تشرذم اليسار الأردني: أحزاب صغيرة، خلافات تافهة، ومسؤولية ثقيلة على عاتق الشيوعيين بالذات / عاطف زيد الكيلاني

0

عاطف زيد الكيلاني ( الأردن ) – الأربعاء 2/7/2025 م …

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انفتاح الحياة السياسية في الأردن، ما تزال قوى اليسار الأردني تواصل انحدارها التنظيمي والشعبي، وتعيش أسوأ مراحلها من التشرذم والانقسام الداخلي، دون أن تبدي أي قدرة حقيقية على الخروج من أزماتها البنيوية. فما بين تعدد الأحزاب ذات المرجعية اليسارية، والتخبط الأيديولوجي، وتضخم الذوات القيادية، والتمترس خلف خلافات تكاد تبدو في كثير من الأحيان تافهة أو ثانوية، يبدو اليسار الأردني كأنه يعيش في عزلة مقصودة عن الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد.

مشهد متشظٍّ ومفكك

عدد أحزاب اليسار الأردني يفوق تأثيرها بمراحل.

فمن الحزب الشيوعي الأردني، إلى حزب الشعب الديمقراطي (حشد)، مرورا بحزب الوحدة الشعبية، والحزب  الديمقراطي الإجتماعي، والحزب المدني الديمقراطي، وغيرها من تجمعات ومنابر ومنتديات وملتقيات، وما شئتم من مسمّيات متعددة … وصولًا إلى محاولات فاشلة لتأسيس “تحالفات يسارية” لم تعمر طويلًا.

كل هذه التشكيلات تدّعي تمثيلها لذات القاعدة الاجتماعية والطبقية، ولكنها تفشل حتى في الجلوس إلى طاولة واحدة لصياغة رؤية سياسية مشتركة، أو الاتفاق على برنامج حد أدنى يوحّدها في مواجهة التحديات الوطنية والاجتماعية.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن لقوى تدّعي تمثيل العمال والفقراء والمهمّشين أن تكون عاجزة حتى عن تمثيل ذاتها في مشهد سياسي متماسك؟

وكيف يمكن لهذه الفصائل أن تقنع الجماهير بأنها البديل، وهي نفسها غارقة في نزاعات صغيرة، وموغلة في الحسابات الشخصية والتاريخية التي لم تعد تعني أحدًا خارج جدران مكاتبها الحزبية الضيقة؟

خلافات بلا مضمون

ليست الخلافات بين أحزاب اليسار الأردني خلافات جوهرية في معظم الأحيان.

فعلى المستوى النظري، تتشارك هذه الأحزاب في ذات القناعات حول أهمية العدالة الاجتماعية، ورفض التبعية الاقتصادية، ومناهضة سياسات الليبرالية الجديدة.

ومع ذلك، نراها تفشل مرة تلو الأخرى في التوافق على آلية تنسيق، أو مشروع تحالفي مستدام، أو حتى موقف سياسي مشترك من القضايا الوطنية الكبرى.

تعود هذه الخلافات في جوهرها إلى أسباب شخصية، وتاريخية، وتنظيمية أكثر من كونها سياسية.

ففي كثير من الأحيان، يدور الخلاف حول من يقود التحالف، أو من يُمنح مساحة أكبر للظهور الإعلامي، أو من يتحكم في صياغة البيان، وليس حول البرنامج السياسي أو الموقف من الخصخصة، أو القوانين القمعية، أو العلاقة مع الحكومات.

الشيوعيون: مسؤولية مضاعفة

من بين مختلف أطياف اليسار الأردني، يتحمّل الحزب الشيوعي الأردني، بصفته الأقدم والأعرق، القسط الأكبر من المسؤولية في ما آل إليه حال اليسار.

فالحزب الذي امتلك في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم قاعدة شعبية واسعة، ونفوذًا نقابيًا وثقافيًا لا يستهان به، بات اليوم يعاني من شيخوخة تنظيمية، وعزلة فكرية، وابتعاد شبه كامل عن قواعده

الطبيعية.

لقد اختار الحزب منذ التسعينات أن ينكفئ إلى صراعاته الداخلية، وأن يدير ظهره لتحولات المجتمع الأردني، فغاب عن الحراكات الاجتماعية الحقيقية، وتراجع دوره في النقابات، وانحسر وجوده في الجامعات.

كما لم ينجح الحزب في تجديد خطابه أو كوادره، ولا في قراءة التحولات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الأردن والمنطقة.

وما يزيد من وطأة هذا الواقع هو أن الحزب لم يكتفِ بالانكفاء، بل ساهم في تغذية الانقسامات داخل الطيف اليساري، عبر تبنّي مواقف إقصائية، ورفضه المتكرر للدخول في تحالفات جادة مع قوى يسارية أخرى، إلا بشروط يراها الآخرون تعجيزية أو متعالية.

الحاجة إلى “برنامج حدّ أدنى”

إن ما تحتاجه قوى اليسار الأردني اليوم ليس اندماجًا شكليًا، ولا لقاءات موسمية تصدر عنها بيانات إنشائية، بل رؤية سياسية واقعية، مبنية على فهم حقيقي لتحولات المجتمع الأردني، ومبنية على قاعدة برنامج حدّ أدنى يُجمع عليه الجميع.

هذا البرنامج يمكن أن ينطلق من أولويات واضحة:

1 – الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين

2 – رفض الخصخصة وبيع المؤسسات الوطنية

3 – المطالبة بتعديل قوانين الانتخاب والأحزاب والحريات العامة

4 – الوقوف في وجه الفساد

5 – رفض التطبيع مع العدوّ الصهيوني.

هذه ليست نقاط خلافية بين قوى اليسار، بل هي أرضية مشتركة يمكن البناء عليها.

أما إذا استمر اليسار في اجترار خلافاته القديمة، والانغلاق على ذاته، فإنه سيواصل التآكل، حتى يختفي من الوعي العام، إن لم يكن قد بدأ بذلك بالفعل.

المجتمع بحاجة إلى يسار قوي

في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية، وازدياد نسب الفقر والبطالة، وتراجع الخدمات العامة، واحتدام التفاوت الطبقي، تبدو الحاجة إلى تيار يساري قوي ومتماسك في الأردن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

ولكن هذا التيار لن يتبلور ما لم تُراجع القوى اليسارية نفسها بعمق، وتعيد صياغة علاقتها بالمجتمع، وتخرج من نخبويتها التنظيمية والمركزية العقيمة.

كما أن القوى الشبابية الجديدة، التي لا تجد نفسها في هذه الأحزاب المترهلة، بحاجة إلى مساحة ضمن مشروع يساري جامع، يتجاوز الخطابات المؤدلجة الجوفاء، نحو أفعال ملموسة ومواقف مبدئية تتماهى مع هموم الناس وتطلعاتهم.

خاتمة: الفرصة ما تزال قائمة… ولكنها تضيق

رغم هذا المشهد القاتم، فإن الفرصة لم تُغلق تمامًا أمام قوى اليسار الأردني.

لا تزال هناك كوادر نقابية، وشباب مثقف، وعقول نقدية داخل هذه الأحزاب وخارجها، تؤمن بأن التغيير ممكن، وبأن دور اليسار لم ينته بعد.

لكن هذه الفرصة تضيق مع كل يوم تستمر فيه حالة التشرذم والتنازع الداخلي.

وإذا لم تُتخذ خطوات حقيقية نحو التوحيد والتجديد، فإن اليسار الأردني لن يكون فقط غير ذي صلة بالمستقبل، بل قد يتحول إلى مجرد صفحة في كتب التاريخ، تُروى كعبرة عن التيارات التي فشلت في قراءة زمانها، فضلاً عن تغييره.


اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × 2 =