روايات النساء حول هزيمة 1967: عناصر القوة / د. فيحاء عبد الهادي

تحلّ هذا العام الذكرى الثامنة والخمسون لهزيمة الخامس من حزيران/يونية، عام 1967، في ظلّ الإبادة الجماعية على غزة، وفي ظل التطهير العرقي، والاعتداءات، والمجازر، التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري، منذ عام 1948، والتي تكثفت على امتداد أرض فلسطين، منذ تشرين الأول/أكتوبر عام 2023.
وكما تجدّدت وتواصلت الاعتداءات والنكبات وتكثفت؛ تجدَّدت التساؤلات وتكثفت:
إلى متى؟ وين نروح؟ ما العمل؟
أسئلة موجعة لا بد منها، تتردّد إثر تجدّد كل عدوان وكل مجزرة.
أسئلة تقف عند حدود السؤال حينًا، وعند محاولة الإجابة حينًا،
وفي كل مرّة يكون هناك استحضار للماضي الجميل، والأسف عليه، ووقفة على الحاضر ومصائبه، وويلاته؛ ولكن قلَّما كان هناك وقفة نقدية للماضي، والحاضر، يصاحبها نظرة استشرافية للمستقبل، ذات بعد استراتيجي.
وأثناء وقوع الأحداث الدامية، والمصائب، والكوارث غير المحتملة؛ غالبًا ما يطغى الوصف العاطفي للواقع المؤلم، والمشكلات التي يفرزها، على الوقفة التحليلية النقدية.
*****
ما الذي تفيده دراسة أسباب الهزائم دراسة نقدية؟ وهل تفيد الذاكرة بهذا السياق على وجه التحديد؟
هل تجدد الألم فحسب حين تذكِّر بالماضي الجميل؟ أم تذكِّر وتلهم؛ من أجل تنحية العوامل السلبية التي ساهمت في الهزيمة، وتأكيد العوامل الإيجابية التي يمكن أن تحقق الصمود والنصر؟
*****
كان استلهام عناصر القوة الفلسطينية الشعبية الفاعلة، وفي القلب منها أدوار النساء – الشراكة، والتكافل الاجتماعي، والوحدة الداخلية أمام الهدف المشترك، والحاضنة الشعبية، والرؤية النقدية -، عبر المحطات الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، منذ عام 1948؛ أحد أهم العوامل الإيجابية التي ساهمت في تماسك الشعب الفلسطيني، وصموده حتى الآن، في وجه العدوان إثر العدوان، والمجزرة تلو المجزرة، والتطهير العرقي، ومخطط الإبادة الجماعية، الذي يتواصل تنفيذه على شعبنا الفلسطيني، منذ أكثر من عام ونصف، والذي صاحبه دمار غير مسبوق في غزة، اعتبر “أشدّ حملات التدمير في التاريخ الحديث”.
*****
حين سجلت “حليمة حسن قطناني” شهادتها، عمّا حدث معها ومع شعبها عام 1967؛ لم تنطلق من هذا التاريخ؛ بل ربطت منذ بداية روايتها بين النكبة الأولى عام 1948، وهزيمة عام 1967، في فهم عميق لارتباط حلقات النكبات، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. أبرزت عوامل القوة دون أن تهمل عوامل الضعف.
روت عن تهجيرها من بلدها يازور، تحت وابل نيران المصفّحات، والقنابل، بعد هجوم ليليّ يوميّ على البلدة استمرّ سبعة شهور كاملة “كُلّ ليلة كُلّ ليلة وهُمِّه يهاجموا فينا”، وبعد رفض الوالد المتكرّر الخروج من البيت، حتى ذبحت عائلة كاملة من خمس وثلاثين فردًا، من عائلة ذيب العبد”؛ مما جعله يقرر النجاة مع عائلته المكوّنة من أحد عشر فردًا، ويطلب منهم حمل أمتعة قليلة، ليتوجهوا إلى قرية زكريا، في تخطيط للعودة بعد خمسة عشر يومًا:
“بكى يكول أبوي: 15 يوم بتيجي العرب ع اليهود، بِدُبّوهم في البحر، وإحنا بنرجع. 15 يوم، سحبتها كم سنة؟”.
ومن زكريا إلى الفالوجة، وعودة إلى زكريا، والتهجير منها بعد الهجوم عليها، حتى الوصول عبر الجبال إلى الخليل، ثم التوجه إلى مخيم عسكر/نابلس، الذي تقيم فيه حتى الآن.
وكان مما بقي محفورًا في ذاكرة حليمة؛ مشاركتها مع نساء ورجال يازور، في الدفاع عن القرية، وصدّ العدوان، مما يؤرِّخ لدور فاعل وملهم للمرأة الفلسطينية عام 1948.
تحدّثت عن جرأتها البالغة في صغرها، حيث كانت تكشف المنطقة للثوار، وتلبي ما يطلبوه منها، دون خوف:
“بَكوا يطلعوا يقاوموا واللاّ! واليهود بَكت تضرب علينا كنابل مورتر، واحد من بلدنا، كَلّي: تعالي، خلّينا نطلع نشوف قَدّيش فيه جيش! نزلنا ع الواد، اللي بينّا وبين سَلَمة. طلعت وكُلتِلُّه: والله يا عمي ما في إلاّ وَحدِة، كاعدة بتسحب بِهالجرار وبتعطي الرشّاش، وهو اللي بِطُّخّ، كال: هالكيت بتطُخّ علينا. طَقّها، سَكَت الطَّخ، راحت، ظلينا شوي زغيرة، كَلّي: كومي تَ نشوف؛ لَكينا الصندوق ملان فَشَك، حَطّينا الفشكات في الصندوق وسَكّرناه، وحمَّلني الصندوق ع راسي، هو حمل البارودة، وهَودنا، والله فيه واحد من دار البسيوني لَمّا شافني حاملة الصندوق حملني على كتافه، ع مِنُّه راحت، سَكَت الطَّخ عنهم، وأهل هالبلد يكولوا: راحت بنت الشيخ حسن. وصّلناهم. بَكينا ندافع عن حالنا”.
*****
لم ترحل حليمة مع عائلتها عام 1967، كما حدث عام 1948، رغم إطلاق الرصاص على أهل المخيم، وضرب واعتقال عدد كبير من شبابهم. دخل الجيش الإسرائيلي المخيم عن طريق طولكرم، وعن طريق البادان، وعن طريق المسلخ: “ما رضناش نطلع. إحنا من اللي ظلّوا هينا ما طلعناش”.
ساهمت مع النساء الفلسطينيات في الاقتصاد، عبر المشاركة في الأعمال الزراعية، وفي الحصاد بشكل خاص: “ما اشتغلنا في الدور، أروح أحصد مع الناس، أجيب كَمحاتي، أجيب طحيناتي، هيك بَكت الناس”.
*****
من بين عوامل القوة، التي ساهمت في صمود الناس بعد تهجيرهم عام 1948، وتهجيرهم عام 1967؛ التكافل بين الناس. هذا ما تحدثت عنه حليمة، بحسها النقدي، في مقارنة بين الحاضر والماضي:
“بَكينا نكوم في بعضنا، اللي يتجوّز البلد كلها تِكَفلُه، اللي يمرض كُلّ البلد اتطُلّ عليه، ما حَدا يتأخر عن حَدا، كُلّ البلد كإنها عرق واحد. بلد بَكت منيحة. بَسّ بَسّ في هالبلاد هَذِه تفسَّخت الناس عن بعضها، وأبعدوا. اليوم والله ما حَدا صار لَحَدا”.