مقال هام حول الإشتراكية والمُساواة الفِعْلِيّة وتحرّر النساء / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 11/3/2025 م …
مقدّمة
تدهور وضع الطبقة العاملة والكادحين والفُقراء عمومًا خلال فترة الرأسمالية النيوليبرالية، وكلما تدهور الوضع ازداد وضع النّساء سُوءًا وارتفع نصيبهن من الإستغلال والإضطهاد والفقر، لأنّهن ضحايا العنف في الفضاء الأُسَرِي وفي الفضاء العام ومواقع العمل، ولأن النساء العاملات في أسفل السّلم، أو في مهن مُرهقة مثل الرعاية الصحية والتعليم ورعاية الأطفال والمُسنّين والتنظيف والفنادق والمطاعم، كما تواجه النساء العاملات صعوبات في الترقية المهنية والوصول إلى المناصب القيادية، فضلا عن تَعرُّضِهِنّ للتّحرّش، خصوصًا في القطاع الخاص، وتُشير البيانات في جميع البلدان إلى ارتفاع نسبة النساء العاملات بدوام جزئي وبعقود هشّة وبرواتب منخفضة، وإلى ارتفاع معدّلات البطالة بين النّساء ومعدلات عملهن في الإقتصاد الموازي، بدون حقوق أو حماية قانونية، فضلا عن العمل المنزلي غير مدفوع الأجر وغير المُعترف به، رغم ضرورته وجَدْواه الإجتماعية، وقدّر تقرير لمنظمة الصحة العالمية تَعَرُّضَ ما لا يقل عن 30% من نساء العالم إلى العُنف الأُسَرِي الذي يعْسُرُ إثباته مما يرفع نسبة إفلات مُرتكبيه من العقاب…
وَعَتْ فئات قليلة من المجتمع خطورة ما تتعرض له النّساء من ظُلْم وقَهْر، ومن ضمنهم رُوّاد الفكر الإشتراكي الذين أسّسُوا، منذ البداية – قبل كارل ماركس وفريدريك إنغلس – أي الإشتراكيون الطّوباوِيُّون، مثل شارل فورييه وهنري دي سان سيمون وروبرت أوين، تصورهم للمجتمع على المُساواة التّامة بين البشر، على أنقاض المجتمع الطبقي القائم، وتعود فكرة تخصيص يومٍ ( تقرّر أن يكون الثامن من آذار/مارس) للإحتفاء بالنّساء وللدّفاع عن حُقُوقِهِنّ إلى نضالات النّساء العاملات، منذ منتصف القرن التّاسع عشر، وخصوصًا منذ سنة 1908، ونضال العاملات الأمريكيات يوم 29 شباط/فبراير 1909، من أجل تحسين ظروف العمل والرواتب، بدعم من النّساء الإشتراكيات اللاتي نَظّمْن مظاهرات ضخمة واجتماعات في أنحاء الولايات المتحدة، مطالبات بالحقوق السياسية للعاملات، وواجهت السّلطة المتظاهرات بالقمع والطّرد من العمل والإغتيال، فكان ذلك اليوم بمثابة “يوم المرأة” الأول، واقترحت المناضلة والقائدة الشيوعية الألمانية كلارا زيتكين ( 1857 – 1933) على الأُمَمِيّة الشيوعية، سنة 1910 إحياء هذا اليوم من خلال الإضرابات والمظاهرات والإعتصامات ومجموعة من الفعاليات النّضالية، لذا لم يكن الثامن من آذار/مارس يوم بروتوكولات ومهرجانات واحتفالات وإنما يوم نضال من أجل نَيْل أو تعزيز حُقُوق النّساء، نصف المُجتمع، وبعد أثر من قَرْن من إقرار هذا اليوم، حصلت النساء على بعض المكاسب لكن لا تزال النساء تُعانين من المَيْز ومن الإستغلال والإضطهاد الإضافِيّيْن فضلا عن الإستغلال والقمع والإضطهاد الذي تتقاسمه مع الرّجال، ومن مصلحة الطبقة العاملة والكادحين والفُقراء توحيد النّضالات من أجل تحرّر المجتمع كَكُلّ…
بين المُساواة القانونية والمُساواة الفِعْلِية
ناضلت نساء أوروبا، وبريطانيا بشكل خاص، منذ 1840 من أجل المُساواة، وشاركت نساء أوروبا في موجة ثورات 1848 وشاركت نساء الأحياء الشّعبية في باريس “كومونة باريس” ( آذار/مارس – أيار/مايو 1871) دفاعًا عن أول حكومة للعمال وشاركت نساء إيرلندا، منذ 1860، في نشاط الجمهوريين – السياسي والعسكري – ضد الإستعمار البريطاني، ويبدو إن ماركس وإنغلس كانا يُتابعان هذه النضالات ويتفاعلان معها، وكانا على اتصال مستمر مع النسويات الجذريات في إنغلترا، مما ساعدهما في تطوير أفكارهما وتحليلاتهما، وكتب إنغلس العديد من المقالات – بداية من 1840 – في الصحيفة الإنغليزية “ذا نيو مورال وورلد”، الناطقة باسم النسويات المناهضات للرأسمالية، وأصَر الثُّنائي ماركس وإنغلس على المُشاركة الفعلية للنساء في المنظمات التي ساهما في إنشائها بين سنتَيْ 1840 و 1850،فيما عارض العديد منالإشتراكيين الفرنسيين والنقابيين البريطانيين مُشاركة وعُضْوِيّةَ النساء الإشتراكيات في مؤتمر المنظمة الأممية الأولى ( قاعة سانت مارتن بلندن – 1864)، وكتب كارل ماركس – سنة 1866 –: “إن التغييرات الاجتماعية العظيمة مستحيلة من دون ثورة النساء، ويمكن قياس التقدم أو التّخلّف الاجتماعي من خلال مكانة النساء في المجتمع…” وعبّر عن سروره ب”التقدم الكبير الذي ظهر أثناء انعقاد المؤتمر الأخير لنقابة العمال الأميركية حيث تتم معاملة العاملات بمساواة كاملة مع رفاقهن الرجال…”
تمكّنت الأُممية الإشتراكية الأولى من اجتذاب النساء المناضلات في ذلك الوقت، مثل عاملة الخياطة، الإشتراكية الفرنسية جان ديروان (jeanne deroin 1805 – 1894) التي كان لها دور بارز في ثورة 1848 بباريس، وساهمت في تنظيم صفوف نساء الطبقة العاملة للمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية وساهمت في إصدار وبيع مجلة صوت النساء في شوارع باريس، وكانت جان ديروان أول امرأة تترشح إلى البرلمان الفرنسي ( نيسان/أبريل 1849 ) وعارضها وسخر منها الاشتراكي الفرنسي بيير جوزيف برودون ( 1809 – 1865 ) وبعد هزيمة ثورة 1848، اعتقلت ديروان ورفيقتها بولين رولان اللّتَيْن كتبتا من السجن، سنة 1851، رسالة إلى مؤتنمر اتفاقية حقوق المرأة الأميركية: “أخواتنا في أميركا! إن أخواتكن الاشتراكيات في فرنسا متحدات معكن في الدفاع عن حق المرأة بالمساواة المدنية والسياسية، ونحن مقتنعات بأنه لا يمكن تحقيق المساواة في الحقوق المدنية والإجتماعية والسياسية سوى من خلال المنظمات القائمة على التضامن، وعلى اتحاد جميع اتجاهات الطبقات العاملة من كل جنس…” ولجأت جان ديروان إلى لندن بعد إطلاق سراحها (آب/أغسطس 1852 ) حيث انضمت إلى المنظمة الأممية الأولى، خلال انعقاد اجتماع المجلس العام ( 3 تشرين الأول/أكتوبر 1865 ) وأسّست، سنة 1866 منظمة نسوية اشتراكية في باريس، ضمت لويز ميشال وبول مينك والكاتبة أندريه ليو، ثم انتخبت لعضوية العصبة الاشتراكية يوم 2 آب/أغسطس 1886، ولعبت إلى جانب نساء الأممية الأولى دوراً أساسياً في التأكيد على المساواة لإنجاح نضالات الطبقة العاملة…
اقترح كارل ماركس، خلال مؤتمر 1871 للأممية الإشتراكية استخلاص الدّروس من تجربة كوميونة باريس، ودعا إلى تشكيل فروع للعاملات لتيسير انضمام ومشاركة النساء في النشاط الإشتراكي، وكتب سنة 1880 مقدمة لبرنامج الحزب الاشتراكي الفرنسي الجديد: “… أن تحرر الطبقة المنتجة هو تحرر كل البشر دون تمييز على أساس جندري أو عرقي”، ثم أكّد مع رفيقه إنغلس ” يجب أن تَجِدَ النساء الأكثر نضالية مكاناً سياسياً لهن في الأممية الأولى والأحزاب الاشتراكية الأخرى، خصوصًا بعد مُعاينة قيمة النضال النسائي داخل الانتفاضة العظيمة لكوميونة باريس”…
بعد انهيار الأممية الأولى، حلت مكانها الأممية الثانية سنة 1889، وتمكّن الماركسيون من فَرْض تحقيق المساواة للنساء، وأقر المؤتمر التأسيسي للأممية الثانية، المنعقد في باريس: “… من واجب العمال قبول ومعاملة العاملات على قدم المساواة في صفوفهم وعلى أساس العمل المتساوي والأجر المتساوي للعمال والعاملات بدون تمييز”، ونظّم القسم النسائي في الأممية الثانية، ومقره بألمانيا، بداية من 1891، مؤتمراته الخاصة، ونظم حملات التصويت وأقام الاحتفالات بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وكانت كلارا زيتكين ( 1857- 1933)، زعيمة القسم النسائي في الأممية، وحررت جريدة المساواة، التي استهدفت العاملات ووصل عدد النسخ الموزعة منها إلى 70 ألف نسخة بحلول العام 1906، ونشطت النساء الإشتراكيات بكثافة ضد الحرب العالمية الأولى، ضمن الحملات الثورية التي أفضت إلى الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 وإلى الثورة الألمانية ( 1910 ) التي تم إغراق مناضليها في دمائهم…
نشر فريدريك إنغلس كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة سنة 1884، بعد وفاة كارل ماركس ( 1883) وطَوّر مفهوم العائلة وبيّن إن اضطهاد النساء ناتج عن تنظيم المجتمعات لإنتاج الحياة وإعادة إنتاجها، وإن أن اضطهاد النساء هو نتاج المجتمع، وليس نتاج الطبيعة، وصدر الكتاب في ثلاث طبعات ألمانية وتُرْجِمَ إلى 6 لغات أوروبية، ودافعت عنه إليانور ابنة ماركس وإدوارد أفيلينغ كتيباً، مما زاد من شعبية الكتاب رغم ضخامته، واستمر اهتمام إنغلس بموضوع المساواة بين النساء والرجال كشرط أساسي لإنجاز الإشتراكية وناقش هذه المواضيع في مراسلاته مع نساء اشتراكيات من ألمانيا ( مينا كاوتسكي، والدة كارل كاوتسكي) وروسيا وبريطانيا ( مارغريت هاركينس ) والولايات المتحدة (فلورانس كيلي ) وغيرهن…
مكانة المرأة في الإشتراكية – بين النّظرية والتّطبيق
لم يُفرد كارل ماركس في كتاب “رأس المال” حيّزًا خاصًّا للعمل المجاني للنساء كشكل من استغلال واضطهاد النّساء، لكن كانت قضية تحرّر النساء حاضرة ، قبل كتابة “رأس المال”، في النّقاشات التّمهيدية لمؤتمر الإشتراكية الدّولية سنة 1863 التي كان كُتَيّب البيان الشّيوعي من أهم أدوات هذا النقاش التمهيدي، واعتبر ماركس وإنغلز آنذاك إن اضطهاد النّساء من قبل الطبقة الحاكمة، يجعلهن مواطنات من درجة ثانية حتى داخل الأُسْرة: “لا يرى البورجوازي زوجته إلا مجرد أداة إنتاج … ولا يساوره أي ظن أن الهدف الحقيقي المقصود (من قِبَل الشيوعيين) هو إلغاء وضع النساء كمجرد أدوات إنتاج“، وأبْدَى فريدريك إنغلس اهتمامًا كبيرًا لاضطهاد المرأة واستغلالها وعدم المُساواة بين المرأة والرّجل، في كتاب “أصل العائلة والمِلْكِيّة الخاصّة والدّولة ” ( 1884) بعد وفاة كارل ماركس، وتمثّلت جرأة إنغلس في نقده اللاذع لتصرفات أقرانه من الرّجال: ” أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضاً وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، وتحوّلت إلى عبدة للرغبات الجنسية لزوجها ومجرد أداة لإنتاج الأطفال … وبينما تتم إدانة خيانة المرأة، يتم تخفيف حدّتها أو تمجيدها عند الرجل…”، واعتَبَرَ رُوّاد الفكر الإشتراكي إن قضية تحرير المرأة ليست شأنًا خاصًّا بالنساء بل شأن كافة أفراد المجتمع، وتجدر الإشارة إلى نَشْر كتاب فريدريك إنغلس ( أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة )، في إنغلترا في حقبة العَهْد الفِكْتُوري.
بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا، تغيّرت التشريعات لِتُقِرَّ بين سنتَيْ 1917 و 1920، حق التصويت والترشح، وإنهاء سلطة رب الأسرة، وإقرار الزواج المدني، وتبسيط الطلاق، والمساواة في الحقوق بين الأطفال المولودين في إطار الزواج أو خارجه، وحظر عمل المرأة ليلا، والأجر المتساوي، وإجازة الأمومة لمدة 16 أسبوعا للعاملات و 12 أسبوعا للموظفات، والإجهاض المجاني، وتجاوز ما كانت تُطالب به النسويات اللاّتي يناضلن في الدّول الرأسمالية التي تدّعي الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة…
بدأت التّغييرات التي حقّقتها ثورة 1917 بإجراءات تشريعية، بإشراف مجلس مفوضي الشعب وأول حكومة في العالم تَضُمُّ امرأة ( ألكسندرا كولونتاي)، فتم إقرار الإجراءات التي ذُكِرت في فقرة سابقة، غير إن لينين أعلن أواخر سنة 1918 “إن القوانين ليست كافية، وهناك مسافة بين المساواة القانونية والمساواة الحقيقية في الحياة اليومية…” ، وأضاف سنة 1919 : ” إن القوانين لم تُحَرّر المرأة من عُبُودية العمل المنزلي والمطبخ ورعاية الأطفال…”، وبدأ النّظام البلشفي الفقير والمُحاصَر من قِبَل جُيُوش الدّول الرأسمالية، في تغيير نمط الحياة – وبالأخص حياة النّساء العاملات – عبر إنشاء مجمعات مساكن تضُمُّ هياكل جماعية من مطابخ ومقاصف ومغاسل ودور حضانة ورياض أطفال ودور لاستقبال الأمهات قبل الولادة وبعدها، وتوفير الظُّرُوف التي تُمكّن من تَوْسيع مُشاركة النّساء في العمل السياسي والثقافي والتّرفيهي…
دُروس الثورة البلشفية
خصّصت الحكومة الثورية الروسية موارد هامّة لإنشاء مطاعم جماعية ودور حضانة ومغاسل لتحرير النساء من العائلة وتمكينها من لعب دور كامل في الحياة العامة، وفق الثورية الروسية إينيسا أرماند التي كتبت سنة 1919: “كل مصالح العاملات، وكل شروط تحررهن مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتصار البروليتاريا، لا يمكن تصورها من دونها، ولكن هذا النصر لا يمكن تخيله من دون مشاركتهن ومن دون نضالهن”، كما خصصت الثورة موارد كبيرة للتوعية وتثقيف النساء من العمال والفلاحين، من خلال القسم النسائي.
أدْرَك قادة الثورة الروسية سنة 1917 الدور المركزي للأسرة بوصفها جذر اضطهاد المرأة، والصعوبات التي ينطوي عليها تحقيق المساواة بين الجنسين داخل الأسرة كشرط مسبق لتحرير المرأة في المجتمع ككل، وتم إدماج النضال ضد الاضطهاد كجزء لا يتجزأ من النضال من أجل الاشتراكية، وفق لينين الذي أعلن: يتطلب الوعي الثوري أن يكون العمال على استعداد للدفاع عن مصالح كل المضطهدين في المجتمع، كجزء من النضال من أجل الاشتراكية (…) فلا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعيًا سياسيًّا حقيقيًّا دون تأهيل العمال لإدراك جميع قضايا الاستبداد والقهر والعنف والاعتداء، ومعالجة هذه القضايا من وجهة نظر الإشتراكية الديمقراطية حَصْريًّا”
استنتج لينين، من خلال المناقشات العديدة ومن خلال المشاكل التي اعترضت الثورة سنة 1917، إن الدفاع عن حقوق جميع المضطهدين وضد كافة أشكال القمع والإضطهاد، ضروري لمقاومة الظُّلْم المبني على أساس الجنس أو اللّون أو غير ذلك، وهو ضروري كذلك لإعداد الطبقة العاملة لإدارة المجتمع لمصلحة المُجتمع ككل ولمصلحة الإنسانية، كبديل للنظام الرّأسمالي المبني على استغلال واضطهاد الأكثرية لصالح الأقَلِّيّة، كما استنتجت قيادة الحزب البلشفي إن الثورةً الإشتراكية لا تحرر المرأة تلقائياً، بل يتم تحرير المرأة كما الرّجل، ضمن مسار ثوري يتضمن مكافحة الإستغلال والإضطهاد، ومُقاوَمةَ رواسب الثقافة الرّجعية داخل الطبقة العاملة وداخل الحزب والمُجتمع والأُسْرة…
تمكّنت الثورة البلشفية من إنجاز خطوات على طريق تحرر النساء العاملات والقرويات، رغم الصعوبات المرتبطة بالتخلف والأُمِّيّة والتّقاليد، والحصار الذي فرضته القوى الرأسمالية والتخريب الدّاخلي، وكانت تلك الخطوات إحدى مظاهر عُمْق الثورة الإجتماعية التي تجذّرت اثناء الحرب العالمية الثانية لما ذهب الرجال إلى الجبهة لمقاومة الإحتلال الألماني، وتولّت النساء عملية الإنتاج في المصانع وفي المزارع فضلا عن رعاية الأطفال والمُسنّين…
أنشأت اللجنة المركزية للحزب البلشفي، سنة 1918، قسمًا نسائيا للعاملات والفلاحات بإشراف بعض النّساء القياديات البلشفيات، مثل أنيسا أرماند (Inessa Fyodorovna Armand 1874 – 1920 أول رئيسة لإدارة شؤون المرأة ورئيسة أول مؤتمر عالمي للنساء الشيوعيات) وألكسندرا كولونتاي ( 1872 – 1952 ) وشاركت نحو 1100 امرأة منتخبة من قِبَل النّساء في “مؤتمر عموم روسيا للعاملات والفلاحات” وأشْرَفت مندوبات المؤتمر على حملات الدعاية لمكافحة إدمان الكحول والعنف المنزلي، ومن أجل الوقاية من الأمراض والأوبِئة وأشرف القسم النّسائي بالحزب البلشفي على إصدار صحيفة “العاملة الشيوعية” التي قامت بدور التثقيف السياسي، وعلى دورات مَحْو الأُمِّيّة وتدريب النّساء على إدارة المؤسسات الجماعية (رياض الأطفال، ودور الحضانة والمقاصف)، وتم تدريب وتأهيل حوالي عشرة ملايين امرأة بين سنتَيْ 1919 و 1930، وفق تقديرات ناديجدا كروبسكايا ( 1869 – 1939) زوجة لينين…
تنوعت المشاكل والعراقيل، بفعل اتساع روسيا ثم الإتحاد السوفييتي، مما يستدعي تنوُّع الحُلُول، حيث بقي تأثير الدّين ( أو تأويل الدّين) وتأثير الفكر الإقطاعي والرّجعي مُهيمنًا، خصوصًا في جمهوريات الشرق السوفيتية، وحاربت القوى الرّجعية المحلية القوانين التي منعت تعدد الزوجات والمهر، وفي أوزبكستان قتلت الأُسَر أكثر من 200 امرأة سنة 1928، بسبب محاولتهن التّحرّر وممارسة حقوقهن وحضور اجتماع اللجنة الحزبية للنساء العاملات أو موتمر المرأة الشيوعية الشّرقية، واضطرت الدّولة إلى اتخاذ إجراءات زَجْرِية ضدّ “حُرّاس التّقاليد” الذين يمنعون النساء الريفيات من الدّراسة ومن اقتناء وسائل منع الحمل، ومن العمل خارج البيت والمزرعة العائلية، ناهيك عن المشاركة في النشاط النقابي والإجتماعي والسياسي والثقافي…
السّياق التّاريخي:
تندرج أَهَمِّيّة الإجراءات التي أَقَرّتها السّلطات السوفييتية منذ السّنوات الأولى التي تَلَت الثورة ضمن مناخ سياسي واجتماعي مَحلِّي ودولي جعل نجاح الثورة الإشتراكية في في بلد غير مُتطور صناعيا أمْرًا مُفاجئًا للرأسمالية وللثّوريين في العالم، إذ كانت الأمية سائدة وخصوصًا في الأرياف وبين النّساء، ولم تتطور مشاركة المرأة في العمل المأجور سوى أثناء الحرب العالمية الأولى حيث ذهب الرجال القادرون على العمل إلى الحرب، واقتحمت النّساء المتعلّمات مجال العمل الاجتماعي والنقل وخدمات الدولة، ولاقت السّلطات الثورية صعوبات واجهت بناء الإشتراكية في الإمبراطورية القَيْصَرِيّة التي تفتقر مناطق واسعة منها إلى التّيّار الكهربائي ( من ذلك إطلاق لينين برنامج تعميم الكهرباء كأوْلَوِيّة وكضرورة لبناء الإشتراكية) وكانت نسبة العمل المأجور منخفضة جدًّا سنة 1917، مُقارنة بألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، فقد كانت نسبة العمل المأجور بين السكان العاملين لا تتجاوز حوالي 20% من الرجال والنساء، ولا تتجاوز مشاركة المرأة في القوى العاملة 31%، ومع ذلك حققت السّلطات المنبثقة عن الثورة نتائج مُذهلة خلال سنوات قليلة، بخصوص تشريعات العمل والحقوق الاجتماعية والسياسية ومكانة النّساء وارتفاع مشاركتهن في القوى العاملة من 31% في نهاية سنة 1917 إلى 50% سنة 1925، وعلى سبيل المقارنة فإن هذه النّسبة لمشاركة نساء بلدان الإتحاد الأوروبي في القوى العاملة تبلغ 63,5% سنة 2022، وفق بيانات الإتحاد الأوروبي، ورغم ارتفاع مؤهّلات النساء، لا يزال مُتوسط رواتب النساء يقل عن نظرائهن من الرجال بنسبة تتراوح بين 16% و 25% في مختلف البلدان الأعضاء بالإتحاد الأوروبي ( مُؤشّر المرأة في العمل 2017 )
خاتمة:
إن دراسة التجارب التاريخية ( السّلبية والإيجابية) ضرورية لاستخلاص الدّروس، ولا يمكن نقل تجربة بلد أو منطقة إلى بلد آخر، دون دراسة خصوصيات كل مجتمع ودرجة تطور قُوى الإنتاج وما إلى ذلك، ولئن كانت مسألة عدم المُساواة بين المرأة والرجل، وبين سكان الأرياف وسكان المدن، وبين مختلف المناطق والأقاليم لا تزال قائمة فإن خُصُوصية نضال النّساء تظَلّ مرتبطة بضرورة اكتساب الوعي بين الرجال والنساء لمكافحة عدم المُساواة والنضال من أجل حُقوق النساء الفقيرات والنساء العاملات في المصنع أو في المزرعة وحق المرأة في اختيار شريك حياتها وحقها في التعليم والعمل والترفيه وتقاسم مهام الأُسرة بين الرّجل والمرأة، ويندرج هذا النضال ضمن مكافحة عدم المساواة بشكل عام، وضمن النضال من أجل تلبية الإحتياجات الأساسية للمواطنين وللشعوب في ظل هيمنة الإمبريالية والمؤسسات المالية الدّولية على مقدرات بلدان “الأطراف” وفَرْض خفض الإنفاق الحكومي على الصحة والتعليم والنقل العمومي والسّكن والمرافق والخدمات الضّرُورية لرفاهة الإنسان.
إن النضال من أجل تغيير العلاقات الاجتماعية السائدة، ومن ضمنها العلاقات بين الجنسين، ومن أجل تعزيز مُشاركة المرأة في اتخاذ القرار والتخطيط والتنفيذ والتّقْيِيم، هو نضال حضاري، مَشْرُوع وضروري من أجل العدالة ومن أجل مجتمع بديل يتميز بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج المادّي والثقافي وتعميم الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليم والعُلوم والمعرفة والثقافة…