فلسطين تكشف زَيْف ديمقراطية رأس المال / الطاهر المعز

304

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 30/4/2024 م …

المكارثية الجديدة

انهالت القنابل الصهيونية على المستشفيات والمدارس ومحلات العبادة ومحلات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أنروا) وبلغت نسبة الأطفال 50% من الضحايا، وجميعهم مدنيون، حيث لا يوجد عساكر أو جنود فلسطينيون، ولم تُؤَدّي الإبادة والمجازر واكتشاف المقابر الجماعية والجُثث المتناثرة إلى خفض الدّعم الحكومي الأمريكي والأوروبي للكيان الصهيوني، لكن صَرّح أندرو غيلمور، مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ل”بي بي سي نيوزنايت” إن الفلسطينيين يعانون من عقاب جماعي، وأن ما نشهده في غزة هو “على الأرجح أعلى معدل قتل لأي جيش منذ الإبادة الجماعية في رواندا سنة 1994″، وكتبت المنظمة الأمريكية هيومن رايتس ووتش إن الجيش الصهيوني يستغل فرصة انشغال العالم بما يحدث في غزة وأوكرانيا لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، فيما تتجاهل “الصحافة الحُرّة” استمرار النّكبة، بل أمرت إدارة صحيفة “نيويورك تايمز” الصحفيين عدم استخدام مصطلحات “الإبادة الجماعية” و”التطهير العرقي” و”الأراضي المحتلة”، وما هذه الصحيفة سوى نموذج لوسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية وحَظَرت وسائل التواصل المُسمى “اجتماعي” استخدام عبارات “وضع حدّ للإستعمار الإستيطاني” أو تحرير فلسطين أو من النهر إلى البحر أو حتى فلسطين حرة ( Free Palestine ) وتَمّت مُحاصرة ومُلاحقة طلبة وأساتذة الجامعات الذين ندّدوا بالعدوان الوحشي وبالمجازر والإبادة وطالبوا بوقف الدّعم الأمريكي وبسحب الإستثمارات الخ  

فَرْض الصّمت في حرم الكلية

ورد في تقرير خبراء منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان – ohchr – بتاريخ 18 نيسان/ابريل 2024 : “بعد ستة أشهر من الهجوم العسكري الإسرائيلي، قُتل أكثر من 5,479 طالبًا و261 معلمًا و95 أستاذًا جامعيًا في غزة، وأصيب أكثر من 7819 طالبًا و756 معلمًا – مع تزايد الأعداد كل يوم، وتعرض ما لا يقل عن 60% من المرافق التعليمية، بما في ذلك 13 مكتبة عامة، للأضرار أو الدمار، ولا يتمكن ما لا يقل عن 625 ألف طالب من الوصول إلى التعليم، كما تعرض 195 موقعًا تراثيًا و227 مسجدًا وثلاث كنائس للأضرار أو للتدمير، بما في ذلك الأرشيف المركزي لغزة الذي يحتوي على 150 عامًا من التاريخ، وهدم الجيش الإسرائيلي جامعة الإسراء، آخر جامعة متبقية في غزة، يوم 17 كانون الثاني/يناير 2024…”

شكّل العُدوان الصهيوني وحرب الإبادة التي قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين فُرصة لتشديد الخناق على “المجتمع المدني” في الولايات المتحدة وأوروبا والدّول الحليفة لها، وفرصة لتكميم الأفواه وَرَفْض أي انتقاد لما تصفه المنظمات الدولية المختلفة بجرائم حرب، وتَعَرّضَ الصحافيون والعاملون في مجال الثقافة والتعليم إلى الرقابة والمراقبة والإعتقال بتهمة “مُعاداة السّامية”، وتعرّضوا لعنف الدّولة – خصوصًا في أمريكا الشمالية وأوروبا – وأصبح الطّلاب والمُدَرِّسُون التّقدّميون والنقابيون هدفًا للطّرد من العمل وللمحاكمات الجائرة، في ظل مناخ قَمْعِي يُذَكِّرُ بفترة الماكارثية ( نسبة إلى السيناتور “جوزيف مكارثي” خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين) التي تهدف  تشجيعَ الجَهْل وفَرْضَ القيود على ما يمكن تدريسه من أجل السيطرة على الجامعات والتّشهير العَلَنِي بالطلاب والمُدَرِّسِين التّقدّمِيِّين ومُضايَقَتِهِم من خلال نشر معلومات شخصية على الشبكة الإلكترونية ، مما أدّى إلى طرد العديد من الطّلبة وفصل العاملين من وظائفهم، واعتقال المئات في الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، وإدانتهم خلال جلسات المُحاكمات الصُّورية، وتم القبض على أكثر من مائة طالب في حرم جامعة كولومبيا وتم إبطال هوياتهم الطلابية، وتم طردهم من مساكنهم، ما يُؤَشِّرُ إلى التعاون بين إدارة بعض الجامعات وأجهزة الشرطة وجهاز القضاء واليمين المتطرف ولجنة التفتيش في مجلس النواب كجزء من برنامج واسع لقمع حريات التعبير الأساسية، غير إن هذه الإجراءات القَمْعِيّة أدت إلى تكثيف الاحتجاجات في حرم الجامعات “ضد العنف الصّهيوني الوحشي” والدّعوة إلى المُقاطعة وسحب الإستثمارات من فلسطين المحتلة ومطالبة الحكومات بوقف إرسال المساعدات العسكرية إلى دولة الإحتلال.

شكّلت جامعة كاليفورنيا نموذجًا للإنحياز الأعمى ولمُعاداة الحُرّيّات الأساسية، وكان من المقرر أن تلقي أسنا تبسّم، وهي أميركية من جنوب آسيا، مخصصة في الهندسة الطبية الحيوية والتاريخ (مع تخصص فرعي في مقاومة الإبادة الجماعية)، خطابًا في حَرَم جامعة جنوب كاليفورنيا  (USC)،أمام 65 ألف شخص باعتبارها الطالبة المتفوقة لدفعة 2024، وألغت الجامعة خطابها لأنها شاركت في المناقشات الطلابية حول العدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وتم استهدافها من قبل الصهاينة الذين اعتبروها تُشكّل تهديدًا لهم وللكيان الصهيوني وللدّولة الأمريكية، في عملية مدروسة ومُنَسَّقَة لفرض الرقابة على الطلاب من قِبَل إدراة الجامعات ومن الشرطة المحلية التي تعتقل الطّلاّب في الحرم الجامعي، خصوصًا بعد تصويت الاتحادات الطلابية في جميع أنحاء البلاد على قرارات ولوائح لإجبار إدارات الجامعات على سحب استثماراتها من فلسطين المحتلة.

توسعت رُقعة الإحتجاجات وشملت جامعات ولايات نيويورك وتكساس وكاليفورنيا و“جورج واشنطن” وميريلاند وكولومبيا وفيرجينيا، والعديد من الجامعات الأميركية الأخرى، حيث نصب الطّلاّب خيم الإعتصام في حرم الجامعات، احتجاجًا على الدّعم المُطلق للكيان الصهيوني، تحت شعارات حرية التعبير والكف عن قمع الطلاب والمقاطعة وسحب الاستثمارات، وقطع العلاقات مع المؤسسات الأكاديمية الصهيونية، وألقت شرطة بوسطن القبض على أكثر من مائة طالب من كُلِّيّة “ايمرسون” (بوسطن) ومثلهم في جامعة جنوب كاليفورنيا و ستين طالبا من جامعة أوستن (تكساس) وتم إغلاق جامعة بوليتكنيك في ولاية كاليفورنيا… 

بين 1968 و 2024

بدأت المُقاومة الفيتنامية هجومًا عسكريا ضد الإحتلال الأمريكي سنة 1968، وساهم هذا الهجوم في تكثيف نشاط المُعارضين للحرب في الولايات المتحدة، وتم اغتيال القِسّ مارتن لوثر كينغ (نيسان/ابريل 1968) والسيناتور روبرت كيندي (حزيران/يونيو 1968) وهما من رُمُوز مناهضة الحرب في الحزب الديمقراطي، وزادت مُعارضة طلاب الجامعات والفنانين والمثقفين التّقدّميين للعدوان الأمريكي (خلال حُكم الرئيس ليندون جونسون) على شعب فيتنام، ليس حبًّا في السّلام وإنما تحاشيا للتجنيد الإجباري في ظل ارتفاع عدد القتلى من الجنود الأمريكيين، وزادت إضرابات المدارس الثانوية في جميع أنحاء البلاد، وتدخّل “الحرس الوطني ( تحت إمْرَة الوُلاّة) لقمع الإحتجاجات في ولايَتَيْ كينت وجاكسون بوحشية كبيرة ضدّ الطّلاّب الذين كانوا يخيمون في مروج الكلية، وبذلك فقد هيوبرت همفري، مُرشّح الحزب الدّيمقراطي دعم المُناهضين للحرب، ومارست الحكومة الإتحادية وحُكّام العديد من الولايات التّعتيم الإعلامي ومن بينهم ” ريتشارد دالي” عمدة شيكاغو في تنظيم تعتيم إخباري على نشاط الاحتجاج وقامت شرطة شيكاغو بضرب المتظاهرين بالهراوات والقبضات، ضمن حملة قمع عنيفة أدّت إلى خسارة الحزب الدّيمقراطي وفَوْز رتشارد نيكسون بالإنتخابات الرئاسية، ويتخوف بعض أقْطاب الحزب الدّيمقراطي من خسارة جوزيف بايدن انتخابات سنة 2024، بسبب الدّعم المُطلق للكيان الصهيوني وأوكرانيا، وفتح عدة جبهات ( إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية…) في ظل ارتفاع حجم الفقر ونسبة فاقدي المأوى داخل البلاد وفي ظل تكثيف القمع ضد أي شكل من الإحتجاج ضد العدوان الصهيوني، وتُشكل جامعة كولومبيا نموذجًا لهذا القَمْع السّافر الذي يستهدف الجامعات مثل كولومبيا وهارفارد وبنسلفانيا، وخصوصًا جامعات النّخبة كجزء من حملة يمينية ضد برامج التنوع والمساواة في مؤسسات التعليم، ويدّعي بعض زعماء ونواب الحزب الدّيمقراطي إن الرئيس جوزيف بايدن لم يتعلم الكثير من دُرُوس التّاريخ.

بالغت وسائل الإعلام وأجهزة الدّولة في أمريكا وأوروبا في إثارة قضية “معاداة السامية” بغَرَضِ إسكات أي صوت مُعارض أو مُحتج مقابل تجاهل العُنف ضد هؤلاء ومقابل الصمت المُطْبق بشأن انتشار ظاهرة مُعاداة العرب والمسلمين والأمريكيين السود وكل من يدعم حقوق الفلسطينيين، واعتبار احتجاجاتهم “تهديدًا للدولة”

تَعَرَّضَ التعليم العالي الأمريكي منذ انتخاب رونالد ريغان سنة 1980 لهجوم شديد من قبل قوى النيوليبرالية التي عزمت على تحويل التعليم إلى مجرد ملحقات لمكان العمل ومختبرات للقمع الأيديولوجي، وأصبح التعليم العالي فَرْعًا للشركات العابرة للقارات، بدَلَ نَشْر قِيَمِ المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية، خصوصًا بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا سنة 2016، وفق رئيسة الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات…  

الاحتجاجات الطلابية في أوروبا

لا تقتصر الإحتجاجات على الولايات المتحدة بل امتدّت إلى أوروبا، داخل الجامعات وخارجها ضد الكيان الصهيوني الذي يُواصل منذ العام 1948، سرقة المزيد من الأراضي والثروات وسياسة القتل المنهجي في فلسطين، ليس في غزة والضفة الغربية فقط، بل وكذلك في الدول المجاورة، بفضل الدعم غير المشروط من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والدّول الأعضاء بالإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الخ، ويؤكد العديد من الشهود والمحققين والحقوقيين أن عناصر الجيش الصهيوني والمستوطنين يقتلون عمدا عشرات الآلاف من النساء والأطفال، ويدمرون بشكل منهجي المنازل والمدارس والمستشفيات والكنائس والمساجد والبنية التحتية، ويصف هؤلاء الشهود هذه العملية بالتطهير العرقي بهدف القضاء على الشعب الفلسطيني

لم تختلف حكومات الدول الإعضاء في الإتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة في تقييم “محاسن” الإحتلال الصهيوني أو ممارسة الإبادة الجماعية، ولم يختلف الإعلام الأوروبي عن مضمون الإعلام الأمريكي ولم تختلف رؤساء الجامعات الأوروبية عن رؤساء الجامعات الأمريكية، وتميّز جميعهم بالدّعم المطلق للكيان الصهيوني ومارس جميعهم القمع والإعتقال وحَظْر الرأي المُختلف…

أدّى تكثيف القصف الصهيوني إلى تَوسّع رقعة الإحتجاجات في أوروبا والولايات المتحدة، وشملت في فرنسا كلية العلوم السياسية ( Sciences politiques ) والسوربون وتظاهر آلاف المواطنين الإيطاليين في مُدُن عديدة تما فيها مُدن الشمال، حيث تهيمن تيارات اليمين المتطرف، وتمرّد جيل الشباب في ألمانيا على جيل الأجداد والآباء الذين يتعلّلون ب”عُقدة الذّنب” لدعم الكيان الصهيوني بصورة مطلقة، جاعلين منه مُمثّلاً ليهود العالم، بمن فيهم يهود ألمانيا الذين اضطهدهم نظام ألمانيا النازية بين 1933 و 1945 وساهم في إرسالهم إلى فلسطين لاستعمارها واستيطانها…  

تُعَدُّ فاليري بيكريس، رئيسة منطقة إيل دو فرانس ( باريس وأحوازها القريبة والبعيدة) وهي أغنى منطقة وأهمها كثافة سُكّانية في فرنس، من أثْرَى السياسيين في البلاد، ومن أشدّهم يمينيةً وصَهْيَنَةً، وأعلنت يوم الإثنين 29 نيسان/ابريل 2024، تعليق التمويل وائتمانات التشغيل والإدارة – مُساهمة الإقليم – لجامعة “سيانس بو” (العلوم السياسية) النّخبَوية والعريقة في باريس، بسبب التظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني والمُندّدة “بحرب الإبادة”، واتّهمت المُحتجّين من طلبة ومُدَرّسين “بالدعوة إلى الكراهية المعادية للسامية، وتزامن إلغاء إلغاء تمويل معهد العلوم السياسية للعام 2024 مع منح ما يقرب من مليون يورو لمدرسة خاصة يمينية (سياسيا) ورجعية (اجتماعيا)، وتعرضت لعدة فضائح مالية وأخلاقية خلال السنوات الماضية، واعتبر نواب اليسار هذا القرار انحيازًا للمؤسسات الفاسدة وتطبيقًا  للمعايير المزدوجة.

تُعبّر فاليري بيكريس – رئيسة منطقة باريس وما حولها – عن موقف طبقي وقومي مُعادي للفقراء داخليا وللشعوب المُضطَهَدة في الخارج، فهي امرأة غنية جداً  بالوراثة)، ويمينية جداً، وناشطة صهيونية دافعت عن دولة الاحتلال خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، كما عارضت الحق في مناقشات حرة ومستنيرة داخل الجامعات الفرنسية، عندما كانت وزيرة، وأدى قرارها تعليق التّمويل إلى توسع التعبئة إلى جامعة السوربون، حيث نصب الطلاب خيمًا داخل مباني الجامعة، وحشدت الحكومة الفرنسية المئات من ضباط الشرطة المسلحين الذين هاجموا هؤلاء الطلاب…

وصلت التعبئة إلى الجامعات الفرنسية بشيء من التأخير، وأعلنت الحكومة عن إجراءات قانونية ضد مئات المواطنين بتهمة “تبرير الإرهاب” (الإرهاب المزعوم للفلسطينيين ضد المستوطنين الصهاينة “المُسالمين”، وأبرمت إدارة Sciences Po يوم السادس والعشرين من نيسان/ابريل 2024 اتفاقًا مع الطلاب الذين كانوا يحتلون الحرم الجامعي، ويواصل الطلاب والمعلمون الاحتجاج ضد الكيان الصهيوني بأشكال أخرى من الاحتجاج.

تحاول الحكومة الفرنسية –كنموذج للعديد من الحكومات الأوروبية – تجريم من يذكرونها بحقوق الإنسان الأساسية، وتحظر أي شكل من أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، واتهمت – حتى الواحد والعشرين من نيسان/ابريل 2024 – أكثر من 650 شخصًا بـ “الترويج للإرهاب” لأنهم يدعمون حق الفلسطينيين في المقاومة، وتجتاح فرنسا موجة من الحظر، في انتهاك صارخ للمادة الرّابعة من الدستور الفرنسي التي “تضمن التعبير التَّعَدُّدِي عن الآراء” والمادة 11 من إعلان حقوق الإنسان للعام 1789 التي تضمن لكل مواطن التحدث والكتابة والطباعة والنّشر بحرية…

لقد تم اتهام نيلسون مانديلا وجبهة التحرير الوطني الجزائرية ومُقَاوِمِي الإحتلال النّازي، خلال الحرب العالمية الثانية بالإرهاب، واليوم يُواجه النقابيون والطلبة والمواطنون التقدّميون نفس التّهمة لأنهم ندّدوا بإرهاب دولة الإحتلال وبالدّعم الأمريكي والأوروبي لعمليات الإبادة، ما يُؤشِّرُ إننا نعيش في عصر الإستبداد والفاشية الزاحفة التي يقودها المُجَمَّع الصِّنَاعِي العَسْكَرِي، وعَصْرَ الهجوم المباشر على المُعَارَضَة والإختلاف في الرّأي، وحرية التعبير، والحرية الأكاديمية، والمؤسسات التي تدعم الحقوق والممارسات الديمقراطية، ويتعرض التعليم العالي بشكل خاص، للضّغُوط وللهجوم من قِبَل الساسة الحاكمين ومن إعلام المليارديرات اليمينيين، والساسة المستبدين الذي يعترضون على تثقيف الشباب ليكونوا مواطنين مُطَّلِعِين يُمارسون النّقد الإجتماعي المُستَنِير والتّحدِّي والتفكير الحُرّ، ويريدون جعل مؤسسات التعليم العالي مُجَرّدَ مراكز تلقين حيث يتم ازدراء الأفكار النقدية وطرق التدريس التمكينية، وتحويلها إلى أجهزة للرقابة واليأس، ونَشْر أساليب التدريس المُصَمَّمَة لاستنساخ الثقافة والمعرفة، وترويج العنف العنصري ومنطق الكراهية والإقصاء والإبادة، ووجهات النظر اليَمينِيّة المتطرفة المُعادِيَة لِقِيَم الكرامة الإنسانية والمساواة بين الشُّعُوب وبين المواطنين… 

في ألمانيا، ألْغَت شرطة برلين، يوم 12 نيسان/ابريل 2024، مؤتمرًا وأغلقت المكان الذي كان من المُقَرّر أن يجمع مُتحدّثين من ألمانيا ومن أوروبا ومن فلسطين، واعتقلت شرطة المطار ضيوف المؤتمر ومن بينهم الطبيب البريطاني الفلسطيني غسان أبو ستة، الذي تم ترحيله فورًا وحَظَرت وزارة الدّاخلية مُداخلة المُؤرخ والباحث “سلمان أبو ستة” ( 86 سنة) بواسطة الفيديو وهو اختصاصي في مسألة اللاجئين الفلسطينيين، كما منعت حكومة ألمانيا مُداخلة وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس التي كان من المُقرر متابعتها عبر الشبكة الإلكترونية، مع حرمانه من دخول ألمانيا، إلى أجل غير مُسَمَّى فضلاً عن القيام بأي نشاط في ألمانيا، كما ألغت ألمانيا دعوة البروفيسورة الأمريكية جودي دين لإلقاء مجموعة من المحاضرات لأنها كتبت مقالاً بعنوان “فلسطين تتحدث باسم الجميع”، أشارت ضمنه إلى حق الأشخاص المضطهدين في النضال من أجل تحررهم، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتم إلغاء عقدها كمُدرسة جامعية في كليتي هوبارت وويليام سميث في الولايات المتحدة، لأن تعليقاتها “بغيضة”ن في إشارة إلى رثائها الشّاعر الفلسطيني رفعت العرير، الذي اغتاله العدو الصهيوني يوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2023…  

خاتمة

يشعر التقدّميون في الولايات المتحدة بالإختناق بسبب الحصار وتضييق هامش حرية التعبير، ما اضطر رئيسي جامعتي هارفارد ويوبن إلى الاستقالة بعد اتهامهما أمام الكونغرس بعدم قمع الطّلاب النّاقدين للدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني…

انطلقت حركة الإحتجاج ضد الدعم الأمريكي – المالي والعسكري والسياسي والإيديولوجي- المُطلق للكيان الصهيوني، منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقد تكون أهم حركة احتجاج منذ بداية القرن الواحد والعشرين، ثم انتشرت في الجامعات منذ منتصف نيسان/ابريل 2024،  وتعددت التهديدات والضّغوط، واعتقلت الشرطة يوم 18 نيسان/ابريل 2024 ما لا يقل عن مائة شخص من جامعة كولومبيا، حيث بدأت الحركة، وتم استجواب ومحاكمة مئات آخرين من طلاب ومُدَرِّسِين ومناضلين نقابيين من عدة جامعات في جميع أنحاء البلاد، وطلبت إدارات الجامعات تدخّل قوات مكافحة الشغب، مما يعيد إلى الأذهان أحداث مماثلة في الولايات المتحدة خلال حرب فيتنام، وتواصل الإعتقالات بما لا يقل عن مائتَيْ شخص خلال يومَيْ 25 و 26 نيسان/ابريل 2024، وما لا يقل عن 350 من المحتجين على العدوان الصهيوني خلال يوميْ 27 و 28 نيسان/ابريل 2024، واستخدمت الشرطة يوم الاثنين 28 نيسان/ابريل 2024، في جامعة أوستن (تكساس) رذاذ الفلفل ضد المتظاهرين، واعتقلت المئات واحتفظت بثمانين منهم رهن الإعتقال بعد مرور ثماني وأربعين ساعة، ولم يَفِلّ القمع في عزيمة المُحتجين بل توسعت حركة الإحتجاجات المناهضة للعدوان الصهيوني إلى العديد من المؤسسات، من كاليفورنيا (غربًا) إلى نيو إنغلاند (شمال شرق البلاد)، ثم انتشرت حول العالم، من نيويورك إلى باريس، ومن سيدني إلى أتلانتا، وفي فرنسا، في مدرسة ساينس بو – باريس، قام بعض طلاب هذه الجامعة النُّخْبَوِيّة – التي اشتهرت بعلاقاتها المتطورة مع المؤسسات الصهيونية – بإغلاق حرم الجامعة، احتجاجا على العدوان الصهيوني في غزة، قبل أن ينسحبوا بعد تدخّل الشرطة ومفاوضات مع الإدارة، وكانت التعبئة ضعيفة أو متوسطة في الجامعات الفرنسية، وتجاهلتها وسائل الإعلام، إن لم تُنَدّد بها، وهي مُجَرّد صدى لتظاهرات الجامعات الأمريكية التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق منذ منتصف نيسان/ابريل 2024، والتي لم يتمكن القمع (اعتقال مائة طالب من جامعة كولومبيا يوم 18 نيسان/ابريل 2024) من إخمادها بل توسعت حركة إلى معظم المُدُن الأمريكية، وانتشرت “المخيمات التضامنية مع غزة”، التي تجمع عدة مئات من الطلاب لأيام وليالي أمام جامعاتهم، وتوسعت معها قائمة المطالب، من الدّعوة إلى وقف الإبادة الجاماعية إلى تحرير فلسطين، ومن سحب استثمارات الجامعات من الشركات المشاركة في الحرب إلى مقاطعة المؤسسات الصهيونية، ومن تجريد مدرستهم من السلاح (أي سَحْب ضباط الشرطة من الحرم الجامعي) إلى إلغاء الرُّسوم وإرساء التعليم المجاني، ويطالب طلاب جامعة نيويورك، وهي جامعة خاصة في نيويورك، بإغلاق فرع  هذه المؤسسة في تل أبيب…  

اتّسَعَ حراك 18 نيسان/ابريل 2024 بالجامعات الأمريكية – المُنَدّد بالعدوان الصهيوني والرافض لاستثمارات مراكز البحث والجامعات في الشركات الداعمة للكيان المُحتلّ، وعَمّ الإحتجاج عشرات الجامعات بمجمل الولايات الأمريكية مع تدخل قوات الشرطة واعتقال مئات الطلاب، ثم امتد زخم الحراك الطلابي إلى جامعات أخرى في دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا وشهدت مُدُن هذه البلدان مظاهرات لوقف الحرب ومقاطعة الشركات التي تزود العَدُوّ بالأسلحة.

في الولايات المتحدة أعلن العديد من الأثرياء إلغاء التمويل الذي كان مُقرّرا للجامعات التي احتج الطلاب والمدرسون والعاملون بها على العدوان الصهيوني، ما يُثير ضرورة التمويل العمومي لمؤسسات التعليم، وعدم ارتباطها بالشركات الخاصة التي لا يهمها سوى الربح، وفي مجال السياسة الخارجية، هدد الكونجرس الأمريكي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا أصدرت أوامر اعتقال بحق القادة السياسيين لدولة العدو الصهيوني، بعد إعلان المحكمة الجنائية الدولية التّحقيق في جرائم حرب محتملة في قطاع غزة منذ العام 2014، وهي أول مرة تنصرف فيها المحكمة الجنائية الدولية عن استهداف الزعماء الأفارقة وفلاديمير بوتين، ولما أثارت إمكانية نشر أوامر اعتقال ضد مسؤولين صهاينة في القطاع، في سياق الحرب في غزة، ثارت ثائرة الساسة الأمريكيين والأوروبيين والأطلسيين وتهدد المؤسسات الأمريكية (الحكومة الفيدرالية والكونغرس، إلخ) بالانتقام!

تُشكّل حَمَلات الإحتجاج الحالية فُرْصَةً لإطلاق حملة إعلامية للتوعية بطبيعة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، وليست رَدًّا على الإضطهاد النّازي ( بل سبق تأسيس الحركة الصهيونية وُصُول النّازية سدّة الحُكم في ألمانيا) وتحويل الحملات – وهي بطبيعتها مُؤقّتة ومَحدودة المُدّة – إلى تعبئة مُستمرّة ضد الكيان الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني يستخدم الإبادة الجماعية وإقصاء السّكّان الأصليين، وليس ضد حكومة أو حزب أو حركة، وتعبئة لِدَعْم حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه في تحرير وَطَنِهِ بالوسائل التي يختارها وليس بالأشكال التي تُمليها المجموعات والمنظمات التي تدّعي النضال من أجل السلم والديمقراطية الخ. 

التعليقات مغلقة.