد ديُون خارجية سابقة، وعمومًا لم تستثمر الحكومات المتعاقبة (بإشراف وإدارة الإخوان المسلمين) في القطاعات المنتجة، بدليل الإرتفاع المُستمر للواردات، بما فيها المواد الغذائية والملابس والجلد، وأعلن معهد الإحصاء ارتفاعا مُستمرًّا في قيمة الواردات، حتى شهر أيار/مايو 2021، خصوصًا من تُركيا (التي يحكمها الإخوان المسلمون)، رغم تفاقم العجز التجاري، مقابل انخفاض الواردات من بلدان المغرب العربي وروسيا والصين. من جهة أخرى تُقَدِّرُ ميزانية البلاد قيمة الدّيُون بالدّينار، الذي ما انفك يتراجع مقابل اليورو الذي يستحوذ على حوالي 55% والدّولار على 22,3% من قيمة الدّيون، بالإضافة إلى الين الياباني وعُملات أجنبية أخرى، وترتفع قيمة خدمة الدّيْن بنسبة 27% خلال سنة 2021، مقارنة بسنة 2020، ويتوجب على الحكومة البحث عن مبلغ 1,8 مليار دولارا لاستخدامها في تسديد الدّيون.

يعسر على أي دولة وصل اقتصادها درجة العجز عن تسديد الدّيُون، مع غياب آفاق تحسن الأداء، عبر زيادة حجم وقيمة الإنتاج والصادرات والإستثمارات، أن تدّعي أنها قادرة على إقرار سياسة مُستقلة، في مجالات الإقتصاد، أو السياسات الداخلية والخارجية…

تندرج ديون تونس، كما معظم دُيُون البلدان الفقيرة، الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، بما سُمّي “الدّيُون الكريهة” (أو “البَغِيضَة”)، التي عَرّفَها، منذ سنة 1927 “ألكسندر ساك” (1890 – 1955) بأنها الدّيون التي لا تأتي بمنفعة للمواطنين، أو هي تخدم مصالح أهل السُّلْطة، ضد مصلحة الشعب، وعادة ما يفرض الدّائنون وجهة الدّيُون وطريقة استخدامها، ولذلك فالدّائنون مُتواطئون مع السّلُطات المُقتَرِضَة، ويُدْرِكُون أنها لن تُفيدَ المواطنين، خصوصًا عندما لا تتم استشارتهم، وبالتّالي فهي تفتقد إلى الشّفافية، في غياب مُساءلة السّلطة عن دَواعي الإقتراض وعن استخدام المبالغ المُقْتَرَضَة…

 

الدّوْر المحوري للمصرف المركزي:

يُدِير المصرف المركزي لأي دولة، السياسة النقدية، ويتفَرَّدُ بإصدار العملة الوطنية، ويُحدّد أسعار العملات، ويُزَوّد المصارف التجارية بالعملة، وفق آلية يُحدّدها المصرف المركزي…

كان “توفيق بَكّار” مٌحافظًا (مُديرًا تنفيذيا) للمصرف المركزي التونسي، خلال انتفاضة 2010/2011، منذ 2004 (وهو يحمل نفس إسم الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي التقدّمي “توفيق بكّار” 1927 – 2017)، وهو وزير سابق خلال فترة حُكم بن علي، ومُدير سابق بالبنك العالمي…

عند فرار زين العابدين بن علي، يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011، خلال الإنتفاضة التي انطلقت يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، سارع البنك العالمي يوم 17 كانون الثاني/يناير 2011، إلى إرسال أحد مُوظّفيه من الجنسية التونسية، “مصطفى كمال النابلي”، لضمان استمرار تسديد تونس مبالغ القُرُوض. ترأس “مصطفى كمال النّابلي” مجلس إدارة السّوق المالية التونسية (البورصة)، سنة 1988 وأصبح وزيرًا لدى بن علي من 1990 إلى 1995، ثم مدير قسم “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” (أي الوطن العربي) بالبنك العالمي، الذي عيّنَهُ بعد انتفاضة 2010/2011، مُحافظًا للمصرف المركزي التونسي، وبقي بمنصبه حتى 24 تموز/يوليو 2012، حيث عَيّن البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي “الشاذلي العياري” خلفًا له، وكان وزيرًا، من 1969 إلى 1975، خلال فترة حُكم الحبيب بورقيبة ، وممثلاً رسميا للنظام التونسي لدى عدد من المؤسسات الدّوْلية، خلال فترة حُكْم زين العابدين بن علي، وكان خلال انتفاضة 2010/2011، مديرًا تنفيذيا لمجوعة البنك العالمي، وعضوا بالمكتب الإستشاري لبنك التنمية الإفريقي، وقد ووجه ترشيحه بانتقادات كبيرة بسبب سنه وخاصة لعلاقته مع النظام السابق.

لا يختلف وضع “مَروان العباسي”، المُحافظ (الحاكم أو المُدير التنفيذي) الحالي للمصرف المركزي التونسي عن سابقيه، فهو قادم من أروقة النظام التونسي (منذ 1997)، ومن الجامعات الأمريكية والأوروبية، وموظف سامي سابق بالبنك العالمي (منذ 2008)، ولا يتعلق الأمر بشخص المُدير التنفيذي للمصرف المركزي، وإنما يتوجهاته، وهي توجهات البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، ويُشرف على عمل المصرف المركزي التونسي لجنة تضم ممثلين عن دول ومؤسسات أجنبية (أوروبية خصوصًا)، تُمثل مصالح القوى الإمبريالية والدائنين وتحرص على عدم حياد الحكومة عن الإتجاه الإقتصادي النيوليبرالي، وتُسمّى هذه اللجنة “لجنة قيادة الدراسات الإستراتيجية وإعادة بناء وتنمية الاقتصاد التونسي”، وأعدّت وثيقة قدّمتها الحكومة التونسية، في أيلول/سبتمبر 2014، خلال مؤتمر “الاستثمار في تونس، الديمقراطية الناشئة”…

طُرِحت مسألة “استقلالية” المصرف المركزي إثْرَ بيع أربع مصارف تونسية لمؤسسات مالية فرنسية، فيما استحوذَ الفَرْع المغربي لمصرف فرنسي على المصرف الخامس…

ارتكب نُوّاب “الجبهة الشعبية” ومنظمات اليسار خطأً فادِحًا عندما طُرِحت مسألة “استقلالية” المصرف المركزي، التي عارضها الإخوان المُسلمون لأسباب لا علاقة لها ببناء اقتصاد وطني أو بمُعارَضَة قرارات صندوق النّقد الدّولي، فالإستقلالية لم تكن ضرورة اقتصادية أو مالية، ولم تكُن مطلبًا شعبيًّا وإنما هي قرار مَفْرُوض من قِبَلِ صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وتعني “الإستقلالية” في مفاهيم الإقتصاد النيوليبرالي، أن تتدبّر الحكومة أمر الإقتصاد، وتودع الأموال لدى المصرف المركزي الذي يتصرف بها باستقلالية (في المسائل المالية) عن الحكومة التي تتصرف بالمسائل الإقتصادية، فهل يمكن فَصْلُ الوضع الإقتصادي عن الوضع المالي؟

يُشكل لبنان نموذجًا صارخًا للأضرار التي لحقت بالبلاد واقتصادها وكادحيها من أُجَراء ومُزارعين وحرفيين، جراء “استقلالية” المصرف المركزي، حيث تقترض الدّولة المال من المصارف التجارية بنسب فائدة مُرتفعة، استفادت منها المصارف الخاصّة، ورفعت من الدّيْن العام للدولة، وفرضت المصارف الخاصّة، بإشراف المصرف المركزي “المُستَقِل” سياسات نقدية على الحكومة من أجل تعزيز أرباحها، ومن أجل التّحكّم في السياسات المالية للدولة…

تُؤَدِّي “الإستقلالية” المَزْعُومة إلى حَظْرِ لُجُوء الدّولة، في بداية كل عام، لتمويل مشاريعها بواسطة السّحب من المصرف المركزي، بنسبة فائدة ضعيفة أو قريبة من الصِّفْر، وأصبح المصرف المركزي “المُستقِل” يُقرض المصارف التجارية الخاصة، بنسبة فائدة ضعيفة، لتقترض الدّولة من هذه المصارف الخاصة بنسبة فائدة مرتفعة جدّا، ما يُعجّل من الإثراء غير المشروع للمُساهمين في هذه المصارف الخاصة، بفضل الأرباح التي تتحقق من إقراض الدّولة، ومن تبعات “استقلالية” المصرف المركزي أيضا تقويض مشاريع تنمية القطاعات المُنتجة، وانخفاض حجم القروض المُخَصَّصَة للإستثمار في القطاعات الإنتاجية، لأن المصارف تُحبذُ إقراض الدّولة بنسبة فائدة تفوق 10% وقد تتجاوز 20%، بدون مَخاطر، بدل إقراض أصحاب المزارع والورشات والمصانع الصغيرة، ومجابهة مخاطر العجز عن السَّداد.

 

خاتمة:

أظْهَر الإخوان المسلمون، الذين يحكمون البلاد ضمن ائتلاف يضم رجال أعمال وأجنحة من النظام السابق، أنهم لا يختلفون عن النظام السابق الذي كان يرأسُهُ زين العابدين بن علي، فَهُم نيوليبراليون، مُطبِّعُون وسماسرة، لم يتخذوا أي خطوة باتجاه تغيير الإتجاه الإقتصادي نحو الإنتاج والإستقلالية، بل أمعَنُوا في بيع البلاد بِسُرعة قياسية وبأرخص ثمن، ولذلك دعمتهم الإمبريالية الأمريكية، منذ عُقُود واعتبرتهم يُمثلون تيارًا “مُعتدلاً”، أي مُواليا للإمبريالية…   

ما الحكومة سوى جندي، بلا رُتبة، أو برتبة مُتَدنّية، جندي، أو حارس، غير مُسَلّح، في خدمة ضابط، يأمُرُه فيُنفّذ، لكن التنفيذ لا يُجرّدُهُ من حق الرّفض، ولذلك فالحكومة مسؤولة أمام الشّعب.

يكمن الحل في الرقابة الشعبية على الإقتصاد والسياسات المالية والنقدية، والمُحافظة على قيمة العُملة المحلية، على أن يُقابلها إنتاج مَحلِّي للغذاء والأدوية والمُعدّات، لكي يدعم الإنتاج قيمة العملة، ولكي ينخفض حجم التّوْرِيد، وهي خطة اقتصادية مُغايرة لخطط الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها، منذ 1956، التي تُقدّم أكبر قَدْرٍ من التنازلات عن السّيادة، مع قمع العاملين وتردّي التشريعات الإجتماعية، أملا في اجتذاب الإستثمارات الأجنبية، بدل معالجة هشاشة الإقتصاد…

اعتقد الشعب التونسي أن الوضع سوف يتحسنولكن زاد حجم الدُّيُون وزاد معها حجم الإقتصاد الموازي والفساد والتّهرّب الضريبي والإرتشاء…الفساد، وأدى هذا الوضع المُتَرَدِّي إلى هجرة أصحاب المُؤهّلات والخبرة، الذي أنفق الشّعب على تعليمهم، مثل المهندسين والأطباء، فيما يُخاطر عدد متزايد من الشباب الفُقراء بحياتهم في البحر الأبيض المتوسط، أمَلاً في حياة أفْضَل، وهو ليس خيارًا، بل اضطرارًا ، بسبب الظروف الإقتصادية والسياسية غير المواتية، وبسبب الديون التي تم تسديد أضعاف قيمتها، ما يُشَرْعِنُ المطالبة بإلغائها، وبتعويضات عن استغلال الشركات العابرة للقارات، وعن النهب الاستعماري والإمبريالي للثروات… 

التعليقات مغلقة.