في غزة … جمجمة بين الشيخ والرضيع / شوقية عروق منصور

0 251

شوقية عروق منصور ( فلسطين ) – الأربعاء 9/4/2025 م …

أصبحت الكتابة كالنباتات التي تتسلق الجدران باحثة عن الضوء، عن شعاع شمس يخطف برودة الواقع، وحين نكتب عن غزة تتجمع أمامنا جميع الفصول ، من فصول الخوف إلى فصول الجوع إلى فصول طوابير الخبز إلى فصول الجثث الجماعية المكومة في الحفر تنتظر صاحب الجرافة الذي سيهيل عليها التراب لكي تدفن بصمت إلى فصول صراخ الأمهات وعويل النواح ولطم الآباء ، إلى فصول التشرد والدمار والبيوت والعمارات التي سويت بالأرض حتى أصبح التساؤل ، هل فعلاً كانت هناك بنايات وحياة ؟ أما أعجب الفصول التي تحاول غيوم الأحزان الابتعاد عنها هي فصول التفتيش عن بقايا الجثث ، يد من هنا أو رجل من هناك ، حيث تطايرت الجثث من شدة الانفجارات ، أما أصعبها حين تجد الأم أو أحد الرجال الذين يبحثون بين الأنقاض جمجمة ، إذا كانت الجمجمة كبيرة يبدأ التساؤل من الذي دفنوه دون رأس ..!! أما إذا كان الرأس صغيراً فتنتابك الحيرة لأن هناك عشرات الأطفال وجدوا دون رؤوس، وعلى كل أم أو أب يبحثان عن رأس طفلهم التمعن جيداً بالجمجمة حتى يتم دفنها مع بقايا الجسم .
نتنهد …قد يصل الخيال إلى الهذيان العبثي، لكن في مدن وطرق وحواري وأزقة وساحات ومدارس ومؤسسات وملاعب قطاع غزة تمشي الحضارة الإنسانية عارية وهي تفتش عن ترجمة جديدة لمعنى ” الحضارة الإنسانية ” فلا تجد إلا ضجراً سئم الحبر والصراخ والشعارات الملونة ، سئم الأقنعة والخطابات العنترية.
في غزة كل شيء يركض، سباق يومي مع الحياة ، لا تعرف بأي ثانية ، بأي لحظة خاطفة يكون موتك، رأيت الموت محاطاً بالدم والفزع والهلع ، مجموعة شباب كانوا يقفون أمام المواقد البدائية ، يقفون أمام الطناجر الكبيرة ، يحركون الطبخات البسيطة التي أعدت للمئات الذين ينتظرون في الطوابير ، فجأة لا نعرف كيف سقط الصاروخ، و كيف تبعثرت الطناجر ، ولكن كان على الأرض جثثاً متناثرة ، اختلطت الدماء مع بقايا الأطعمة التي سالت على الأرض .
ثمة علاقة بين الدم والطعام، لعبة تاريخية بدأت مع بداية الخليقة ، ولكن في غزة كانت العلاقة تفتش عن حضارة جديدة بعد أن وضع الانسان قوانينه وشعاراته في جيوب المؤسسات والمواثيق الدولية ، تفتش عن معنى حصار ” التجويع والتعطيش ” حصار الانفصام الإنساني الذي سقط في فخ ومصيدة حضارة العصر الحديث .
كلما زارتني صورة الشيخ الذي يبكي زاحفاً على الأرض لا يستطيع المشي ، بعد أن أجبروه على النزوح ، أصاب أنا بالعجز والاختناق ، صورة تؤكد أنه طالع من زمن حمل حكايات الشيوخ والمسنين ووضعهم في غابات متوحشة للتخلص منهم.
أما القهر والذعر والجوع وتلك المرأة المسنة التي تنادي أولادها التي لا تعلم أين هم ؟ هي لوحدها في ازدحام لا يلتفت إليها أحد ، كل واحد يبحث عن مكان يحميه من رعب الطائرات التي تلقي بصواريخها وقنابلها .
امرأة مسنة مشلولة ، تتنقل فوق التراب ، بعد أن جعلت كفوف يديها خطوات متحدية ، لقد تحولت يداها إلى سيقان ، إلى أرجل تعينها على المشي، في الازدحام هناك من يساعدها في حمل كيسها ، لكن الخطوات ، كفوف يديها تحفر فوق التراب تاريخاً صامتاً ، حيث تسقط الإنسانية المتعجرفة التي تقف أمام النصب التذكارية التي تتغنى بحياة كبار السن الذين يعيشون ” سنواتهم المرفهة ” .
اعترفت إحدى الأمهات أن الكلب نهش جثة رضيعها، لقد هجمت الأم على الكلب وطردته وأكدت وهي تبكي بحرقة ، لقد كفنت أبنها وأرادت أن تدفنه وهي تنتظر أحد الرجال ، لأن جميع أفراد عائلتها استشهدوا ، لا تعرف كيف تسلل الكلب إلى الخيمة وأخذ ينهش رضيعها ، لمجرد صورة النهش تجعلنا نفكر بمئات الأطفال الرضع الذين يعيشون في ظروف صعبة، فقدان الرعاية والعناية والعلاج والأدوية، فقدان الأجواء الصحية ، هذا إذا بقيت الأم على قيد الحياة .
في غزة تحولت تفاصيل الحياة الشخصية إلى خيام متنقلة وازدحام ونزوح وجوع وعطش وانتظار يغطس في التساؤل ؟ في غزة غابت حقيقة الاسرار الشخصية و الإنسانية والتفاصيل الخاصة الدقيقة التي تعجن مشاعر الانسان وتصبح عنواناً له، أضحت على الملأ ، على شاشات الهواتف والفضائيات وجميع سائل الاعلام ، مكشوفة على جميع الجهات لم يعد يقدمها للمجتمع صدقاً وحباً وعطاءً واهتماماً، بل تقف هذه المشاعر في حضرة الحياة المرتجفة ، المذعورة ، المطاردة ، تتدلى أعناقها على أعمدة الخوف والجوع .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تسعة + اثنا عشر =