الثورات الملونة والحرب “النّاعمة” / الطاهر المعز

0 231

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 27/6/2025 م … 

الظرف الدّوْلي ل”الثورات المُلَوّنة”

إن عبارة “الثورات الملونة” هي ابتكار أمريكي، وتم ترويج هذه العبارة بواسطة وكالات الأنباء والصّحف وشبكات الإعلام المُهَيْمن، وتم إطلاقها لوصف الاحتجاجات والحركات السياسية وحركات العصيان المدني التي ظهرت في عدد من الدول في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وخاصة في الدول  التي تحكمها أنظمة تريد الولايات المتحدة الإطاحة بها والتخلص منها بشكل سلمي وللقضاء على دور الدولة وفتح الأسواق لتهيمن عليها الشركات العابرة للقارات، وتُمثل كذلك تكتيكا استخباراتيًّا سياسيًّا انتهجته الإمبريالية وخاصة الأميركية لتوسيع نفوذها وفرض هيمنتها وإقامة “نظام عالمي جديد”، مكان التّوازن الذي كان سائدًا بين الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بين 1945 وثمانينيات القرن العشرين…

كانت الولايات المتحدة في بداية سبعينيات القرن العشرين غارقة في مجموعة من الأزمات، حاول الرئيس رتشارد نيكسون معالجة الجانب المالي منها بفك الإرتباط بين الدّولار والذّهب سنة 1971، مُنهيًا بذلك اتفاقية “بريتن وودز” ( 1944) التي أفْضت إلى تأسيس البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، واتّسمت تلك السّنوات – التي أعقبت طفرة النّمو التي تَلت الحرب العالمية الثانية – بسلسلة من فترات الرّكود، وانهيار الأسواق المالية ( 1973 و 1974)، وكانت المفاوضات جارية في باريس بين المقاومة الفيتنامية والغُزاة الأمريكيين، وأسفرت عن اتفاق لوضع حدّ للعدوان العسكري الأمريكي…     

في ظل هذا المناخ السياسي والأزمات الإقتصادية والسياسية ( أسفرت عن استقالة رتشارد نيكسون بعد فضيحة وترغيت ) والعسكرية، نشر جين شارب ( Gene Sharp – 1928 – 2018)، الذي يعتبر مُنظّر الثّورات المُضادّة التي اشتهرت باسم “الثورات الملونة”، سنة 1973 الجزء الأول من كتابه “سياسات العمل اللاّعُنْفِي” ( ثلاثة أجزاء بعنوان – The Politics of Nonviolent Action – )، ويتناول كتابه الجوانب النظرية والتّطبيقية للعصيان المدني من التّخطيط إلى التنفيذ، ويُؤكّد جين شارب على أهمّية التحضير الجيّد للإطاحة بالحكومات التي لا ترضى عنها الولايات المتحدة أو التي انتهت مُهمّتها، ووجب تغييرها شكْلاً، دون المساس بمصالح الرأسمالية والشركات العابرة للقارات، وتمّت تجربة “الثّورات المُلَوّنة” ( وفق جين شارب) في الصين سنة 1989 (ساحة تيانانمن ) ولاتفيا وتشيكوسلوفاكيا ( قبل تقسيمها)، وتم تمويل هذه الثورات المُضادّة من قِبَل مؤسسات أمريكية مثل الأذْرُع العديدة للوكالة الأمريكية للتعاون الدّولي ( يو إس إيد) والوقف الدّيمقراطي ( NED ) وفريدوم هاوس وغيرها…

أسّسَ جين شارب مع بيتر أكرمان مؤسسة ألبرت أينشتاين خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ولا علاقة لهذه المؤسسة بألبرت إينشتاين، لأن أكرمان مَصْرِفِيّ مُضارب ورئيس مصرف استثماري أمريكي عابر للقارات، وبعد بضعة سنوات من استخدام إسم ألبرت إينشتاين لاجتذاب بعض الدّيمقراطيين والتّقدّميين، اندمجت هذه المؤسسة في شبكة الإستخبارات الأمريكية للتدخل في شؤون الدول، وتبرير العمليات السرية، وتنظيم عمليات تغيير الأنظمة بواسطة الثورات الملونة – باسم الدّفاع عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان – حيثما اعتبرت الولايات المتحدة إن مصالحها مُهدّدة…

كان جين شارب، بنهاية عقد الستينيات من القرن العشرين طالبًا بجامعة هارفارد التي كانت مُختبرًا للفكر والدراسات والبحوث المناهضة للشيوعية خلال فترة الحرب الباردة، بإشراف مُدرّسين مثل هنري كيسنغر وصامويل هنتنغتون  وزبيغنيو بريجنسكي، ومَوّلت وزارة الحرب ووكالة الإستخبارات الأمريكية بحثًا لجين شارب بشأن الحُلُول التي تُمكّن الإمبريالية الأمريكية من تدارك تأثيرات هزيمتها السياسية (ثم العسكرية) في فيتنام وانتشار المظاهر المُعادية للولايات المتحدة التي أصبحت مُؤشّرًا على تراجع النّفوذ الأمريكي الذي ساد أوروبا وأمريكا الشمالية وجزءًا من آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن التراجع الإقتصادي، وتضمّنت دراسة جين شارب حُلُولا عملية باستخدام “القُوّة النّاعمة” لتقويض المنافس السوفييتي ولتعزيز القوة الأمريكية بأساليب غير عسكرية، على غرار ما قامت به وكالة الإستخبارات الأمريكية في أوروبا من استقطاب مُثقّفين ومُفكّرين وفلاسفة ضمن مخطط احتواء “مدرسة فرنكفورت” وإنشاء “مدرسة شيكاغو” واكتساح الساحة العقائدية والثقافية، وكان هذا البحث محل اهتمام المُموّلين ( وزارة الحرب الأميركية والمؤسسات الفكرية التي تُشرف على أدائها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، من وراء السّتار، وقَدّم جين شارب   مُخطّطًا لكي تستعين أجهزة الدّولة، بما في ذلك الجيش، ب”مصادر خارجية” أي شركات خاصّة، من خلال عُقُود، لتنفيذ بعض “مهام الأمن والدفاع والوظائف العسكرية التّنفيذية”، إلى جانب إغواء “النخب الفكرية بهدف التَّسَلُّل الإيديولوجي بواسطة المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام والطّوائف الدّينية والمنظمات الخيرية ووكالات الإغاثة، ومجموعات اللاّجئين والمهاجرين…”

مناخ التّنظير للثورات المُلَوّنة

صدور كتاب “سياسات العمل اللاعنفي” 

كانت الولايات المتحدة تُعاني من أزمة اقتصادية تمثلت بعض مظاهرها في عجز ميزان المدفوعات وارتفاع حجم الدَّيْن العام بفعل حرب فيتنام، والتضخم النقدي وارتفاع قيمة الدولار ( الذي كان آنذاك مُقوّمًا بالذّهب) الذي استنزف احتياطيات الذهب الأميركية، خصوصًا بعد انهيار مجمع الذهب في لندن ( آذار/مارس 1968) مما أدّى – سنة 1970 – إلى تدهوُر مستوى التغطية للذهب ( كان يحق لمن يمتلك دولارات استبدالها بالذّهب ) من 55% إلى 22%، واضطرت الولايات المتحدة سنة 1971، إلى  طَبْع كميات كبيرة من الدولارات غير المدعومة بما يقابلها من الذّهب، ولذا قررت إدارة الرئيس رتشارد نيكسون التخلص من الدولار المدعوم بالذهب، وهو النظام الذي كان سائدًا منذ اتفاق بريتن وودز سنة 1944، ومكّن من ضمان النمو الاقتصادي وتجنّب الأزمات المالية، لكنه مكّن كذلك من صُعود اقتصاد المَحْمِيّات الأمريكية مثل اليابان وألمانيا، ثم استخدمت الولايات المتحدة الدّولار كسلاح ضد أعدائها أو منافسيها أو خُصُومها.   

عندما تم نَشْرُ كتاب جين شارب، سنة 1973، انخفضت قيمة الدّولار بنسبة 10% بسبب “تعوِيمه” أي التّخلِّي عن سعر الصّرف الثّابت النّاجم عن ارتباطه بالذّهب، وهو ما اعتبره جورج سوروس ( مؤسس ومُموّل مؤسسة “أُوبن سوسايتي” أو ما  تُرْجِمَ ب”المجتمع المفتوح” ) في كتابه “كيمياء التمويل” ثورةً مكّنته من زيادة ثروته بفعل المُضاربة، وبفعل زيادة حركة تدفق رأس المال، والتّخلِّي عن السياسات الكينزِيّة التي كانت تولي أهمّية لدور الدّولة في تعديل الأُجُور والأسعار والسياسات النّقدية…

كانت القرارات الأمريكية بشأن السياسات النّقدية ودَوْر الدّولار، سنة 1973 ، بدايةً للتحولات التي أدّت إلى انهيار أُسُس “بريتون وودز” وهيمنة الدّولار ورأس المال المالي والشركات متعددة الجنسيات على السلطة السياسية التي قامت بإلغاء القيود التنظيمية وعَمّمت عمليات الخصخصة، فضلا عن زيادة دَوْر المُجمّع الصناعي العسكري في الولايات المتّحدة، وتزامن ذلك مع تدهْوُر ظُروف العمل ودَخْل الطبقة العاملة…

كان فكّ ارتباط الدّولار بالذّهب منعرجًا وبداية لمرحلة جديدة من تطوّر النظام الرّأسمالي، بدل المرحلة التي سادت منذ سنة 1945، وشكّلت “الثورات الملونة” حلقة من هذا التّحوّل نحو حقبة جديدة من العولمة الرّأسمالية بزعامة الإمبريالية الأقْوى والأعْظَم التي حثّت ( بل فَرَضت ) إزالة الضّوابِط والكوابح وإلغاء الفصل بين الخدمات المصرفية الإستثمارية والتجارية الذي كان سائدًا في الولايات المتحدة منذ سنة 1933، زمن الأزمة الكبرى، وتُشكّل الثورات المُلوّنة إعلانًا عن نهاية مرحلة التوسع الرأسمالي التجاري والصناعي، وتعزيز هيمنة الرأسمالية المالية والمُضاربة و”المشتقات المالية ” وتزامنت مع بعض التراجع للإقتصاد الأمريكي ( وللهيمنة الأمريكية) وأدّت هيمنة رأس المال المالي إلى جعل السياسة النقدية أداة رئيسية لمعالجة المشاكل الاقتصادية، من خلال التمويل المتزايد للاقتصاد الأميركي بواسطة الدّيون والسّندات وضخّ الدّولارات في الخارج، ونهب موارد البلدان الفقيرة ومتوسطة الدّخل بواسطة المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية…  

فرضت مؤسسات بريتن وودز خصخصة المصارف وقطاعات الصناعة والفلاحة والخدمات والتجارة، وأدّت الخصخصة وخَفْض الإنفاق الحكومي وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية في البلدان الفقيرة ومتوسّطة الدّخل إلى تضخّم دور المنظمات “غير الحكومية” والخَيْرِيّة والإنسانية، لتملأ بعض الفراغ الذي تركته الدّولة، وتحتاج هذه المنظمات إلى التّمويل في شكل مِنَح أو مساعدات ليست متوفّرة في البلدان الفقيرة، وهنا يأتي دَوْر المُنَظِّر جين شارب والمُمَوِّل ( المُستَثْمر) جورج سوروس وأمثالهما، لتمويل منظمات “المجتمع المدني” (بشروط ) وهي عملية نقل السُّلطة والنّفوذ من مؤسّسات الدّولة إلى القطاع الخاص الذي لا يتبرّع بل يستثمر، ولا يعزز الديمقراطية، بل يُعزّز دَوْر الدّول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات التي تفرض “اقتصاد السّوق” بدل الإقتصاد المُوَجَّه من قِبَل الدّولة ( الذي قد يكون رأسماليا أيضًا) والقواعد التي تفرضها هيمنة الدّولار والأسواق المالية أو ما اصطلح على تسميتها بالليبرالية الجديدة التي هيمنت – بواسطة المؤسسات المالية والشركات العابرة للقارات والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام – على مجمل فئات وقطاعات المجتمع، بالتوازي مع القضاء على المنافسة على المستوى الدّاخلي كما على المستوى العالمي، أي هيمنة الإحتكارات باسم الحرية أي حرية السّوق وأصبح تصدير رأس المال متفوّقًا على تصدير السّلع، وأدّى استغلال العمالة الرخيصة والكثيفة في البلدان الفقيرة إلى استنزاف موارد هذه البلدان الفقيرة، واحتكار الدّول الإمبريالية القطاعات الإستراتيجية مثل صناعة الأسلحة والقطاعات ذات القيمة الزّائدة المرتفعة مثل التكنولوجيا المتطورة…  

“الثورات الملونة” في أوروبا الشرقية

الثورة هي حركة شعبية بهدف إحداث تغيير جذري للوضع السياسي والإقتصادي والاجتماعي، أما “الثورات المُلوّنة” فهي حركات سلمية تدعمها الإستخبارات الأمريكية والأوروبية مباشرة أو بواسطة منظمات “غير حكومية” أو “إنسانية” أو “حُقُوقية” تُموّلها القوى الإمبرالية وتكفّل إعلام الدّول الإمبريالية بإضافة لون لها “الثورة البرتقالية” أو “الزّرقاء” أو غيرها من الألوان باستثناء اللّوْنَيْن الأحمر والأسْود، والمقصود بها ثورات سلمية ( غير عنيفة) أو “مَخْمَلِيّة” لا تحدث سوى في بلدان تحكمها أنظمة لا ترضى عنها الإمبريالية الأمريكية وتوابعها بهدف تغيير الأنظمة القائمة بتلك البلدان ( بلدان الإتحاد السوفييتي بعد انهياره وبلدان أوروبا الشرقية والوُسطى) ويُسميها الإعلام “الغربي” ثورات “مُؤيّدة للدّيمقراطية” (pro-democracy revolutions ) أي مؤيدة للغرب، وهي احتجاجات جيّدة التنظيم لها يافطات وشارات وشعارات وألوان مُوحّدة مما يدلّ على قُوّة خَفِيّة تُشرف عليها “من وراء سِتَار”، لها مُنظّرُوها مثل “جين شارب” الذي حَرّض على حُسن التنظيم، مثل رَفْع الرّايات بشكل جماعي وبألوان موحّدة وتعيين ناطقين يُحسنون فن الخطابة والتصريحات ثم يتكفل الإعلام الغربي بنَشْر الشعارات والمطالب التي تقتصر عادة على “إسقاط النظام الديكتاتوري” دون التّعرّض لما سوف يحدث بعد ذلك، ولهذه “الثورات الملونة” من يدعمها ماليا وإعلاميا مثل “جورج سوروس” الذي لعبت مؤسساته دورًا هامًّا في الدّعاية للخصخصة ول”حرية السّوق” كبديل لتدخّل الدّولة في مسائل الأسعار والأجور وأنشأت مؤسسات جورج سوروس منظمات “المجتمع المَدَني” بهدف تغيير الحكومات والأنظمة باسم الدّيمقراطية وبأقل تكاليف ممكنة ثم يتكفّل الإعلام الرّأسمالي ( المملوك لمجموعات مصرفية أو صناعية أو تجارية ) والمحللون والمفكرون ومراكز الأبحاث والمواقع الإخبارية بكيْل المدائح للناطقين باسم هذه الإحتجاجات المُمَوّلة أمريكيًّا، وتقديمها كشكل راقي من ممارسة “الثورة”، ويشرح “جين شارب” ذلك بشكل مُفصّل في كتابه “من الدّكتاتورية إلى الدّيمقراطية” ( 1994) حيث يُؤكّد على التخطيط المَرحلي” (التّكتيكي) والإستراتيجي “لتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير”، ويستشهد العديد من هؤلاء المفكّرين بتجربة بولندا، خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، حيث تأسست نقابة “التّضامن” من قِبَل عُمّال الصّلب وميناء مدينة “غدانسك”، ثم استولت على قيادتها مجموعة مُقرّبة من الكنيسة الكاثوليكية والنقابات الأمريكية والأوروبية التي تدعمها وكالة الإستخبارات الأمريكية، وخاضت نقابة “التّضامن” ( سوليدارنوشك) عدّة إضرابات ومظاهرات واعتصامات مُناهضة للشيوعية كفكر وممارسة، وليس للنظام القائم في بولندا فحسْب، وتدعو صراحة إلى اقتصاد السّوق، وانتصر هذا الخط الرّجعي بفعل الدّعم الإمبريالي المادّي والإعلامي الكبير، وأصبح زعيم نقابة “تضامن” ( ليس فاليزا) رئيسًا للدّولة فيما بعد واتّسمت فترة حُكْمِهِ بالفساد والتراجع عن مكتسبات الطبقة العاملة والشباب والنّسْوة، ومع ذلك تكرّرت هذه “الثورات المُلَوّنة” التي روجت لها وسائل الإعلام المهيمنة ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف والكنائس والمنظمات “غير الحكومية” في المجر ويوغسلافيا وجورجيا وأوكرانيا ورومانيا وغيرها لتصبح معظم دول أوروبا الشرقية ومنطقة البلْقان والدّول المحاذية لروسيا أعضاء في حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي…  

“الثورات الملونة” = المزيد من النّفوذ الأمريكي

أشرفت الإستخبارات الأمريكية ومؤسسات مثل فريدم هاوس أو الوَقْف الدّيمقراطي على الثورات الملونة، كما كان لجورج سوروس ومؤسساته دور هام، بدوافع مالية وإيديولوجية، وعلى سبيل المثال تأسس معهد أميركان إنتربرايز سنة 1983، وهو مُصنّف كمنظمة غير حكومية ويُديره ويُشرف على برامجه ضُبّاط متقاعدون من الجيش والإستخبارات العسكرية الأمريكية، وتُمَوِّلُهُ الحكومة بواسطة مؤسساتها غير الرّسمية، من ضمنها الصندوق القوْمي للديمقراطية وأمثاله من مراكز البحوث والمنظمات التي تُشَكِّلُ أَذْرع الإمبريالية الأميركية، ومن ضمنها صندوق كوانتوم ( الذي يُشرف على مجموعة صنادق الإستثمار التي أسسها جورج سوروس) المختص في تمويل “العمل الخيري والإنساني” في أوروبا الشرقية منذ نهاية القرن العشرين، وقام بتمويل “العمل الإجتماعي والتّربوي والتّرفيهي” في العديد من دول أوروبا الشرقية وكذلك العديد من الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام التي ساهمت بقوة في إطلاق وإدارة “الثورات المُلوّنة”…

مَوّلت الولايات المتحدة والإمبريالية عمومًا ( والعديد من المنظمات والأحزاب والنقابات والتيارات والأحزاب الديمقراطية الإجتماعية والكنائيس) ثورة مُلَوّنة ناجحة في بولندا، ومولت الولايات المتحدة ودعمت ثورات مُضادة في المجر ورومانيا ويوغسلافيا وفي تشيكوسوفاكيا وفكّكت معظمها وفي تشيكوسلوفاكيا كان الأرستقراطي “فاكلاف هافيل” – الذي كان يُقدّمه الإعلام كأكبر مثقف ديمقراطي ( مسرح العبث) وحصل على العديد من الجوائز، أول رئيس لتشيكيا ما بعد التقسيم ( تشيكيا + سلوفاكيا) وكان استرجاع قُصُور ومنتجعات ومزارع أُسْرَتِهِ من أوَّل قراراته…

حدثت “الثورة الوَرْدِيّة” في جورجيا سنة 2003، بقيادة حركة “كمارا” ( كَفَى) للإطاحة بالرئيس إدوارد شيفرنادزه الذي لم يُفِدْه انبطاحة أمام الإمبريالية الأمريكية لما كان آخر وزير خارجية للإتحاد السوفييتي خلال العدوان على العراق سنة 1991، ثم جاء دَوْر أوكرانيا و “الثورة البرتقالية” سنة 2004 وكان اللون البرتقالي هو اللون الرسمي للحملة الانتخابية التي قادها المعارض فيكتور يوشنكو الذي يحظى بدعم أمريكي وأوروبي ضد فيكتور يانوكوفيتش، وكان شعار الثورة البرتقالية “بورا” أو “حان الوقت” ونجح الصّخب الإعلامي وشبكات المسيحيين البروتستنت الصهاينة الأمريكيين في إلغاء نتيجة الانتخابات وهيّأت الولايات المتحدة الظروف الكفيلة بفوز فيكتور يوشنكو واستمرت الثورات الملونة في دول الإتحاد السوفييتي المُنهار فكانت “ثورة التُّوليب” في قيرغيزيا سنة 2005  ثم أوزباكستان وغيرها، وعندما ينهزم مُرشّح الثورات الملونة تتم إزاحته بالقُوّة مثلما حدث في أوكرانيا سنة 2014 بإشراف القوى الإمبريالية ومليشيات اليمين المتطرف التي أشرفت على تدريبها الإستخبارات الأمريكية والصّهيونية، وعمومًا كانت هذه الثورات الملونة في أوروبا الشرقية مُوجّهة ضد روسيا التي كانت تُحاول النّهوض بعد إزاحة  زُمّرة بوريس يلتسين وتركيز النفوذ الأمريكي من خلال مجموعة من الأدوات، تبدأ من المنظمات “غير الحكومية” وتصل إلى الإنضمام لحلف شمال الأطلسي، وإبعاد وتشويه الأشخاص غير المُوالين للإمبريالية الأمريكية وللشركات العابرة للقارات، وتتم جميع هذه “الثورات” باسم حُرِّيّة التّعبير وباسم الديمقراطية، لتُغَيِّر الحكومات دون تحسين ظروف عيش المواطنين، بل تدهْوَرَ وضع العاملين والكادحين والنّسوة وفئات عديدة من هذه الشُّعُوب، وشكلت “الثورات المُلونة” فُرصة لتوسيع الإستثمارات الرأسمالية في أوروبا الشرقية لتكون الشركات العابرة للقارات والمصارف الكبرى المُستفيد الوحيد من هذه الأحداث…  

شخصِيًّا لا أميل إلى تسمية ما حدث في العديد من البلدان العربية خلال نهاية 2010 وبداية 2022 “ربيعًا عربيًّا” ولا أعتبر  انتفاضات تونس ومصر “ثورات مُلَوّنة” فهي انتفاضات شعبية تلقائية، سبقتها انتفاضات جزئية، واستغلّتها القوى الرّجعية ( الإخوان المسلمون) الأكثر تنظيما والتي تمتلك المال وتُشرف على العديد من المنظمات الإنسانية والخيرية، ودعمتها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية التي اعتبرتها القوة الوحيدة المُستعِدّة لحُكم هذه البلدان وعدم إعادة النّظر في اقتصاد السّوق وعدم تحدِّي الهيمنة الإمبريالية ( لم تستهدف الإنتفاضتان الهيمنة الإمبريالية ولم تَرِدْ في شعاراتها)، وكانت تلك الإنتفاضات بدون برامج أو أهداف واضحة وبلا قيادة تُخطّط لما بعد الإنتفاضة وإبعاد رأس النظام، وبذلك أزاحت الإمبريالية الأمريكية والأوروبية سلطات موالية لها لكنها فَقَدت مصداقيتها لتستبدلها بقوى أخرى غير متورطة في الفساد رسميا ولكنها لا تطمح لتغيير نمط الإنتاج أو هيمنة الإمبريالية، وما ذَكَرْتُهُ عن تونس ومصر يختلف عن نظرتي لما حدث في ليبيا وسوريا التي كانت تحكمها سلطات غير ديمقراطية لكنها “مُشاغبة” وغير خانعة بنسبة 100% خصوصًا بعد اقتراح القذافي مشروع عملة إفريقية مُوحّدة. أما في سوريا فلم تغفر الإمبريالية للنظام عدم توقيعه اتفاقية للتنازل عن الجولان والأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني، ورفضه مشروع خط أنابيب الغاز القطري الذي كان ينافس مشروعًا إيرانيا لمد خطوط نقل الغاز إلى موانئ سوريا كمرحلة نحو أوروبا…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

سبعة + ثمانية عشر =