الرأسمالية والإستعمار وأزمات المناخ / الطاهر المعز

321

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 9/1/2024 م …

وثّقت البحوث العلمية، التأثيرات المُدَمِّرَة للنظام الإقتصادي الرأسمالي على صحة البشر وعلى البيئة بفعل نهب الموارد، والتي قد تُؤَدِّي إلى أزمة بيئيّة، ومنذ حوالي خمسة عُقُود بدأت بعض التيارات الليبرالية والدّيمقراطية الإجتماعية تدعو إلى التّحوّل نحو “الاقتصاد الأخضر”، في ظل المنظومة الرأسمالية التي نَظّمت قِمَمًا للمناخ وابتكرت عبارات “الإستدامة” و”الحفاظ على الموارد”، وما ذلك سوى إخلاء ذِمّة الرأسمالية بمجرّد طلائها باللّون الأخضر، وبذلك تكَيَّفَ النظام الرأسمالي للحفاظ على مصالح وأرباح شركات النّفط والتّعدين والنسيج والكيمياء والنّقل وشركات الزراعات الكبرى وغيرها من القطاعات الأكثر تلويثًا للمُحيط، والتي تَستغلّ العمّال وتستَوْلي على أراضي وموارد وثروات الشعوب وتُدمّر البيئة، بدل العمل على القَطْع مع النظام الرأسمالي الإستخراجي المُدمّر والإنتقال نحو نظام مُستدام وعادل، وهذا ما ترفضه القوى التي تتصدّر الدفاع عن البيئة حاليا لأنها تُركّز على الإنتقال التّقني والتكنوقراطي من الوقود الأحفوري نحو الطاقات المُتجددة، ضمن اقتصاد السّوق، وترفض التغيير الجذري والدّيمقراطي للنظام السياسي والاقتصادي والبيئي السائد، وهنا يكمن الخلاف بين التيارات التي ترى إن الانتقال الطاقي هو مسألة سيادة وطنية وشعبية على موارد الشعوب شرْط توفير القدرات التقنية والتكنولوجية لإنجاز هذا الانتقال اعتمادًا على القطاع العام، بإشراف الدّولة، بهدف تتخفيف التَّبَعِيّة والإرتباط بالشركات الإحتكارية الأجنبية…

دخلت الدّول العربية إلى الاقتصاد الرأسمالي بواسطة الإستعمار العسكري المباشر، ثم من موقع الخضوع والتبعية، من خلال استخراج الموارد وتصديرها بشكل خام ورخيص، واستيراد المواد المُصنّعة، وهي علاقة تعكس التبادل الاقتصادي اللامتكافئ، في ظل غياب التكامل الإقتصاديّ والسياسيّ العربي وتباين الموارد والبُنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين البلدان الفقيرة والمُكتظّة بالسّكّان، والبلدان النفطية، ذات العدد الصغير من السكان والتي لا تُشغِّلُ سوى الآسيويّين في الوظائف الدّنيا، والأوروبيين والأمريكيين في الوظائف الإدارية والعلمية والتقنية…

تُعتبَر تونس من البلدان الفقيرة التي لا تنتج سوى جزءًا من حاجتها من النّفط والغاز، وهي مثل العديد من دول “الأطراف” تُصدّر المواد الخام (الفوسفات ) والإنتاج الزراعي الخام (التمور وزيت الزيتون والحمضيات…) وبعض المنتجات الزراعية الأخرى التي تستهلك كميات كبيرة من المياه وتضر التربة، من أجل تلبية حاجة الأسواق الأوروبية، وتخضع سياسات الدّولة (منذ أكثر من خمسة عقود) لتوجيهات الدّائنين (صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي والمصرف الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ) ولأطراف أجنبية أخرى مثل الوكالة الألمانية للتعاون الفني (GIZ) التي تسهر على إنجاز مشاريع إنتاج الطاقة الشمسية في تونس لنقلها إلى أوروبا التي تعتبر تونس مُستعمَرة طاقيّة تُنتج الطاقات النظيفة وتُحوّلها إلى الخارج، فيما يفرض صندوق النّقد الدّولي خصخصة قطاع الطاقة ضمن شروط القروض، ولا يختلف الوضع في المغرب الذي يتسم اقتصاده بالتبعية وإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر، إلى جانب الفوسفات والخضار والغلال إلى أوروبا التي تُعيد إنتاج علاقات الاستحواذ والاستغلال للمغرب العربي وإفريقيا باسم الانتقال إلى الطاقات النظيفة من أجل الحفاظ على البيئة، وترتبط أوروبا بالكيان الصهيوني الذي تريد إدماجه المُهَيْمِن في الوطن العربي وتبرئتَهُ من جرائم الإبادة والإبْعاد والتّهجير ومصادرة الأراضي، بذريعة الاستفادة من خبراته، وهو ما يحصل في الخليج والأردن ومصر والمغرب ضمن التّطبيع البيئي الذي يُعتَبَرُ جزءًا من المشروع الاستعماري الصّهيوني.

في هذا الإطار انعقدت قمة المناخ COP 28 في دولة الإمارات، إحدى كبار منتجي الوقود الأحفوري، برئاسة وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة ورئيس مؤسسة النفط الحكومية، وتقتصر قِمَم المناخ على اجتماع قادة الدول والحكومات والمنظمات ووسائل الإعلام ومجموعات الضّغط للثرثرة حول انبعاثات الكربون وتفاقم الأزمة البيئية، وتُصادق على بعض الإجراءات التي لا تَضُرُّ بمصالح الشركات العابرة للقارات التي تستفيد من مشاركتها (مباشرة أو من خلال مجموعات الضّغط) لترويج حلول زائفة مثل الائتمان الكربوني والحلول المستمدة من الطبيعة، بهدف استخدام الانتقال الطاقي كفُرصة لمراكمة أرباح إضافية، لأن الطاقات البديلة أصبحت قطاعا استثماريا يسْتوعب جزءًا من أرباح شركات المحروقات…

المناخ والحفاظ على البيئة كذريعة للهيمنة

تم الإتفاق خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ كوب 27 (تشرين الثاني/نوفمبر 2022)، على إنشاء صندوق “الخسائر والأضرار” للدول الأكثر ثراءً لدفع الأموال للدول الفقيرة التي تواجه آثار تغير المناخ، دون تحديد آليات عمل هذا الصندوق الذي لا يتعدى دوره “الغسيل الأخضر” أي تلويث المحيط مقابل وعد بتسديد بعض الأموال للدول الفقيرة التي لا تستهلك الكثير من الطاقة والتي لا تساهم كثيرًا في تلويث المُحيط، أما الولايات المتحدة، أكبر مُلَوّث عالمي، فقد رفضت دفع تعويضات المناخ عن انبعاثاتها التاريخية، وحتى عندما تتعهّد الدّول الغنية فإنها لا تفي بوعودها، ففي سنة 2009، تعهدت الدول المُصنّعة بمنح 100 مليار دولار سنويًا، بحلول سنة 2020، للدول النامية لمساعدتها على تقليل الانبعاثات والاستعداد لتغير المناخ، ولم يتحقق هذا الهدف حتى نهاية سنة 2023، موعد قمة المناخ كوب 28 في دُبَيْ، خلال الفترة من 30 تشرين الثاني/نوفمبر إلى 12 كانون الأول/ديسمبر 2023، ومن المتناقضات إن الإمارات ( دُبَيْ واحدة من سبع إمارات تُشكل دُوَيْلَة الإمارات ) واحدة من أكبر عشر دول منتجة للنفط في العالم، وَعَيَّنَت الرئيس التنفيذي لشركة النفط المملوكة للدولة – التي تخطط لتوسيع طاقتها الإنتاجية – رئيسا لمحادثات كوب 28، فهل يُدافع رئيس المؤتمر عن الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم ) الذي يُطلق الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون عند حرقها للحصول على الطاقة، أم يدافع عن خفض استخدامه وزيادة حصة الطاقات المتجدّدة، وأظْهرت وقائع المؤتمر إن الإمارات خططت لاستخدام دورها كمُضَيِّف لإبرام صفقات النفط والغاز.

تصريح (أو إذن) للتلويث؟

شارك في المؤتمر نحو 2500 ضيف من شركات النفط ومجموعات الضّغط التي أنشأتها شركات النفط، وشكّل مؤتمر “كوب 28” فرصة للاستيلاء على الغابات الأفريقية من قبل الشركات متعددة الجنسيات في سوق الاعتمادات الكربونية، أو “تعويض الكربون” ( أي تسديد مبالغ صغيرة مقابل تلويث المحيط) الذي يسمح للشركات بشراء انبعاثات غازات الدفيئة، وهي إحدى طرق الإلتفاف على قرارات التخفيض من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدّفيئة، كوسيلة لإبطاء الاحترار العالمي، وركّز مؤتمر كوب 28 بدُبَيْ على التقنيات وسوق تعويض الكربون الذي يسمح للشركات الملوثة بمواصلة نشاطها مع دفن نفاياتها في غابات إفريقيا كتعويض للكربون في السوق، وأظهرت تحقيقات عديدة إن آلِيّات تعويض الكربون لا تأثير لها على تباطؤ ظاهرة الإحتباس الحراري، وما هي سوى رأسمالية مَطْلِيّة باللّون الأخضر لا تنفع الكوكب ولا سُكّانه وتتمثل في استيلاء الشركات العابرة للقارات على الأراضي الزراعية في إفريقيا وآسيا وحتى في أوكرانيا وبعض البلدان الأخرى، وعلى سبيل المثال وقّعت إحدى الشركات – خلال مؤتمر “كوب 28” – عقدًا مع حكومة ليبيريا من أجل الحصول على مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة لدفن النفايات بها، ووقعت شركات أخرى اتفاقيات مُماثلة مع دول إفريقية منها أنغولا ( وهي دولة منتجة للنفط) وكينيا وتنزانيا وأوغندا وزامبيا وزيمبابوي، للإستحواذ على قرابة 25 مليون هكتار من الغابات، ما يسمح لشركات النفط بمواصلة إنتاج وتسويق المحروقات وجني الأرباح مع ادّعاء “الحفاظ على البيئة”

الإستعمار باسم البيئة

يُشكّل العدد الإجمالي لسكّان الصين والهند وإندونيسيا نحو 42% من سُكّان العالم، ولا تُشكّل انبعاثاتها التراكمية من ثاني أكسيد الكربون سوى 23% من إجمالي الإنبعاثات العالمية، ويشكل سُكّان البلدان العشرة الأكثرَ تلويثًا ومنها أمريكا الشمالية وبعض بلدان أوروبا – بما فيها روسيا – واليابان نحو 12% من سُكّان العالم فيما تُشكّل انبعاثاتها التّراكمية من ثاني أكسيد الكربون 39% من إجمالي الإنبعاثات العالمية، وهي الدّول التي تُدافع عن فكرة تلويث المحيط مقابل مبلغ زهيد تُسدّده للدول الفقيرة لدفن النفايات بها والإستحواذ على غاباتها ومساحاتها الزراعية التي تُنتج الأوكسيجين الذي يُمكّن من امتصاص بعض الغازات التي تنبعث من مصانع ومناجم ومركبات الدّول الغنية، وهو ما اصطلح على تسميته ب”الإستعمار البيئي” أو “الإستعمار الأخضر”، وهو استمرار أو مُواصَلَة للإستعمار العسكري المباشر أو الإستعمار الجديد بواسطة الإقتصاد وهيمنة الشركات العابرة للقارات، ويشير مصطلح “الاستعمار الأخضر”، المعروف أيضاً باسم “الاستعمار البيئي” أو “الاستعمار الكربوني”، بشكل عام إلى استغلال الدول الرأسمالية المتطورة لموارد البلدان “النامية” أو الفقيرة التي تضطر للتضحية بصحة سكّانها وبالبيئة وبالتنمية مقابل مبالغ زهيدة لا تُمكّنها من تتمية أو حتى حماية مواردها…

يُعتَبَرُ “الاستعمار الأخضر” شكلاً جديداً من أشكال الهيمنة والإستغلال باسم “خفض الإنبعاثات”، ففي سنة 2015، لم تتجاوز حصة الدّول الفقيرة 8% من الإنبعاثات الإجمالية للكربون، بينما بلغت حصة الدّول الرأسمالية المتطورة 92% من الإنبعاثات وفي سنة 2021، بلغ نصيب الفرد من انبعاثات الكربون التراكمية في البلدان العشرة الأكثر تلويثًا أربعة أضعاف نصيب الفرد من سكان بقية بلدان العالم، رغم الأشواط التي قطعتها أوروبا في الحد من الانبعاثات، بفعل نَقْل الصناعات المُلَوِّثَة إلى البلدان الفقيرة (خصوصًا إلى آسيا وإفريقيا) وبذلك ضربت الشركات العابرة للقارات عدّة عصافير بحَجَرٍ واحدٍ، فقد خفضت تكاليف الإنتاج (وبالتالي رَفَعَت العوائد) بفعل القُرْب من المواد الأولية والعمالة الرخيصة ونقلت التلوث من أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان إلى جنوب آسيا وإفريقيا وبعض بلدان أمريكا الجنوبية، وأقرّت أوروبا قُيُودًا على الصناعات ذات المستويات العالية من التلوث والانبعاثات، وفرضت ضرائب على الكربون، ما جعلها تستفيد من إنتاج منتجات عالية الكربون في البلدان الفقيرة التي تتحمل تأثير الإنبعاثات مع تنصّل أوروبا والدّول الرأسمالية المتطورة من تحمل المسؤوليات.

ما ينطبق على الصناعات المُلَوِّثَة (النسيج والكيمياء وإصلاح السّفُن…) ينطبق كذلك على قطاع المحروقات وإنتاج الطّاقة، حيث أصبحت الشركات الأوروبية التي تدعمها الحكومات ومؤسسات الإتحاد الأوروبي تُنتِجُ “الطاقة النظيفة” في البلدان العربية (بالمناطق الصّحراوية بالمغرب العربي أساسًا) لتلبية حاجة الأسواق الأوروبية من الطاقة الشمسية، فيما يُعاني السّكّان المحلّيّون في المغرب أو تونس أو مصر من شُحّ الطاقة ومن انقطاع التيار الكهربائي ومن ارتفاع ثمنه، كما بذلت أوروبا جهودًا – خصوصًا منذ حرب أوكرانيا ومُقاطعة الغاز الروسي بأمر أمريكي، بداية من آذار/مارس 2022 – لتنويع مصادر الطاقة، وزيادة وارداتها من غاز الجزائر ونيجيريا، وزار المستشار الألماني أولاف شولتز إفريقيا ( أيار/مايو 2022) بحثاً عن مصادر جديدة للغاز الطبيعي، بعد خضوع حكومة ألمانيا ودول الإتحاد الأوروبي للأوامر الأمريكية القاضية بمقاطعة روسيا وعدم استيراد الغاز منها…

شجّع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز من نيجيريا عبر النيجر والصحراء الكبرى وحقول غاز االجزائر، بهدف تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي الإفريقي، واعترضت المشروع عوامل عديدة منها انهيار أسعار المحروقات وزيادة الإنتاج الروسي وتوجيهه نحو أوروبا وكذلك زيادة إنتاج الغاز الصّخري الأمريكي وإلغاء قانون حَظْر تصدير المحروقات الأمريكية الذي كان ساري المفعول بين 1974 و 2017، وكانت الولايات المتحدة تستورد حوالي 15% من حاجتها من نيجيريا، وانخفضت النسبة تدريجيًّا لتميل نحو الصّفر منذ سنة 2021، وزاد الوضع الأمني والتّدخل العسكري المباشر في العديد من الدّول المُتاخمة للصحراء (مالي وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو…) من انهيار الوضع الأمْنِي ومن العراقيل في وجه المشروع الأوروبي لتحويل إفريقيا إلى محطة لتزويدها بالوقود الأحفوري، بالتوازي مع تحول أوروبا إلى البحث عن مصادر الطاقة المُتجدّدة أو “النّظيفة” ومحاولة تحويل المغرب العربي ومصر إلى محطة أوروبية للتّزَوُّد بالطاقة الشمسية.

المغرب العربي – التحول البيئي والاستعمار

يُمْكن وصف العلاقة بين بلدان المغرب العربي وأوروبا – وخصوصًا فرنسا، دَوْلَة المُستَعْمِر السابق، من 1830 إلى 1962 – بالعلاقة الإستعمارية الجديدة (نيوكولونيالية) ولئن غادر الجنود الفرنسيون موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس فإن الشركات والمُؤسّسات المالية الفرنسية والأوروبية لا تزال تُهيمن على الإقتصاد وتنهب الموارد الطبيعية والبشرية (جُهْد العاملين على عين المكان أو المهاجرين بأوروبا) وتُشكّل الطاقة الأحفورية والبديلة بعض الموارد الطبيعية التي تريد أوروبا الإستفادة منها، ومن ضمنها الطاقة الشّمسية التي توفِّرُها الصّحراء، والتي يمكن أن تُصبح أحد مظاهر “الاستعمار الجديد الأخضر”، خصوصًا في ظل افتقار السّكّان المحليين إلى الطاقة، بدعْم من البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي، بذريعة “حَتْمِيّة التّحوّل إلى الطاقات النّظيفة”، وبتواطؤ السّلطات المحلّية التي تُوفِّرُ الأرضية والظّروف المواتية للنّهب الإقتصادي الذي تُمارسه الشركات العابرة للقارات، من خلال مُصادرة الأراضي والثروات وخصخصة الموارد كالمياه والطاقة، قبل خصخصة الشمس والرياح والمحيط والغلاف الجوي، من أجل تصدير الطاقات المتجددة إلى أوروبا، وتتولّى حكومات المغرب وتونس ومصر ودول عربية أخرى مُصادرة الأراضي الزراعية لصالح الشركات العابرة للقارات التي تنفذ مشاريع الطاقة المتجددة، في حين يطالب صغار المزارعين أو الذين لا يملكون أرضا بأراض زراعية لزراعة المنتجات المخصصة للسوق المحلية، والتي تستوردها السلطات بالدولار أو اليورو، ولئن اختلف شكل الإستعمار فإن لخطاب الإستعمار الأوروبي قواسم مُشتركة مع خطاب الحركة الصهيونية التي ادّعت إن فلسطين صحراء قاحلة وغير مأهولة بالسكان، وأصبحت خضراء بفضل الاستيطان الصهيوني الذي بدأ في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى البعثات الدينية المسيحية التي قامت ببناء المستوطنات حول المدن، وكذا فعل الإستعمار الأوروبي الذي يدّعي تحويل صحراء المغرب العربي من أماكن خالية إلى مناطق مُفيدة لكنها مُفيدة لسكّان أوروبا وليس للسكّان المحلِّيِّين، كما تُرَكِّزُ دعاية الشركات العابرة للقارات على “تحويل هذه الأراضي الصحراوية الشّاسِعَة والقاحلة إلى منطقة يمكنها توفير طاقة متجددة رخيصة الثمن لأوروبا”، مِمَّا يجعل من الطاقات المتجددة بوابةً لهذا الشكل من “الاستعمار الجديد الأخضر”، لتتمكّن أوروبا – بقيادة ألمانيا الصهيونية – من التّزَوّد بالطاقة النظيفة والمتجددة على حساب الشعوب المستعمَرة والمحرومة من حقوقها الأساسية، بمساعدة وتعاون البرجوازيات الكمبرادورية المحلية.

كانت دول الاتحاد الأوروبي تشتري أكثر من 30% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا، وخصوصًا الغاز الطبيعي عالي الجودة ورخيص الثمن، ومنذ الحرب في أوكرانيا (24 شباط/فبراير 2022)، طالبت الولايات المتحدة (التي تقود حلف شمال الأطلسي) بفرض حظر على الصادرات الروسية، فأصبحت الدّول الأوروبية تشتري الغاز الصخري الأمريكي ذي الجودة الرديئة وتدفع مقابله خمسة أضعاف السعر الذي تدفعه الشركات الأمريكية، وكانت الدول الأوروبية تُحاول منذ عدة سنوات تنويع مصادر إمدادات الطاقة، وتقاطعت هذه الرّغبة مع طموحات السلطات الجزائرية التي اعتبرت الحرب في أوكرانيا فرصة لزيادة حجم المحروقات المصدرة إلى أوروبا وبالتالي ضمان أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي، وهو ما ساهم في تسريع تنفيذ مشاريع الطاقة المتجددة ومنها الطاقة الشمسية أو مشاريع الهيدروجين في الصحراء، حيث يجري منذ قرابة عشر سنوات تنفيذ العديد من المشاريع لبناء محطات الطاقة الشمسية التي توفر الكهرباء للدول الأوروبية، بما في ذلك مشروع “تونور” (TuNur ) في الصحراء التونسية منذ سنة 2017 والذي يتوقع أن يوفر كهرباء “نظيفة” لخمسة ملايين محل أوروبي وأكثر من سبعة ملايين مركبة كهربائية في أوروبا، فيما تعتمد تونس على الجزائر في جزء من احتياجاتها من الطاقة (الغاز)، وفي المغرب، يهدف مشروع إكسلينكس (منذ 2021) إلى إنتاج طاقة نظيفة لتلبية احتياجات السوق البريطانية…

هذه بعض الأمثلة على العلاقات الاستعمارية التي تُؤَبِّدُ استعباد مواطنين المغرب العربي وتجريدهم من جميع مواردهم لتلبية طلب الأسواق ومواطني البلدان الغنية.

خلاصة

استخدمت الدول الصناعية الكُبْرى موضوع حماية البيئة كأداة لاستعمار جديد سُمِّي اصطلاحًا “الإستعمار الأخضر الجديد”، وهو يضع حواجز تجارية وإجراءات تمييزية بدعوى حماية البيئة، على حساب سيادة ومصالح الدّول الفقيرة، ضمن علاقات “شراكة” وتبادل غير مُتكافئ، مثل اتفاقيات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول المغرب العربي، كما يُشكّل الخطاب الأوروبي بشأن المناخ والبيئة وحقوق الإنسان بوابةً للتّدخّل في الشؤون الداخلية لبلدان “المُحيط” دون تقديم دول الإتحاد الأوروبي أي إسهامات لحماية المناخ والبيئة بالمغرب العربي، بل بالعكس تُدَمِّرُ المشاريع الأوروبية لإنتاج الطاقة الشمسية الطبيعة الهشة بالصحراء المغاربية…

اتفقت البلدان المُشاركة في مؤتمر “كوب 21” (باريس 2015)على السعي لحصر الاحترار العالمي خلال هذا غير إن الدّلائل تُشير إلى مزيد من التدهور وإلى مستويات قياسية من تركيزات الغازات الدّفيئة ومن ارتفاع درجات الحرارة، ما يُؤدِّي إلى إتلاف المحاصيل الزراعية والمواشي وشُحّ الغذاء وارتفاع أسعاره، وتلوّث الهواء وانتشار الأمراض المُعْدِيَة وارتفاع معدّل الوفيات بين الفئات الأشدّ هشاشةً، فضلا عن التّأثيرات السلبية على المنظومة البيئية وعلى سُبُل عيش وحياة مليارات البشر،

تستثمر العديد من الدّول الغنية في الطاقات المتجددة أو المُسْتَدامَة، ولكن لا تمتلك البلدان الفقيرة القدرات التقنية ولا التمويل الضّرُورِيَّيْن. أما اختيار الإمارات ( دُبيْ ) مكانًا لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب 28” فهو غير صائب باعتبار الإمارات دولة مُنتِجَة للوقود الأحفوري، وذات سِجِلّ حافل بانتهاكات حقوق الإنسان وبالأخص حقوق العمال المهاجرين الذين يُشكّلون نحو 90% من العدد الإجمالي لسُكّانها، فضلا عن إسناد رئاسة المؤتمر إلى الرئيس التنفيذي لشركة نفط أبو ظبي (أدنوك)، بينما يهدف هذا المؤتمر إلى التوصل إلى اتفاق دولي لإنهاء الإستخدام التّدريجي للوقود الأحفوري، وهو قرار غير صائب كذلك لأن مؤتمر المناخ “كوب 28” انعقد في جوّ من التوتر بسبب استبعاد النّقاش بشأن أنشطة الإستخراج للشركات الكبرى التي تُلَوث المحيط وتستنزف الموارد، وبسبب التضييق على حركات الدّفاع عن البيئة التي وصفتها بعض المنظمات بأنها “أكبر حملة تضييقات على منظمات المجتمع المدني في تاريخ مؤتمرات المناخ”، ولم يقتصر التّضْيِيق على الاحتجاجات ذات الطابع البيئي بل شَمِلَ تظاهرات التّضامن مع الشعب الفلسطيني الذي تتم إبادته في غزة والضّفّة الغربية…

التعليقات مغلقة.