الرواية العربيّة المعاصرة … ( سماتها – خصائصها – أهدافها) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 26/12/2024 م …
في المفهوم:
الرواية : هي سلسلة من الأحداث تُسرد بسرد نثري طويل يصف شخصيات خياليّة أو واقعيّة وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، وتعتبر الرواية من أكبر الأجناس القصصيّة من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنساً أدبيّاً مؤثراً في القرن الثامن عشر. وهي تعتمد السرد والحوار بما فيه من وصف وحالات صراع بين الشخصيات, وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذية الأحداث, يترك عند المتلقي حالات معرفيّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي والنفسي وغير ذلك, ولها أيضاً شكلها أو أسلوبها الفني في العرض الذي يحقق المتعة والدهشة وحب الكشف عند المتلقي ذاته).(1).
أو بتعبير آخر: (هي تجربة أدبيّة، يعبر عنها بأسلوب النثر سرداً و حواراً من خلال تصوير حياة مجموعة أفراد أو شخصيات تتحرك في إطار بيئة أو نسق اجتماعي محدد الزمان و المكان.).(2).
وعلى الرغم من حداثة الرواية في الثقافة العربيّة, وكونها جنساً أدبيّاً حديث العهد طري العود, محدود المراس, غير خاضع لوتيرة منتظمة في تطوره ولا لمسات شكلانيّة في تجلياته ، فإنها استطاعت أن تكسب ود القارئ العربي تدريجيّاً منذ أن فجرت عينها رواية (زينب) سنة 1914 لـ”حسين هيكل” ( 1888 ـ 1956), وهو تاريخ حديث لا يتجاوز القرن من الزمن، حتى ولو ذهبنا إلى ما ذهب إليه النقاد المعاصرون كـ”يمنى العيد” واعتبرنا معها المرأة هي من فتح باب الرواية العربيّة برواية (قلب الرجل) التي صدرت سنة 1904 للكاتبة “لبيبة هاشم” كأقدم نص روائي عربي وقبلها رواية (حُسن العواقب) لـ”زينب فواز” الصادرة سنة 1899 .. فإن شلال هذا الفن الروائي سرعان ما تدفق بنتاج حاول بعضهم تصنيفه بمعايير مختلفة منها:
1– روايات ذات طابع سياسي: ( مرحلة ما قبل الاستعمار، ومرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستقلال.). عالجت قضايا الاحتلال والنضال الوطني وتعدد الأحزاب والصراع على السلطة بعد الاستقلال.
2– وذات طابع اجتماعي: وراحت تعالج هنا قضايا التناقضات الطبقية وتصوير الريف وجهله وتخلفه, وكذلك المدينة ومشاكلها الحياتيّة الأسرية والفردية.. وغير ذلك. سادت في هذه الطابع الاجتماعي الروح الرومانسيّة المشبعة بالعاطفيّة والذاتيّة والحلم, ثم جاءت المرحلة الواقعيّة. لقد ارتبطت الرواية بمعطيات اجتماعيّة معينة أثرت في تبنين الرواية العربيّة.
3– وذات طابع فني له علاقة بالآخر: (مرحلة الاقتباس والتعريب مع جيل “مصطفى لطفي” و “المنفلوطي” “وطه حسين” ومع الذين درس أغلبهم في أوربا، قبل أن تبدأ الرواية العربيّة في التأسيس لنفسها مع جيل “يحي حقي” وتصل إلى مرحلة التبلور والتأصيل مع “نجيب محفوظ”, و”إحسان عبد القدوس”, و”عبد الله نديم”, وتنتهي إلى مرحلة التحديث مع “عبد الرحمان منيف” و”حيدر حيدر وحنا مينه” وغيرهم الكثير.
4– وأخيراً روايات ذات طابع جغرافي قطري: حيث ظهرت الرواية حسب الأقطار العربيّة, كالرواية المصرية/ السورية/ اللبنانية/ المغربية. (3). وراحت هذه الروايات في معظمها تركز على الهم القطري ومشاكله الاجتماعيّة والأخلاقيّة وحتى السياسيّة دون أن تتجاهل الهم القومي أيضاً.
مرحلة الرواية العربيّة المعاصرة:
ومع نهاية الألفيّة الثانية وبداية الألفيّة الثالثة من غزو العراق ونشوب حرب الخليج الثانية وسقوط المنظومة الاشتراكيّة, وظهور النظام العالمي الجديد بصيغته المتوحشة, اقتصاديّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً, ومع التجليات الفكريّة لما سمي معطيات ما بعد الحداثة وتأثيرها على مسألة الحريّة الفرديّة, والفتح في المجال واسعاً أمام هذه الحريّة, فكل ذلك جعل الرواية العربيّة تدخل مرحلة جديدة ومختلفة في مضمونها وشكلها, سميت بالرواية العربيّة المعاصرة.
إن الرواية العربيّة المعاصرة اتجهت في العقود الأخيرة إلى تناول (إشكاليات الفرد) ضمن مجتمع محدد زمانيّا ومكانيّا، مبتعدة بوضوح عن الشعارات أو السرديات الكبرى, والبلاغة الإنشائيّة والافتعال. وبهذا المعنى استطاعت أن ترفع ما يجري في الواقع اليومي من حوارات وهموم وآلام إلى برزخ اللغة غير المتعالية، مما انعكس ايجاباً على توسّع الآفاق المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في النص المكتوب روائيّا. وبهذا تجذّرت البيئة المحليّة, والوعي الفردي, وانعكاسات الأحداث الكبيرة في حركة الأفراد ضمن المساحة الزمانيّة والمكانيّة الممنوحة لهم. (4). أو بتعبير آخر إن الروايات المعاصرة الخارجة من رحم أو قاع المجتمعات العربيّة التي راح يتجلى تخلفها المزمن بشكل واضح للأديب… هذا القاع المجتمعي المسكوت عن الكثير من مضامينه السلبيّة سابقا في المتن الروائي, هو واقع فاقع ساخن وصادم، وبسبب ضغط ما هو ملموس وواقعي في الحياة اليوميّة المباشرة, مع تنامي العقليّة العلميّة المنافية للأساطير والغيبيات والمسلّمات العتيقة, ومع ما وصلت إليه البشرية من تطور في العلوم والبحوث الاجتماعيّة والفلسفيّة والجماليّة وحقوق الإنسان, ومع عمليات التأثر بالفكر الآخر وخاصة الغربي منه في معالجته لقضايا العصر, فكل هذه المعطيات راحت تسجّل تاريخاً حقيقيّاً للأحداث، تاريخاً تفصيليّاً أهملته أو تغافلت عنه المدونات الرسميّة للتاريخ الحديث, فتبنته الرواية. وهذا في المقابل ما دفع الأديب بشكل عام والروائي بشكل خاص, إلى تجاهل التاريخ الرسمي السلطوي المهيمن, والسرديات الكبرى أيضاً والتوجه نحو تدوين تاريخ الفرد البسيط والحالم, الساعي إلى شروط حياتيّة عادلة وجميلة.
على العموم إن الرواية المعاصرة لم تشكل قطيعة كليّة مع تاريخ الرواية السابقة لها, ولا اتخذت مواقف سالبة من التراث العربي أو الإنساني. إن ما سعت إليه الرواية المعاصرة في الألفيّة الثالثة, هو التركيز في سردها بشكل عام على شخصيات بسيطة وعاديّة من مختلف الشرائح, لقد تحول الروائي المعاصر في الحقيقة إلى ما يشبه الأنثروبولوجي والباحث في التراث الإنساني ينهل من الأساطير والرموز وينفتح على مختلف الأشكال التعبيريّة محطماً الحدود بين الأجناس الأدبيّة، فتميزت الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وإثارة الأسئلة الملحة، أكثر من البحث عن الأجوبة، فوجد القارئ نفسه أمام روايات شعريّة، وروايات دسمة حبلى بالأفكار والإحالات التاريخيّة والفكريّة، والفلسفيّة والفنيّة .. وكتابها منفتحون على السينما، التشكيل ، الفلسفة ، الأديان، الأسطورة، الحكاية الشعبية, لقد قدموا للقارئ روايات أقرب إلى كتب فكريّة اعتمد فيها بعض الكتاب على مراجع ومرجعيات متعددة، وكلفتهم عناء بحث طويل.
إن الرواية المعاصرة إضافة لتسليطها الضوء على قضايا المجتمع التي أشرنا إليها أعلاه, فقد راح بعض الروائيين يمحورون متون رواياتهم حول بعض الحالات الخاصة في المجتمع أيضاً مثل:
أولاً – الأقليات الدينيّة: كاليهوديّة كما في رواية (في قلبي أنثى عبرية) لـ”خولة حمدي” من تونس. أو المسحيّة كما في رواية (طشاري) للعراقيّة “أنعام كشاجي” وعدد من الروايات المصريّة التي عالجت مشاكل الأقباط..
ثانياً – الجنس والشذوذ الجنسي: لقد أعلت الرواية العربيّة المعاصرة من قيمة العشق المذموم، وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها، ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة، بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملأوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة، وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس، ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة، وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها يعتبر خيانة. إذ وجدنا عدداً كبيراً من الروايات المعاصرة تلامس بدرجات مختلفة موضوع الشذوذ في المجتمع العربي في مشارق العالم العربي ومغاربه من الكتاب الكبار كما فعل “علاء الأسواني” في (عمارة يعقوبيان), أو من الشباب كرواية (العفاريت) لـ “أبراهيم الحجري” من المغرب. ولم تتخلف النساء عن خوض معالجة موضوع الشذوذ برواياتهن في مختلف الأقطار العربية, كما هو الحال في رواية (طريق الغرام) لـ “ربيعة ريحان”، أو في الجزائر كما في (اكتشاف الشهوة) لـ “فضيلة الفاروق”، وكذلك وجدنا في اليمن رواية (زوج حذاء لعائشة) للروائيّة “نبيلة الزبير” وكثيرة هي الروايات التي جعلت من الشذوذ محور سردها…(5).
إن من يواكب جديد الرواية العربيّة المعاصرة سيلاحظ في الحقيقة مدى التركيز على الأبطال الذين يعانون القلق، الخوف، الازدواجيّة في الشخصيّة, ومختلف الأمراض النفسيّة. بل إغراق الروية العربيّة المعاصرة في التركيز على (الذات), بتقديم نماذج تمثل المفرد المنغلق الباحث عن الهدوء وراحته, كرواية ( وراء الفردوس) لـ “منصورة عزالدين” (أنموذجا).
ومن جانب آخر, لقد همشت الرواية المعاصرة إلى حد كبير القضايا القوميّة وحتى القضيّة الفلسطينية التي ظلت تشكل محوراً هاماً في الرواية العربية بعد النكبة والنكسة, كما كان في أعمال “غسان كنفاني وإميل حبيبي” وغيرهما، حيث تراجع تأثيرها في الكثير من الأعمال الروائية. بل أكثر من ذلك هـُمِّشت كما ذكرنا في موقع سابق من عرضنا هذا, القضايا الوطنيّة القطريّة و والإنسانيّة الكبرى لحساب القضايا الذاتيّة، فكان لكل شخصيّة روائيّة قضيتها الذاتيّة تبحث لها عن مخرج في واقع متشرذم فاسد يعمه الدمار والعنف, حتى لكأنَّ روايتنا أضحت حسب تعبير جورج لوكاتش (تاريخ بحث منحط عن قيم أصيلة في عالم منحط), لذلك تميزت أفعال معظم أبطال الرواية العربيّة المعاصرة بطابع (التشيطن), فتنوع الأبطال بين المحتال، المتملق، المجنون، المجرم, الوصولي, والأناني, والمتطرف في كل شيء, (في شرب الخمر، في الجنس، في تعاطي الدعارة، وفي الدين…), وغير ذلك من الشخصيات التي لا تعير اهتماماً للقيم في المجتمعات العربيّة, حيث راحت تتجه كما قلنا في موقع سابق نحو الفردانيّة والامتثال لقوانين اللبيراليّة المتوحشة, وقيم ما بعد الحداثة وخاصة مناداتها بموت القيم والإله والأخلاق كما صرح ” نتشه”. ومع ذلك وبناءً على ما يجري على أرض واقعنا العربي من فساد وتردي على كل المستويات, أصبح من المستحيل معه أن نفصل بين ما ينسجه خيال روائيينا وما يدور تحت أقدامنا على الأرض العربيّة. وهذا ما جعل من الرواية أطاراً لكل المتناقضات قادرا على تمثيل مختلف الحساسيات والمرجعيات الثقافيّة وإعادة تشكيلها في قالب فني جديد, وكأننا بالرواية المعاصرة نجد تغير وظيفة الرواية الأصليّة حسب ما يقول “حسن مودن”: ( إن الوظيفة المركزيّة للرواية لم تعد وظيفتها هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقاً, بل إن وظيفتها أصبحت تكشف بطرقها الخاصة ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية حسب عبارة هرمان روخ), ففي الرواية فقط يمكن بناء مجتمع للمؤلف فيه الحق في السخرية من غطرسة الساسة الحاكمين، وعناد رجال الدين المتزمتين، وسذاجة البسطاء المغلوبين على أمرهم أمام غياب المساواة)..(6).
نعم.. لقد حملت الرواية على عاتقها اقتحام عبابَ بحر متلاطمة أمواجه وعصي على الفهم, إذ وجد الروائي العربي المعاصر نفسه في لج مرايا متقابلة وصراع وقف أمامه مشدوهاً لا يعرف فيه الصديق من العدو، ولا يعرف من يصارع من؟ وكل ما يراه من الدماء وأشلاء الموتى في كل زاوية دون أن يدرك من يقتل من؟ ولأية أهداف يتقاتل العرب داخل بلادهم أو مع بعضهم كدول؟ ولماذا غدت بلاد العرب على كف عفريت وبؤرة صراع. ولكن أمام هذا الواقع العربي المزري يظل سؤال مشروع يطرح نفسه علينا هو: هل تؤثر الرواية العربيّة في تغيير هذا الواقع نحو الأفضل.؟. أعتقد أن الاجابة على هذا سؤال من الصعوبة بمكان, ونحن أمام ضعف نسب قراء الرواية والقراءة في أوطاننا العربيّة, وبسبب قوة التجهيل التي تمارسها الأنظمة العربيّة الحاكمة على شعوبها, ثم بسبب زيادة واتساع مساحة المجتمع الاستهلاكي وثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي, وما تقدمه من ثقافة استهلاكية تشتغل على الغرائز أكثر من اشتغالها على العقل. !!.
أهم سمات وخصائص الرواية الحديثة من حيث المضمون:
1- قدرتها على التواصل مع عوالم كثيرة كالتراث والتاريخ والواقع بكل تركيباته وتعقيداته وقضاياه, وكذلك توظيف السيرة الذاتيّة أو عنصراً من عناصرها في المتخيل الروائي كعامل مشابهة بين الشخصيّة الروائيّة والشخص في الحياة. مما جعلها من حيث التركيبة أكثر تعقيدا. أي وصلت الرواية الى مرحلة النص المفتوح تأليفاً, وإلى قراءات وتأويلات متعددة عند المتلقي.
2- توظّف تقنية تعدّد الرواة في أكثر من مدلول خاص يرتبط بواقع مرجعي. فإضافة إلى جانب اعتمادها على تقنية الراوي الشاهد في توليد صورة الشخصيّة المجتمعية الراهنة، فالبطل القومي الذي كان في رواية الثلاثينات والاربعينات ولربما الخمسينات صورة لشخصيّة نموذجية تختزل الاشخاص وتمثل الإنسان في كليته، نرى الرواية العربيّة المعاصرة تركز كثيراً -كما تبين معنا في عرضنا السابق لبعض الروايات العربيّة المعاصرة – على الشخصيات القلقة والممزقة, وغالباً العاجزة المكتفية بالشهادة على الصراع الغامض والمعقد الدائر في محيط الكاتب. وكذلك الميل الشديد إلي تصوير الواقع المحلّي الضيق كالقري والأحياء الشعبية من المدن, واختيار نماذج إنسانيّة مسحوقة أو تعيش علي هامش المجتمع.
3- رغم ارتباط الرواية العربيّة المعاصرة بواقع التاريخ الحديث, وضياع مفهوم الحقيقة, أو غياب الرؤية النقديّة, أو دخولها الى عالم التغريب والغموض, فإنّ هذا الارتباط نفسه أدى في بعضها الآخر الى إعادة تبني مفهوم الواقعيّة من جديد في صياغة الرواية, وذلك عن طريق الاقتصاد في العبارة بدل الإسهاب في الوصف والحرص على تقديم الشخصيّة السويّة مثلما نرى في رواية “عودة الطائر الى البحر” لـ “حليم بركات” ورواية “التيه” لـ “عبد الرحمان منيف“.
4.استلهام بعض تقاليد القص و الحكي العربي القديم، و تقديمها في صور جديدة من أجل منح فنون القص العربيّة طابعاً قوميّاً و خصوصيّةً و تميزاً, بعد أن سيطر الشكل الأوروبي الوافد علي نتاج الأجيال الروائيّة السابقة.
5- تفوق الوعي الأيديولوجي علي الوعي الجمالي, لأن معظم الجيل المعاصر من كتاب الرواية العربيّة تربي و تعلم في عصر الاستعمار، و شهد بداية الثورات و الانقلابات، ثم استيقظ علي انهيار الحلم القومي بعد هزيمة حزيران وغياب الديموقراطيّة و الهزائم المتلاحقة عسكريّاً وقوميّاً و فكريّاً, وانتشار أنظمة القهر والدكتاتوريّة والدولة الشموليّة والاستبداد, والتناقضات الطبقيّة الحادة, وانتشار الأصوليّة التكفيريّة, والقهر والجوع والتشرد والهجرة.. الخ.. لقد بدأنا نلمس سيطرة النزعة الوجوديّة وحتى العبثية والنزعة الذاتيّة على الرواية العربيّة المعاصرة وعند جيل الشباب من الروائيين. ومن الملاحظ في جغرافيّة الرواية العربية المعاصرة تراجع دور المركز المسيطر (مصر) في كتابة الرواية، لقد تغيرت خارطة الرواية؛ فبعد أن كانت مصر وحدها، بمشاكلها و أسمائها تحتلّ الذاكرة الثقافيّة، أصبحت بقية الدول العربيّة (الجزائر وسوريا والسودان والعراق ودول الخليج)، وظهر الكثير من الروائيين والروائيات في بقية الدول العربيّة يساهمون في تجذير الرواية وتسليط الضوء على قضايا ومشاكل بلادهم..(7).
الرواية من حيث الشكل:
الشكل الروائي في جوهره, صورة لغويّة سرديّة مكتوبة للفعل أو النشاط البشري, وهي اللغة التي تعبر وتحمل في طياتها مضموناً يعبر عن مضمون الرواية من جهة, مثلما يعبر عن الشكل أيضاً. فالرواية عموماً لم تعرف ثباتا على نهج معين لفترة طويلة, إنها فن التحولات الدائمة التي ما فتئت تجرب آفاقا جديدة متسعة لاحتضان رؤى جديدة يفرزها الواقع المعيش. فالرواية (لا حدود نظريّة لها، وتتسم بمرونة شكليّة أيضاً لا نهاية لها ولا حد… وإنها نوع لا يخضع إلى قواعد ومواصفات وقوانين ثابتة، وأن التحول والمرونة الفائقة هي أهم صفاتها، خصوصاً من حيث هي شكل مفتوح يظل دائما في حالة صنع، فهي مغامرة كتابة أكثر منها كتابة مغامرات كما وصفها – بحق – الناقد الفرنسي جان ريكاريو).(8).
من خلال معرفتنا لشكل الرواية العربيّة تاريخيّاً, نلاحظ أن الروائي العربي المعاصر قد ثار على الشكل الروائي ذاته وتمرد عليها وعلى بنية السرد الكلاسيكيّة. بل وحتى على اللغة العربية التي كانت تتميز بالسجع والبلاغة التقليديّة والحشمة والوقار في معظم روايات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى جاء جيل جديد ليسمي الأشياء بمسمياتها.
(ومثال على أفق التجريب والحداثة في الشكل الروائي المعاصر, نجده في رواية المفكر المغربي “عبد الله العروي” «أوراق» التي تعج بدلالات المغامرة الفكريّة والإغراء التخييلي بنزوح الشكل الروائي إلى تجربة جديدة في الانزياح الذهني, والجنوح إلى المتخيل الغني بالخطابات المتداخلة التي تجعلك في قراءة للفكر الإنساني بشموليته, ونضج تيمي قلما نجده في رواية السلف المؤسس. وهذه الذهنية التخيليّة عند بعض النقاد هي أقصى قمم المغامرة الشكليّة التي تنتصر لنوع من القص يميط اللثام عن قوة اللغة ودلالة الكلمات التي لا تصبح مجرد كلمات وقوالب لسانية لغويّة, بقدر ما تصير وعاءً لفك رموز الوجود الإنساني, وتجريب شخوص الواقع في متخيل مشخصن, مع خلخلة لمفهوم الزمن وما هو متعارف عليه في بنية الكتابة الروائيّة.). (9).
يبدو أن الكثير من عشاق الرواية يجدون ولعاً آسراً في الحديث عن نهاية الأشياء وموتها كما تطرح اليوم مع ما بعد الحداثة: كموت الفلسفة، موت الرواية، موت المؤلّف، موت الإنسان العاقل، إلخ.. ويتخذ الحديث في العادة نبرة مأساويّة منذرة بالتشاؤم، ذات صبغة كهنوتيّة لعلّها تذكّرنا بقرب حلول كارثة بشريّة ماحقة، تنفلت فيها كل الضوابط الحاكمة للحياة الإنسانيّة من عقالها، ويغدو فيها الناس مشتتين مسوقين بدفع عوامل كونية غامضة، أو نفسيّة قاتلة، وربما يمكن مشابهة هذا الوضع البشري مع ما حصل في باكورة الألفيّة الثالثة، وما رافقها من التبشير بنهاية العالم. ولكن الرواية واقعياً لم تحتضر ولم تمت، بل ازدهرت وتنوعت أنماطها، ولا أحسبها ستموت أبداً.
(إن الرواية حيّة باقية لن تموت، وليس هذا ضرباً من التفكير الرغائبي، بقدر ما هو تأكيد لحاجات بشريّة لها جوانبها البراغماتيّة، تتطلّع إلى نتائج مثاليّة ضروريّة لبقاء الجنس البشري، واستدامته وسط ظروف صراعيّة معقّدة تعاكس ارتقاء حياة الكائن البشري في الجوانب العقليّة والنفسيّة والروحيّة). (10).
ومن حيث الشكل أيضاً لقد اتجهت عدّة روايات إلى تكسير قواعد الكتابة الروائيّة الكلاسيكيّة, بالتخلي عن السرد الخطي التصاعدي المتسلسل، واللجوء إلى تكسير المسرود واعتماد نظام الفوضى في تقديم أحداث عمله, لدرجة قد يشعر قارئ بعض الأعمال غياب ذلك الخيط الرابط بين تفاصيلها نتيجة الإسراف في التكرار, والتركيز على تفاصيل قد تبدو لمن اعتاد قراءة الأعمال الكلاسيكيّة غير ذات جدوى عندما يغرق الأبطال في سرد معاناتهم الشخصيّة في ظل الواقع العربي المأزوم الذي يستحيل على مخيال الروائي تقديم حلول له. لذلك حاول بعض الروائيين الهروب من (الآن) إلى الماضي فحكت عدّة روايات أحداثها في الماضي, والهروب من الـ (هنا) إلى خارج الحدود العربيّة, فـ”فوزية شويش السالم” هربت بطلة رواية (سلالم النهار) إلى مكان معزول على قمة جبال ولاية مسندم الواقعة على رأس مضيق هرمز، وطاف كل من “علي المقري، وفضيلة فاروق، وبثينة العيسى، وسعد السعنوسي ومحمد الشعري ” … بأبطالهم في عوالم كثيرة بعيدا عن الواقع العربي. (11). وهذا الهروب للأبطال نجده في رواية (طعم التوت البري) للقاصة فلك حصرية.
أهداف الرواية العربيّة المعاصرة:
لا شك أن أي عمل أدبي يحمل أهدافاً في مضمونه يريد إيصاله للمتلقي بهدف التأثير فيه سلباً أو إيجاباً, والرواية من الأعمال الأدبيّة الأكثر تأثيراً كونها الأكثر شعبيّة وانتشاراً. وهي تبني عوالم خياليّة ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه و مخيلته، كونها تصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصيّة بشغف, ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها, أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه.
من خلال عرضنا لأهم الظروف التي تحيط بواقعنا العربي, والعوامل الداخليّة والخارجيّة التي أثرت في خلق هذه الظروف, وخاصة تلك الأمراض المستشريّة على كافة المستويات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والفكريّة والسياسيّة, فقد جاءت أهداف الرواية لتسليط الضوء عليها وكشفها وما مدى تأثيرها على البنية الاجتماعيّة, وهذا الكشف يكفيها في الحقيقة كونه يشكل عامل توجيه للمتلقي العربي وتعريفه على واقعه وأسباب أمراضه السائدة فيه.
إن الرواية العربيّة المعاصرة في سياقها العام, استطاعت أن تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر تقديمها لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز. مثلما منحت قارئها ثراءً لغويّاً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب. كما أنها استطاعت تلخيص تجربة شخصيته. فالروايات معظمها سير شخصيّة تُقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه، وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة وثقافة الروائي.
كما أن الرواية قد تنقل تجربة تاريخية, فالمؤرخ يقدم أحداثاً وأرقاماً جامدة, ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ، فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسيّة والاجتماعيّة، بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليوميّة والتغيرات التدريجيّة التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث. ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي, وللشخصيات المهمشة في التاريخ, حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث, وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث, بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بنائه الروائي.
كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخليّة لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها، وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول: (لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي)، فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنيّة المنفتح على كافة مجالات الحياة، وعلى حد تعبير إبراهيم نصر الله: إن الرواية هي (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانيّة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعيّة ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي). (12).
إن الرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً كما أشرنا أعلاه, وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش”
1- الويكيبيديا. بتصرف.
2- الرواية العربية و تطورها – محمد هادي مرادي* – آزاد مونسي** قادر قادري*** رحيم خاكپور- دراسات في الأدب المعاصر، السنة الرابعة، شتاء 1391 ، العدد السادس عشر.).
3- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! – محمد الروائي العربي- جمهورية مصر العربية – موقع: https://www.ktlyst.org/). بتصرف.
4- (موقع :الجزيرة نت -هل ساهمت الرواية العربية المعاصرة في كتابة تاريخ جديد؟ – أشرف الحساني.). بتصرف.
5- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! – محمدالروائي العربي – جمهورية مصر العربية – موقع : https://www.ktlyst.org/ ). بتصرف.
6- المرجع نفسه.
7- المرجع نفسه. بتصرف.
8- (د. جابر عصفور: ابتداء زمن الرواية: ملاحظات منهجية، الرواية العربية ممكنات السرد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر2008، ص 155).
9- (- مغامرات الشكل القصصي من التقليدية إلـى التجريب ـ الرواية نموذجاً – د. محمد الكرافس. https://alketaba.com/ ). بتصرف.
10- (القدس العربي – الرواية في عالمنا المعاصر – لطفية الدليمي.).
11- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! – محمدالروائي العربي – جمهورية مصر العربية – موقع : https://www.ktlyst.org/ ).بتصرف.
12- (الرواية العربية ( الواقع والطموح ) – موقع ميداد : https://midad.com/ – محمد الفقيه). بتصرف.