دراسة نقدية لرواية “بطعم التوت البري” للروائيّة “فلك حصرية” / د. عدنان عويّد

0 245

د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الجمعة 30/8/2024 م …

     فلك حصرية: صُحفيّة الجذر العملي والمعرفي, وكاتبة مقال أدبي, امتلكت ناصية الأدب من خلال عملها في اتحاد الكتاب العرب كرئيسة تحرير لمجلة أدبيّة هي “الأسبوع الأدبي”, أكسبها العمل بها خبرة ومعرفة بالأدب وقضاياه الحلوة والمرة معاً, لتنتقل فيما بعد إلى كتابة الرواية.

في مضمون الرواية:

     في روايتها (بطعم التوت البري), تضعنا الروائيّة “فلك حصرية” أمام أحداث واقعيّة في مضمونها, وربما في بعض شخصياتها من خلال الوثائق المرفقة, مع تأكيدنا بأن بقية الشخصيات المتخيّلة في الرواية لا تخرج في الحقيقة عن الواقع الذي جرت فيه الأحداث, على اعتبار أن مجريات الأحداث التي قامت “الروائيّة” بسردها, هي أحداث واقعيّة لا مست كل أفراد المجتمع السوري كبارهم وصغارهم.. نسائهم ورجالهم, ولم تترك أحداً خارج دائرتها غير تجار الوطن والفاسدين الذين وجدوا في مجريات أحداث قهر الشعب السوري وظلمه وجوعه وجريان دمه المجاني وهجرته وتشرده, بيئة لتحقيق مصالحهم الشخصيّة على كافة المستويات.

    تنطلق أحداث الرواية ومعظم شخصياتها من دمشق العاصمة, ودمشق هنا في جوهر ما جرى فيها من أحداث إرهابيّة, ابتدأت عام (2011وامتدت إلى اليوم 2024), تمثل في الحقيقة الأراضي السورية كلها مجازاً, فلا فرق في هذه المعاناة بين أهالي دمشق وأيّة بقعة من سورية, فالكل تحولت حياتهم إلى جحيم وقهر وجوع ومعاناة في تدبير شؤون حياتهم اليوميّة ولقمة عيشهم, والأهم سيلان الدم المجاني, وفقدان للأمان وعدم الاستقرار.

     تُقسم الروائيّة رواياتها من حيث المضمون إلى محطات, ولكل محطة شخصيتها أو شخصياتها الذين تجمعهم مأساة واحدة هي تكالب كل قوى الشر في الداخل والخارج عليهم, وقد حولوا حياتهم إلى جحيم حقيقي, فقدوا فيه الأمن والاستقرار, ففي أي مكان يوجدون فيه تلاحقهم قذائف الموت الهمجية التي لا تفرق بين صغير وكبير وبريء وشرير, فالكل بنظر من يُلقي القذائف مدان سياسيّاً أو دينيّاً أو أخلاقيّاَ.

     مع أول محطة في الرواية, تؤكد الروائيّة توحدها هي مع دمشق بقولها متسائلة :

من أنت ؟.

من أنا؟؟.

     ومع هذا التوحد الصوفي للروائيّة, يأتي حبها بل عشقها لدمشق بكل الحالات التي تعيشها مدينة الياسمين من موت وحياة .. حقيقة أم سراباً.. جسداً أم روحاً.. ضحكاً كانت أم دمعاً.. لتعبر عن هذا العشق اللامتناهي لها بقولها: (توت سياح كنت أم وهم ظل لكأس مهشمة, فأنا السجين بأهدابك القتيل بفتنة تفاصيلك, فضميني.. ضميني.. ضميني واسكبي التاريخ مداماً في الروح, لعل طعم توتك ينسحب من حلقي فاستيقظ من هيستريا الضياع …) ص5-6. ثم تعود الروائيّة لتعبر عن كل ذاك التآمر الذي تعرضت له دمشق من قبل الأشقاء العرب مستشهدة بقصيدة للشاعر الدمشقي “نزار قباني” وهي بعنوان “سامحونا” التي يصف فيها حالة العرب وما وصلوا إليه من تردي وتشرد, والتي مطلعها: (إن تجمعنا كأغنام على ظهر سفينة… وتشردنا على كل المحيطات سنيناً وسنينا… لم نجد ما بين تجار العرب تاجراً يقبل أن يعلفنا أو يشترينا… سامحونا سامحونا إن رفضنا كل شيء واقتلعنا كل شيء ورمينا لكم أسماءنا … فالبوادي رفضتنا .. والموانئ رفضتنا والمطارات التي تستقبل الطير صباحاً ومساءً … رفضتنا… – ليقول أخيراً- سامحونا إن كفرنا.). ص7.

     هنا مع كفرنا في عصر ليس له تسمية, تبدأ أحداث رواية الأديبة “فلك حصريًّة” (بطعم التوت البري) بكل حموضته.

     في محطتها الثانية غير المعنونة إلا بعبارة للأديبة والروائيّة الكبيرة ” غادة السمان” الدمشقيّة المنبت والهوى التي عاشت الغربة تقول : (أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا, وما دمنا حين نرحل هرباً منها, نجد أنفسنا وحيدين معها وجهاً لوجه.). ص8

     لقد اشتغلت الروائيّة هنا على شخصيّة تعشق الشام, ولكن ظروف القهر التي ألمت بها منذ عام (2011), جعلتها تعيش حالة من الصراع النفسي العميق والتردد بين البقاء في الشام لعشقها لها, دمشق التي تعبأت برائحة وعطر الياسمين الذي تعربش على أصابعها, وعجزت كل رياح الغدر على اقتلاعها من جذور الأرض, رغم أن روحها تركتها الأحداث (المصيبة) مشلوحة على أسطحة مساءتها تغازل لآلئ مآذن الأموي, وبين مغارتها للخلاص من هول فجيعتها التي تعيشها.

     قامت الروائيّة بوصف دمشق وتاريخها العريق المشبع بالفرح والامجاد, وجمال طبيعتها في غوطتها وعذوبة مياهها وسر خلود نهر بردى فيها… دمشق التي كانت قبلة الدينا ومجد التاريخ”: ( دمشق هل الخلد الذي وعدوا به… إلاك بين شوادن وشوادي … قالوا تحب الشام ؟, قلت جوانحي مقصوصة فيها, وقلت فوادي ) ص11. وهي التي قال في أحد مناطقها الجميلة وهي “دمر” الشاعر الكبير” بشارة الخوري” في قصيدته: “خيال من دمر”:

    (أيها الدوح, دوح دمر إني لست أنسى تلك الليالي اليتامى.

سألتني وكفها فوق قلبي عمرك الله هل تحب الشآم؟.

قلت حباً زق الحمامة للفرخ فلم لا تكون ذاك الحماما..).ص.11.

( دمشق حملتها أشواق عشاق محفوفين ببريق الغموض والمجهول والأسرار فيما ينفث الصوت سحرا يلف اليقظة ويدوخ العقل, ويسكر الرأس ويخطف الكروان الفيروزي سنابل الوجدان والملل:

شآم أرض الشهامات التي اصطبغت

بعندي تمته الشمس منسكب.) ص12.

     صراع مرير يتداخل في نفسيّة هذه الشخصيّة العاشقة  لدمشق, لتقرر أخيرا الهجرة بعد أن سدّت أمامها كل أبواب الأمان والاستقرار, وأصبح الموت يلاحق الجميع بقذائف حملت التخلف والكراهية والحقد على الحياة. ولكن الهجرة أو الهزيمة الروحيّة والجسديّة ليست في المحصلة أفضل من البقاء. فها هي الطرق المؤدية إلي الهجرة تحيط بها المخاطر من كل حدب وصوب, ويأتي في مقدمتها مراكب أو سفن الهروب التي أكل الدهر عليها وشرب, وهي تدار لنقل المهاجرين عبر البحر بأيادي تجار لا يهمهم إلا جمع المال من الذين قسى عليهم الدهر كل قساوة حتى اضطروا إلى الاستجارة من الرمضاء بالنار.

     هذا هو حال قوارب الهروب إلى المجهول كما تصفها الروائية : (قوارب متداعية كأنها منبعثة من مقبرة الخردة.. أركانها محطمة حتى حركة إصلاحها وبعث الحياة والحركة في أحشائها وأصالها المرتدة إلى زمن ماضٍ باتت معها عملية الإيقاظ  وبعت الحياة والرشاقة فيها مستحيلة, فهي تمثل في أوصالها ومنظرها ما يؤكد شيخوختها, وبالتالي خروجها من الخدمة منذ أمد طويل. أما مآل هذه السفن المتهالكة التي أودى بعضها بحياة مئات السورين في عرض البحر طعما لأسماك القرش, فهو شبيه بنهاية الباخرة  (تايتنك) عام  (1912), التي راح نتيجة تحطمها موت (1500) راكبا. ص23.

     أما في محطة الرواية الثالثة, ( على ضفاف الحزن يذبح الأمل)… قصة حب أشبه بالحب العذري بين “فهر وليلى”. فهر طالب الطب في جامعة تشرين, وليلى طالبة الأدب العربي في الجامعة ذاتها, أحبا بعضهما رغم اختلاف الاختصاص لكل منهما, إلا أن ما يجمعهما أقرب بكثير… فالأمزجة وطريقة التفكير وأسلوبيّة التقويم للأشياء والأحوال والظواهر, كانت كلها تعمل على ربط الخيوط الخفيّة لتخلق الوصل بين روحين لم يمانع الأهل من التحامهما, فكانت الموافقة على الخطوبة كاستعداد لتحقيق الزواج.

     لم تكد الفرحة تتبرعم في القلوب وتفتح باب السعادة في تحقيق الحلم , حتى كان بدء الزحف الهمجي لقوى التخلف الذين عمت بصرهم وبصيرتهم أيديولوجيا التكفير من جهة, ومصالح القوى الخارجيّة ودولارتها من جهة ثانية, هذا الزحف الفاتك المتوحش على سورية, وكأن قيامة القتل قد قامت لتحصد الأرواح والحجر والشجر وكل ما يمت إلى حياة السوريين بصلة… كان اختراق صاروخ “غراد” لإحدى القوى الهمجيّة المتوحشة على حي آمن لم يسلم من نتائجه الكارثية الكثير من سكان الحي الشعبي الذي يسكنه “فهر” أيضا, الأمر الذي جعل “فهر” وأهله يفكرون بترك المدينة كلها والهجرة إلى دمشق التي لم تكن هي الأخرى بمنأى عما تعيشه المدن السوريّة كافة من انفجارات وألغام تقطف الأرواح دون رحمة وسابق إنذار. وهذا ما جعله وأهله يفكرون بالرحيل إلى أوربا, فاختار “فهر” فرنسا بعد أن أقنع حبيبته أن تلتحق مع أهله في السفر إلى “أزمير” ومنها يلتحقون جميعاً به. غير أن “ليلى” كانت أكثر رغبة في تسريع الالتحاق بخطيبها, وبعد جهد وجدت المهرب والأوراق التي تسمح لها بالسفر.. هي زوارق الموت المتعبة المتهالكة نفسها من سينقلها وينقل بشر من لحم ودم, أطفال ونساء وشباب وصبايا وأمهات ورجال إلى شواطئ أوربا, ولكن في هذه الرحلة لم تستطع قوارب الموت أن تقاوم هيجان عواصف البحر وعنفوانه, فكانت الكارثة الكبرى لكل من كان في القارب, بعد أن فككت العواصف حديده وخشبه, وتركت لسمك القرش أجساداً بدون أكفان, أو أسماء أو طقوس وداع.

     المحطة الرابعة من الرواية: (كثير من الموسيقى – وقليل من الخبز). حكاية شباب امتلكتهم موسيقى الروك, أبطالها ” ربيع صبري و أنس المغربي)… “ربيع صبري” الذي كان يحلم بتشكل فرقة موسيقيّة في الجامعة اتفق مع صديقه ” أنس المغربي” أن يسمياها “خبز دولة” هذا الخبز الذي سأل ” أنس ” صديقه “ربيع” : ماذا تقصد بـ “خبز دولة”؟.

(- قصدك الخبز تبع الأفران الحكوميّة يلي متوفر دائما ولكل طبقات المجتمع وبسعر رخيص.

– ويمثل الأمان والاستقرار والعيش الكريم بـ / دولة كريمة ومستقرة وذات سيادة … فالخبز أكثر من غذاء.

قوم نعزف شي شغلة.

قوم نلغي فرق العملة.

قوم نجمع كل ها/لخبز.

قوم نعمل دولة.) ص57.

     لم يكن الخبز وحده ومآسيه من يقهر “ربيع وأنس”, بل تلك القذيفة التي فتت جسد ربيع إلى شقف صغيرة غيبت كل معالمها, للتترك ” أنس” وحيدا كاد أن يفقد كل شيء بفقدان صديق العمر. فقرر أخيراً أن يهاجر إلى لبنان ويترك بيته وأهله وحيه وأحبابه ودمشق التي أحبها وأحبته, وهو يقول في قرارة نفسه: (لم يكن هناك أي وظيفة لأشخاص مثلي, وأنا لست الشخص الذي يستطيع حمل السلاح.). ص59… فكانت بيروت أولى المحطات التي استقبلت “أنس” العازف وقائد فرقة موسيقى الروك السورية ” خبز دولة”, لينجح في إقامة عدّة حفلات خلال عامين من وصوله, إلا أن فرص العمل شحت في لبنان, الأمر الذي أوقعه وأعضاء فرقته بضائقة ذات اليد… فقد الأمل من أن تكون لبنان خشبة خلاصه فقرر الرحيل بعد أن باع معظم أدوات الفرقة الموسيقية, وعلى جناح السرعة كان في تركيا حيث سبقه إليها أعضاء فرقته ( محمد باز – حكمت قسار – بشار درويش.), ومنها سافروا عبر المتوسط إلى أوربا…المحطة الأولى كانت “كرواتيا”, التي أقاموا فبها أول حفلاتهم الموسيقيّة في مخيم اللاجئين. وبعد انتشار أخبار حفلهم الناجح هذا, أقاموا حفلهم الثاني في أكبر المسارح في زغرب, وبعدها انفتحت أبواب المستقبل أمام الفرقة, ومع الزمن بدأت الفرقة تتلقى الكثير من الدعوات والعروض في ألمانيا وغيرها من مدن أوربا. وفي كل يوم تضيف الفرقة لرصيدها رقماً بعد رقم وأغنية بعد أخرى, وراحوا يدخلون إلى الأغاني كلمات عربيّة في حفلاتهم, ونجحت في جذب كل الفئات العمريّة.. هكذا مضت رحلة اغتراب أعضاء الفرقة التي عانت كل أنواع القهر في رحلة المتوسط , ليأتي ابداعهم الموسيقي كي يعتقهم من كل تلك العذابات, ويدفعهم إلى عوالم حفلات ومهرجانات في جميع أنحاء أوربا. ولسان حالهم يقول: (ها نحن نقدم صورة حضاريّة عن بلد ظلم من قبل ومن بعد, وشعب تاه أفراده في الشتات, ومات تحت الأنقاض, ودفن في البحر بلا شواهد وأسماء, وربما بات وجبة طعام لأسماك القرش أو تماسيح متوحشة لا تعرف الاكتفاء ولا يصل إليها الإحساس .. مثلما قتل وذبح متخلفين يحللون القتل تحت شعار ” الله أكبر وتكبير”… ويحللون الاغتصاب تحت شريعة “نكاح الجهاد”.. ويقطعون الرؤوس بتأويل آيات واعتماد أحاديث وفتاوى أوجدها من يكره الاختلاف, وهم بذلك يعارضون دين المحبة والرحمة… يقول أنس: لسنا مجرمين .. نحن أناس عاديون.).ص 75- 76.

المحطة الخامسة في الرواية : (في القلب غصة).

     أسرة دمشقيّة حاصرها القهر والجوع والقتل المجاني, فقررت ترك دمشق والذهاب إلى لبنان الشقيق, ولكن ظلم ذوي القربى كان أشد مرارةً على “أبي السعد وزوجته لجين وابنتاه حلا وربا وطفله الصغير ذو الخمس سنوات سعد”. .. لبنان التي مرت بحرب تموز استقبل أهلها المهجرين السوريون بكل رحابة صدر وفتحوا للمهجرين منهم حتى بيوتهم, ها هم اليوم في أزمة سوريّة الدامية يحاصرون ويذلون السورين الذين لجأوا إلى لبنان هرباً من الموت  ويذيقوهم الذل والهوان…

( ما يتعرض له السوريون حرام … حرام والله.

جريمة يا بشر … يا عرب.. يا أبناء جلدتنا.).ص80.

     ظلم ذوي القرى جعل أبا سعد يفكر في الهرب إلى الغرب, فكانت وجهته بعد أن اتفق مع المهربين هي مصر – الاسكندرية, ليدخل في رحلة عذاب مع جشع المهربين الذين أمنوا لهم إقامة رديئة في مواصفاتها حتى يأتي وقت تهريبهم ‘ إلى ايطاليا… القوارب التي ستنقلهم هي ذاتها قوارب الموت بما حازت عليه من مواصفات رديئة في بنائها أو هيكلها المتأكل.

     تمت انطلاقة الرحلة بكل معاناتها التي ولدتها عواصف البحر وأمواجه العاتية المتلاطمة, إضافة لتعطل القارب وتركهم في عرض البحر ينهشهم الجوع والخوف والمرض, إلى أن أنقذتهم طوافة حرس الحدود البحريّة الايطاليّة, التي اقتادتهم إلى ” سركوزة”, وهناك بدأت رحلة العذاب والإهانة للمهاجرين في الكامب, هذا الكامب الذي تحول إلى معتقل مورست فيه كل أساليب القهر والإذلال, فحتى الكلاب البوليسيّة سمح لها بممارسة دورها في نهش أجساد المهاجرين. .. بضعة أيام وهم على هذه الحال حتى سمح لهم بالخروج من الكامب والتوجه إلى الدولة الأوربيّة التي يرغب كل منها الذهاب ‘ليها بعد أن قدموا كل المعلومات المتعلقة بشخصياتهن للبوليس الايطالي.

     كانت وجهة أبا سعد وأسرته “السويد”, حيث أقلتهم حافة مع عشرين مهاجر آخر كانت لهم وجهات أخرى غير السويد. أخيرا أبدت السويد  ترحيبها بأبي “سعد” وعائلته وفتحت لهم مدينة “مالمو” ذراعيها وقلبها لتطوي صفحات رحلة مضنية ستمسي في عداد الزمن مع الذكريات التي لا تخلوا من المرارة والحلاوة والحقيقة والخيال. (كانت رحلة حلم.. تجردت من كل ما علق فيها من كوابيس وعذابات … رحلة ألق… بكل ما كان يحف بها ويلاحقها من ألم ودموع وجوع وخوف وحرمان وتشرد.. مسيرة موت لروح فارقت دمشق ولم تفارقها .. ). ص151.

المحطة السادسة: (عصافير… تنقر الذاكرة …).

     لم يكن رمي القذائف يرحم أحدا.. فالكل مدان أمامها ويجب أن يموت بنظر ممارسي الإرهاب ومدعي الثورة باسم الإنسان وحقوق الإنسان الضائعة في سورية.. قذائف أخرى طالت ألسنة لهبها وقوة تفجيرها مقصف جامعة البرامكة, في تلك الاستراحة باتت القبور مشرعة والأجساد متطايرة, وفناجين القهوة تطايرت مع أيدي شاربيها ليمتزج الدم مع البن. كان لماجد الحظ الأوفر من بين العديد من زملائه الطلبة الذين تواجدوا في استراحة التداول في شؤون المعرفة والعلم والمستقبل, لقد أصيبت إحدى قدميه بشظيّة, بينما فارق الحياة زميله “علي” الذي كان يشاركه الطاولة بعد أن حطمت إحدى شظايا القذائف رأسه. وكذلك كان مصير صديقه “مازن” توأم الروح.

     ماجد ممدد على سرير في “مشفى المجتهد” ما بين الموت والحياة في العناية المشدّدة…

– (حمداً لله على سلامتك.

– الحمد لله وما شاء قدر وفعل.

– اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف به.

لو طلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع). ص159,

      بهذه العقليّة الايمانيّة الجبريّة, رضي واستكان والد ماجد وعائلته, وهم الذين لم يرحمهم الارهاب أيضاً… صاروخ من صواريخ الغدر يتوجه إلي بيتهم الجميل في دمر فيحيله إلى ركام, ليقرر بعد ذلك أبا ماجد الهجرة دون تردد… باع محله وسيارته واستقرض مبلغاً من شقيقه… كانت وجهة العائلة تركيا. ومن هناك قرر “أبو ماجد” أن يهاجر ولديه “ماجد ومحمود” إلى أوربا لتكملة دراساتهما هناك. قسم بينهما مبلغا من المال يكفيهما في رحلة الهروب التي لا تُعرف مخاطرها ونتائجها…. غادر الأخوان إلى الجزائر بالطائرة, ومن هناك التقيا بالمهربين بعد جهد كبير, لنقلهما مع عدد آخر من راغبي الهجرة إلى مدينة “زوارة” في ليبيا… ومنها ابتدأت رحلة الموت والعذاب والذل والخوف وجشع المهربين وعواصف البحر ورعبه, بقارب مطاطي احتشد في جوفه المهاجرون كعلب السردين.. حالفهم الحظ في الوصول إلى شواطئ ايطاليا, وفي مركز الإيواء التقى “ماجد ومحمود” بأصدقاء لهم نالهم شقاء دمشق مثلهما.. يتابع الجميع رحلة الهجرة منهم إلى ألمانيا, ومنهم إلى اليونان وإلى إيطاليا… وقبل انطلاقة الحافلة يصيح أحد الشباب مخاطبا صديقه بلال:

(- انظر يا بلال… نجمة براقة رائعة.. ما أروعها… إنها تقترب… أجل تقترب نحونا…فضحك بلال وتأمله باستغراب:

– أية نجمة تلك يا سهيل ؟. إنها تكبر) ص177.

     أما ما تبقى من محطات في الرواية فهي لا تخرج عن السياق العام لمعاناة المهاجرين التي جئنا عليها في المحطات الأولى بشكل خاص ولكل الموطنين بشكل عام, فهذه المحطة السابعة التي تبين لنا حالة الشاب “عاصم” خريج كلية الاقتصاد من جامعة دمشق, الذي لم يستطع الحصول على وظيفة فيها فأمن له والده عملاً بعقد مدته عشرة سنوات في الإمارات.. وعند انتهاء العقد فُرض عليه أن يغادر دبي بعد أن عجز في تأمين عمل بديل له هناك. فالعودة إلى سورية لم تعد ممكنة فهناك قذائف الموت وهناك المعاناة في تأمين متطلبات الحياة الضروريّة… وهناك الخدمة العسكريّة التي لا يعرف سنين بقائه فيها.. فقرر الهجرة إلى تركيا ومنها إلى أوربا في رحلة العذاب ذاتها,

     في المحطة الثامنة هي قصص مهاجرين فقدوا الأمل في كل شيء فقرروا  الرحيل بحثاً عن الأمل في بلاد الغربة, وهم يعلمون بأن الأمل الحقيقي في وطنهم حتى لو حققوه في الغرب إلا أنه يظل ناقصاً ومشوباً بالشوق والحنين إلى الوطن … ( ريناد) شابة مغربيّة أو غجرية جميلة تمارس مهنة ضرب الفأل والعرافة.. استغلت ضياع العقول والأجساد والأرواح عند المهاجرين في مركز التجمع فراحت تمارس مهنتها التي وجد فيها المسافرون سلوى لمعرفة ما يستقبلهم من أيام.. (كذب المنجمون ولو صدقوا).. ولكنه العجز هو الذي يدفع مثل هؤلاء المهاجرين البؤساء إلى ” ريناد”.

     أما في المحطة الثامنة: قصة الشاب عمران الذي ضاقت به سبل الحياة, وملأ الخوف والاحساس بالموت حياته والذي يمكن أن يناله في أية لحظة.. رحلة جديدة مع بعض المهاجرين عن طريق الطائرة من مطار حميميم .. هي المعاناة ذاتها, ولكن هذه المرة في أرض الوطن أولاً.. تبدأ بتأخر سفر الطائرة عدّة أيام بدون سبب .. وارتفاع في الأجر, وعند الوصول إلى القامشلي تبدأ رحلة المهربين من القامشلي إلى تركيا التي يشارك بها ويسهل أمرها بعض الأكراد ومنهم في مواقع المسؤوليّة.. ابتزاز مالي.. ومتاجرة بالبشر… وخيانة للوطن.. يصل عمران وصحبه بعد معاناة قاسية إلى تركيا لتبدأ رحلة العذاب الأخرى إلى أوربا … تجار آخرون من المهربين وقوارب مطاطيّة.. وسفن متهالكة.. وعواصف البحر.. والخوف من المجهول حتى بعد وصولهم أوربا.

     في المحطة الأخيرة من الرواية وهي: (الأعمار رهائن… المصارع).

    في المحطة الخاتمة من الرواية, تدخلنا الروائيّة “فلك حصرية” في أسباب أخرى لمعاناة السوريين قبل أن تنالهم قذائف الجهل والتخلف والأيديولوجيا العمياء ولعبة الدولار وشهوة السلطة وخيانة الوطن. تدخلنا في عالم الفساد الذي راح ينخر الدولة والمجتمع منذ عدّة عقود.. هنا تَكْشِفُ لنا (المسكوت عنه) وحتى (المضمر) في حياة الشعب السوري.. في مسرحيّة “كاسك ياوطن” لـ”محمد الماغوط” نظرياً, و”دريد لحام وهالة شوكت” والعديد من الممثلين السورين تطبيقاً.. في كاسك يا وطن تظهر لنا تشكل الارهاصات الأولى  لمعاناة السوريين,التي تتصاعد فيها أحداث المسرحية للوصول إلى مشهد بيع الأطفال من أجل تأمين لقمة العيش.. وفي بيع الأطفال تُفْقًدُ قيمة المناضلين الحقيقيين والشرفاء في هذا الوطن..

(- من مال الله يا محسنين .. من مال الشعب يا مناضلين.

– ما وراك يا أخي”.

– كما ترى يا أخي … إيد من ورا وإيد من أدام.

– الله أومال شو عم تبيع؟!!.

– عم بيع ضنايا… عبود بابا عبود…عود حبيبي.

– يعني عم تبيع ولادك؟ !!.

-إيه نعم… عمرك شفت هيك أب .. العمى شو حقير أنا.

– جدهم شهيد.

وإلهم شجرة عيلة.

– ولك إلهم سنديانة عيلة.) ص233.

     هذا المشهد يحصل فعلا في الأحداث السوريًة الأخيرة حيث تقوم امرأة ببيع أربع أطفال (أولادها) لسائح أجنبي بـ (600) دولار.

     وهنا يستمر التعجب الممزوج باللامعقول كما تقول الروائيّة.. لتكشف جدليّة الواقع عما هو خطير فعلًاً, وبأنه ما من شيء يأتي من فراغ, وما من فعل ينطلق من المجرد.. فكل شيء بدا لنا اليوم حقيقة استند إليها “الماغوط”.

     هذه هي الحقيقة ( إنسان بلدي ضاع أو ضيّع.. إنسان النكبة الجديدة دفعه الخوف من الموت للهروب إلى الموت, فمات قهرا وحزنا ويأساً وقلة كرامة قبل أن يموت غرقاً وتنكيلاً ورفضاً لوجوده فوق مسرح الوجود.). ص241.

الرواية في الشكل”

     لم يأت عنوان الرواية عبثاً, بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. فتوت الشام الحلو المذاق الجميل المنظر ذو الشهرة الواسعة الذي يعبر عن جماليّة الشام بكل تجلياتها, يأت العنوان ليشي بنوع آخر من التوت, وهو التوت البري, بطعمه الحامض, وهو هنا يدل على طبيعة التغيرات الكبيرة والجسيمة في قهرها ومصيبتها التي بدأت تنال الشام وسورية عموما  وحولت حياة أهلها بكل تفاصيلها إلى جحيم.

     أما غلاف الكتاب بألوانه التي سيطر عليه اللون الأحمر والأسود والبني الغامق, وهي ألوان حارة في سماتها وخصائصها, تشير أيضاً إلى عمق المآساة (الترجيديا), التي تمر بها الشام, فالدم المسفوح في كل مكان يشير إلى حياة فقدت زهوها وجماليّة علاقاتها وحتى طبيعتها, فساد ظلام الروح والعقل والجسد معا. وهنا يتطابق عنوان الرواية مع ألوان الغلاف ليشكلا لوحة تراجيديّة بكل تفاصيلها.   

بناء الحدث الروائي:

     جاءت الأحداث في الرواية متماسكة وعقلانيّة إلى حد كبير, حيث ترتكز في مضمونها وقيامها ودوافعها وأحدث كل محطة فيها إلى أسباب حقيقيّة, هي من ساهم في هروب السوريين من الموت والفقر والجوع والخوف الذي حل في دمشق وسورية كلها.

     فأحداث الرواية كما بينا في عرضنا لبنيتها كانت مفعمة بالكوارث والمصائب والدم. وكل الأحداث الواردة في محطاتها تدور في إطار المشكلات العامة التي وقعت فيها سورية. فمعظم شخصياتها ذات حالات فرديّة أو أسريّة إلى حد ما, قد حكمتها الغربة والهجرة وشقاء مسيرتها, ووعيها وسلوكياتها, وهذا ما جعلها تخلوا وتقطع إلى حد بعيد مع العلاقات الاجتماعيّة, رغم أن ذكريات الأهل والأصحاب والوطن كانت طريّة في ذاكرة كل فرد منها.

الملامح الشخصيّة:

     إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها, وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب. وشخصيات الرواية كانت مقنعة تماما كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة في مواقفها وتفكيرها وحتى سلوكياتها .. بيد أنها شخصيات الرواية رغم ما قامت به من مغامرات قاسيّة هروباً من الموت في وطنها, إلا أنها ظلت فاقدة لإرادتها في صنع أحداثها, عدا قرارها في الهجرة, أما كل ما حدث لها في مسار رحلة الهجرة ظلت محكومة مستسلمة للقدر أولاً, وللمهربين ورجال بوليس الشواطئ الأوربية ثانياً. وهذا ما جعلها شخصيات غير ناضجة فنيّا داخل محطات الرواية, فالقاصة هي من كان يوصف حركتها وطريقة تفكيرها وحالاتها النفسيّة بحيث تشعر وكأن الكاتبة هي من رافق كل شخصيات روايتها في كل محطات الرواية, وهي الشاهد على كل ما تعرضوا له من معاناة, داعمة سردها في النهاية ببعض الوثائق لتحقيق مصداقيّة ما جرى لأبطال الرواية…. 

القص بطريقة المقالة:

     الرواية تتكون من عدّة عناوين أو محطات كما بينتُ بداية, وهذا يدل على تأثير العمل الصحفي على الروائيّة من جهة, وكونها كاتبة مقالة أدبيّة كان التأثير على سردها, أو قصها الروائي من جهة ثانية. فهناك غياب كبير للحور عند شخوصها كونها كما قلنا هي من قام بتأدية هذا الدور من خلال رسم شخصياتها وحركتهم ومعاناتهم منذ انطلاقتهم الأولى وصولاً إلى المحطة الأخيرة لكل شخصية. علماً أن هذه الطريقة في عرض أحداث الرواية فسح في المجال واسعاً للروائيّة أن تجود في عبارات وجمل لغويّة بتعبير بلاغي ذي صنعة وصياغة أدبيّة  تحقق الإدهاش عند المتلقي, إلا أن تكرار العديد من جملها وعبارتها في محطات الرواية, قلل من حماس المتلقي ودهشته لها, فيضطر أحياناً إلى القفز متجاوزاً ما يتكرر في سردها من وصف للطبيعة على سبيل المثال ومنها البحر وعواصفه وانعكاسه على نفسيّة شخوصها. 

العناية باللغة:

     العناية باللغة التي صيغت بطريقة شاعريّة. تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة, كالترادف, والطباق, والمقابلة, والتورية, وكثرة الانزياحات اللغويّة, والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة, الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة بشكل مدروس كحرفة تمتهنها الروائيّة بشكل متعمد, وهذا ما حول الصفة الأدبيّة من السهل الممتنع, إلى تصنيع متكلف يرهق دلالات المعنى.. إن صياغة البلاغة في أسلوب الروائيّة هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. كما أشرنا قبل قليل.

التناص:

      استخدمت الروائيّة التناص بشكل عقلاني, وهذا يدلّ على سعة ثقافتها وقدرتها على التضمين, فهناك الكثير من الأحدث التاريخيّة والشعر والأمثال والحكم والأقوال التي وظفتها بشكل ذكي وعقلاني لإغناء مواقف مرت بها شخوصها في محطاتها الروائية مثل:  غرق الباخرة (تيانتك). وقصيدة نزار قباني (سامحونا) وكل ما ورد من أقوال وأشعار مشبعة بمضامين تتفق وجوهر مضمون شخصياتها ومسيرة هجرتهم ومعاناتهم. كما هو الحال مع غادة السمان. وماريو فارغاس يوسا. وبدر شاكر السياب. وغير ذلك الكثير وصولاً إلى الماغوط وكاس ياوطن.

الرواية تقع في (286) صفحة من القطع المتوسط. إصدار دار العراب – دمشق سوريّة – حلبوني الجادة الرئيسة.

* كاتب وباحث من سورية

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إحدى عشر − تسعة =