وائل الدحدوح.. حين تجتمع المهنية مع الرسالة / قطب العربي

350

قطب العربي ( مصر ) – الأربعاء 10/1/2024 م …

على مدار الأعوام الـ75 الماضية قدَّم لنا النضال الفلسطيني نماذج ملهمة في شتى المجالات، العلمية والعملية والإنسانية والعسكرية، وهي اليوم تقدم نموذجًا جديدًا للصحفي المهني الذي يمسك بأدوات مهنته، ويعمل وفقًا لمعاييرها وقوانينها، وصاحب الرسالة في الوقت نفسه، أي صاحب قضية وهب نفسه وعلمه وخبرته وماله وعائلته من أجلها، إنه الإعلامي الفذ وائل الدحدوح كبير مراسلي الجزيرة في غزة الذي لم يبق من عائلته الصغيرة سوى ابنته (خلود).

ثلاث ضربات متتاليات تعرَّض لها وائل، بدءًا من استشهاد زوجته وابنه الأصغر وابنته وحفيده، ثم إصابته هو شخصيًّا بقذيفة أرادت شل يديه، ثم فقده لابنه الأكبر، ومع كل ضربة خرج وائل أكثر صمودًا وثباتًا، وملهمًا بكلماته التي أصبحت شموعًا تضيء الطريق أمام كل الصحفيين والإعلاميين من أصحاب الرسالة “هذا هو قدَرنا، وهذه هي حياتنا، هذا هو خيارنا قبل حمزة وبعد حمزة. ماضون مستمرون لكن على كل العالم أن ينظر إلى ما يحدث في غزة. ما يحدث صعب ومؤلم وكبير. ما يحدث فيه ظلم كبير لشعب أعزل شعب مدني. ما يحدث فيه ظلم لنا نحن الصحفيين. هذه طريق اخترناها طواعية وسقيناها بأغلى ما نملك، سقيناها بالدماء. حمزة لم يكن بضعًا مني، بل كان كلي، حمزة كان روح الروح. نحن مشبعون بالإنسانية وهم مشبعون بالقتل والحقد، ولذلك نحن نبكي ونسكب الدموع، دموع الإنسانية ودموع الكرم والشهامة وليست دموع الجزع والخوف والاستكانة”.

هل يغادر غزة؟

لم يحتمل البعض وخاصة من كبار الإعلاميين ما تعرَّض له وائل، وناشدوه الخروج من غزة حفظًا لحياته وحياة ابنته الباقية، التي ناشدته أيضًا باكية “أمانة ضل إلنا يابا.. ملناش حدا غيرك يابا”، لقد حركتهم نوازع مهنية وإنسانية وليس جبنًا كما اتهمهم البعض، فضمن قواعد السلامة المهنية فإن الحفاظ على الحياة مقدَّم على السبق الصحفي، لكن ليس وائل من يأخذ بالرخص، بل هو المتمسك بالعزيمة، متقدمًا أولي العزم من الصحفيين، هو قائد كتيبة الإعلام الفلسطيني، وكيف لقائد أن يهرب أو يترك موقعه طلبًا للنجاة الشخصية؟!

بمواقف كهذه أصبح وائل هو القائد والملهم لبقية المراسلين الذين رفضوا ترك مواقعهم رغم شدة القصف، وظلوا ينقلون لنا أخبار المعارك من شمال غزة التي حاول العدو تسويق رواية كاذبة بأنه أجهز على المقاومة فيها، بل أخلاها من أهلها، لكن كاميرات المراسلين الميدانيين الذي بقوا هناك نقلت صورة معاكسة لمقاومة لا تزال صامدة، حرصت على تسليم أول دفعة من الأسرى الإسرائيليين في قلب مدينة غزة شمالي القطاع، وشعب لا يزال متمسكًا بأرضه وبيوته، خرج ليحيّي مقاومته عندما توقفت زخات المدافع وأزيز الطائرات خلال الهدنة.

شهداء الحقيقة

109 إعلاميين فلسطينيين استشهدوا حتى الآن خلال تأديتهم لعملهم، بنيران جيش العدوان، لم ترتج الحكومات الغربية ولا المؤسسات العالمية لمقتل هذا العدد من شهداء الصحافة، بينما كانت تلك العواصم والمؤسسات تنتفض لمقتل صحفي واحد في أفغانستان أو روسيا أو إيران، هنا لا ثمن ولا دية للصحفي الفلسطيني، هنا تسجل أرض غزة سقوطًا أخلاقيًّا جديدًا لمن رفعوا شعارات حرية الصحافة وتداول المعلومات، وحماية الصحفيين، الآن تمزقت ورقة التوت التي كانوا يسترون بها عوراتهم، لم يعد لكلامهم عن الحريات وحقوق الإنسان أي معنى، بل أصبح مفهومًا أنه محض وسيلة لتبييض وجوههم العكرة عند اللزوم، ومحض وسيلة لابتزاز بعض الحكام المستبدين بهدف تطويعهم الكامل، وليس دفاعًا حقيقيًّا عن حقوق الإنسان، الآن سقط القناع عن الوجوه الكالحة، ولكن ذلك لا يعني أننا سنفرط في حقوقنا وحرياتنا، بل يعني أننا سنحمي أنفسنا بأنفسنا، لا نعتمد على غيرنا، وقد وصلت إلينا رسالة طوفان الأقصى بأنه لا مستحيل مع توافر الإرادة.

كل واحد من شهداء الصحافة في غزة هو بذاته أسطورة، تستحق أن تُروى للأجيال، لقد كان بإمكانهم ترك المناطق الملتهبة تطبيقًا لقواعد السلامة المهنية، واللحاق بالمراسلين الأجانب الذين غادروا القطاع مع بدء العدوان، لكنهم آثروا البقاء في أكثر المناطق اشتعالًا، لم ترهبهم زخات الرصاص المتطاير حولهم من كل جانب، ولا رسائل التهديد التي وصلت إليهم عبر هواتفهم من جيش الاحتلال (والنموذج لذلك الصحفي أنس الشريف)، ولا قصف منازلهم وقتل عائلاتهم، ولا مشاركتهم بأنفسهم في استخراج أشلاء ذويهم من تحت الأنقاض، استمروا ينقلون لنا بعيونهم الفلسطينية ملاحم ميدانية أراد العدو التعتيم عليها لتسويق روايته الكاذبة، ولنشر روح الهزيمة والاستسلام لدى الفلسطينيين وأنصارهم عبر العالم، ولكن هيهات هيهات.

ثمن الحقيقة

منذ انطلاقتها في عام 1996، أصبحت “الجزيرة” هي عين العرب ولسانهم، بل عين كل المستضعفين ولسانهم عبر العالم، وقدّمت في سبيل نقل الحقيقة العديد من الشهداء في كل المناطق الملتهبة التي كان يراد لنا أن نتقبل روايتها الرسمية فقط، ليس في فلسطين فقط، ولكن في العراق وسوريا وإيران وأفغانستان، وفي البوسنة والهرسك، والصومال والسودان وليبيا، وحتى فنزويلا وتايلاند ومالي وغيرها. لم ننس طارق أيوب، ولا علي الجابر، ولا محمد المسالمة وغيرهم، قبل أن يلحق بهم شهداء ومصابو الجزيرة في فلسطين بدءًا من شيرين أبو عاقلة وصولًا إلى حمزة الدحدوح مع زميله مصطفى ثريا. رحم الله الجميع، وألحقنا بهم في عليين.

التعليقات مغلقة.