المناضل الأممي جورج عبد الله… من أكبر عدو للقضاء الفرنسي إلى “أقدم معتقل سياسي” في فرنسا

0 256

مدارات عربية – الثلاثاء 18/2/2025 م …

يصدر القضاء الفرنسي الخميس قراره بشأن طلب جديد لإطلاق سراح جورج عبد الله، “أقدم معتقل سياسي” في فرنسا بحسب توصيف المتضامنين مع هذا السجين اللبناني الذي لا تزال قلة من الناشطين المؤيدين للفلسطينيين تنادي بإطلاق سراحه بعد أربعة عقود على سجنه بتهمة قتل دبلوماسيَّين.

في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1984، لجأ عبد الله، وهو مدرّس لبناني كان يبلغ حينها 33 عاما، إلى مركز للشرطة في ليون. وكان يشعر بأنه ملاحق ويعتقد أن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) يسعى لتصفيته. لكن في الواقع، كانت مديرية مراقبة الأراضي (DST)، وهو جهاز استخبارات فرنسي، تتعقّبه بعد توقيف أحد أقاربه في قطار على الحدود الإيطالية اليوغوسلافية والعثور بحوزته على سبعة كيلوغرامات من المتفجرات. وقد أودع جورج عبد الله السجن.

وكانت أجهزة الاستخبارات تعرف بالفعل جورج عبد الله، إذ كان عضوا في الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي مجموعة صغيرة من الشباب الماركسيين اللبنانيين يتحدر أعضاؤها بمجملهم من بلدة القبيات المسيحية في شمال لبنان، وقد حملوا السلاح بعد غزو إسرائيل للبنان في عام 1982.

وكانت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية تستهدف مصالح إسرائيل وحليفتها الأميركية في الخارج.

قبل توقيف عبد الله، نفذت هذه المجموعة خمس عمليات في فرنسا، وقتلت عام 1982 دبلوماسيين هما الأميركي تشارلز روبرت راي، ثم الإسرائيلي ياكوف برسيمانتوف الذي كان يُعتبر رئيس “الموساد” في فرنسا، وقُتل برصاص أطلقته امرأة أمام زوجته وولديه.

– صفقة تبادل فاشلة –

وبعد أشهر من توقيف عبد الله، في آذار/مارس 1985، اختُطف مدير المركز الثقافي الفرنسي في مدينة طرابلس بشمال لبنان جيل بيرول. ومنحت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية فرنسا مهلة “48 ساعة” لإطلاق سراح عبد الله.

على الإثر، أعلنت باريس التي لم يكن لديها أدلة كثيرة تدين عبد الله آنذاك باستثناء العثور بحوزته على جوازي سفر مزورين، موافقتها على مبادلته بجيل بيرول الذي جرى الإفراج عنه في الثاني من نيسان/أبريل.

لكنّ عبد الله لم يستعد حريته… فبعد أيام قليلة، كشفت الصحافة أن السلطات لديها دليل على تورطه في مقتل الدبلوماسيَّين، إثر العثور على بصماته في مخبأ باريسي مليء بالمتفجرات والأسلحة، بما في ذلك المسدس المستخدم في الاغتيالين.

انهارت الصفقة، ولم يعد هناك أي مجال للإفراج عن عبد الله، الذي بات يُعتبر عندها قائد الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية في فرنسا واتُّهم بالتواطؤ في الاغتيالات، وذلك خصوصا في ظل ضغوط الولايات المتحدة ودخولها طرفا مدنيا في القضية.

وقال المدير السابق لمديرية مراقبة الأراضي إيف بونيه “لديّ مشكلة ضمير فيما يتصل بهذه القضية. لقد نكثت فرنسا بوعدها”.

 قلق في باريس 

وبعد أقل من عام، بين كانون الأول/ديسمبر 1985 وأيلول/سبتمبر 1986، استُهدفت باريس بموجة من الهجمات الدامية غير المسبوقة منذ الحرب الجزائرية: انفجرت 15 قنبلة، مما أسفر عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 250 آخرين. وقد وقع الهجوم الأكثر دموية (7 قتلى) في متجر تابع لسلسلة “تاتي” للألبسة في شارع رين الباريسي.

وكانت مجموعة غامضة تتبنى في كل مرة هذه الهجمات، تحت اسم “لجنة التضامن مع السجناء السياسيين العرب ومن الشرق الأدنى”، مع المطالبة بإطلاق سراح ثلاثة سجناء في فرنسا، بينهم جورج عبد الله.

وكان السجينان الآخران محكومين بالسجن مدى الحياة، وهما اللبناني أنيس نقاش، لمحاولته اغتيال آخر رئيس وزراء لشاه إيران، شهبور بختيار، عام 1980 (قتيلان)، والسوري الأرمني فاروجان غاربيديان، لضلوعه في الهجوم على مكتب الخطوط الجوية التركية في مطار أورلي الباريسي في عام 1983 (8 قتلى).

وساد قلق كبير في فرنسا، مع تعبئة واسعة لدى الشرطة.

البحث عن الاخوة عبد الله 

شيئا فشيئا، ركز المحققون عملهم حصرا على جورج عبد الله وشقيقيه موريس (23 عاما) وروبير (20 عاما)، الذين حددهم أحد الشهود على أنهم منفذو التفجيرات. ونُشرت صورهم في الأماكن العامة، مع وعد بمكافأة قدرها “مليون فرنك” مقابل أي معلومات تؤدي للقبض على المطلوبين. ووصفت الصحافة الفرنسية ذلك حينها بأنه “وضع غير مسبوق في فرنسا”.

وفي محاولة لإبراز براءتهما، نظّم شقيقا جورج عبد الله مؤتمرا صحافيا في لبنان أكدا فيه أنهما لم يغادرا البلاد منذ أكثر من عامين، وأظهرا شهادات تظهر خضوعهما لامتحانات جامعية خلال فترة الوقائع المنسوبة إليهما.

ثم وقع الهجوم على شارع رين، حيث “تعرّف” شاهد عيان على شقيق آخر لعبد الله: إميل (26 عاما)، الذي شاهده صحافي في وكالة فرانس برس في لبنان بعد نحو عشرين ساعة في منزل عائلة عبد الله في منطقة جبلية في شمال البلاد، عائدا من العمل مع حقيبة في يده.

وأكد جميع وجهاء القرية، بمن فيهم الكاهن، أن أحدا من الإخوة لم يغادر المنطقة منذ أشهر، لكنّ المحققين الفرنسيين بقوا مقتنعين بأنهم ربما استطاعوا القيام برحلة سريعة إلى فرنسا، على سبيل المثال على متن طائرة خاصة.

 “عدالة مسؤولة” 

وفي هذا السياق، بدأت يوم 23 شباط/فبراير 1987 محاكمة جورج عبدالله في قضية اغتيال الدبلوماسيَّين. وفي قاعة محكمة بدت أشبه بمعسكر محصّن خوفا من أي هجمات محتملة، دخل المتهم الذي كان في سن 35 عاما إلى قفص الاتهام مرتديا سترة عسكرية باللون الكاكي.

وورد في خبر وكالة فرانس برس آنذاك أنّ جورج عبدالله، “ذا القامة الطويلة والبشرة الداكنة، بأكتافه العريضة وأنفه المعقوف وخدوده الغائرة التي تغطيها لحية كثيفة، وحاجبيه الكثيفين والمتقاربين”، أعلن أمام المحكمة “أنا مقاتل عربي، ولست مجرما”. ثم قرأ نصا يهاجم “الإمبريالية الأميركية والصهيونية” وغادر قاعة المحكمة من دون أن يعود أبدا.

وبعد أن حُكم عليه في ليون عام 1986 بالسجن أربع سنوات بتهمة تزوير جوازات سفر، واجه في المحاكمة الجديدة عقوبة السجن مدى الحياة.

وقد فاجأ الاتهام الجميع. وطالب النائب العام المحكمة بتحقيق “عدالة مسؤولة” من خلال الأخذ في الاعتبار مصير الرهائن الفرنسيين الذين ما زالوا محتجزين في لبنان. وتوسل إليها “بقلب مثقل” ألا تحكم عليه بالسجن لأكثر من عشر سنوات.

لكن حُكم على عبد الله بالسجن مدى الحياة. وفي شوارع فرنسا، اختلطت ردود الفعل بين من شعر الفخر إزاء “نظام قضائي يستحق اسمه”، أو الخوف لدى فئة قال أفرادها إنهم “لن يذهبوا للتسوق في المتاجر الكبرى أيام السبت بعد الآن”.

هيلاري ولوران 

وبعد شهرين من المحاكمة، انهارت النظرية القائلة بأن الإخوة عبد الله هم مرتكبو موجة الهجمات، إثر توقيف الجناة الحقيقيين، وهم أفراد موالون لإيران. وحُكم على قائد هؤلاء فؤاد علي صالح، وهو تونسي متحالف مع حزب الله، بالسجن مدى الحياة في عام 1992، وهو لا يزال مسجونا في فرنسا.

ومذاك، أوقف الإعلام التداول باسم جورج جورج عبدالله الذي سقط تدريجا في النسيان.

وقال القاضي السابق المتخصص في قضايا مكافحة الإرهاب آلان مارسو في مذكراته عام 2022 “من الواضح الآن أن عبد الله أُدين جزئيا على أعمال لم يفعلها”.

ورغم أنه بات مؤهلا للحصول على إطلاق سراح منذ عام 1999، إلا أن طلباته العشرة للإفراج المشروط باءت بالفشل.

وفي كانون الثاني/يناير 2013، برز بصيص أمل لدى الساعين إلى إطلاقه: فللمرة الأولى، وافقت المحاكم على طلبه، شرط أن توقّع الحكومة على أمر ترحيله.

وعبّر محاميه جاك فيرجيس عن “رضاه”، بعد أن طلب من القضاء الفرنسي أن يتوقف عن “التصرف مثل العاهرة أمام القواد الأميركي”.

وفي اليوم التالي، وكما كشفت وثائق ويكيليكس، قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لنظيرها الفرنسي لوران فابيوس في اتصال هاتفي إنها تأمل أن تجد الحكومة “أساسا آخر للطعن بقانونية القرار”.

ولم يتم التوقيع على أمر الإبعاد، وبقي عبد الله في السجن، وذلك خلافا لأغلب “السجناء السياسيين” في حركة “أكسيون ديركت” (حركة “العمل المباشر” اليسارية المتطرفة)، أو سجناء سياسيين آخرين من جزيرة كورسيكا وإقليم الباسك، أو حتى أنيس نقاش الذين عفا عنه الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران كبادرة للتقرب من إيران، وفاروجان غاربيديان الذي أبعد من الأراضي الفرنسية في عام 2001.

اليوم، بات جورج عبد الله، بلحيته السوداء الكثة التي غزاها الشيب، في سن 73 عاما، ويعيش في زنزانة في سجن لانميزان (جنوب غرب)، فيها علم تشي غيفارا الأحمر وصحف ورسائل تراكمت خلال 40 عاما في السجن. وقد دأب على رفض تعويض الأطراف المدنية أو التخلي عن قناعاته.

ويبدو أن الجميع نسوا أمره، باستثناء اللجنة التي تدعمه… والولايات المتحدة، التي وجهت كتابا إلى المحاكم الفرنسية قبل أن تدرس طلبا جديدا للإفراج عنه في كانون الأول/ديسمبر، لإبداء “معارضتها الشديدة” لإطلاق سراحه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × 5 =