ستون عاماً على رحيل الشاعر الشيوعي التركي العظيم ناظم حكمت / رضي السمّاك

390

رضي السمّاك – الأحد 4/6/2023 م …

 

تصادف اليوم الذكرى الستون لرحيل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت الذي رحل عن عالمنا في ساعة مبكرة من مثل هذا اليوم الموافق الثالث من يونيو/ حزيران من عام 1963 إثر نوبة قلبية وهو يمد يده إلى صندوق بريد شقته لأخذ صحف الصباح . لا يختلف إثنان من كبار الأدباء والمثقفين والنقّاد في العالم أجمع-على أختلاف توجهاتهم الفكرية- بأن هذا الشاعر الكبير حكمت كان على رأس القمم الإبداعية في وطنه تركيا، فقد أثرت أعماله اللغة التركية، وهذا الأثراء يكتسب أهميته -بوجه خاص- في أنه جاء متواكباً مع بدايات التحول التاريخي لحروفها من العربية إلى اللاتينية على يد مؤسس الجمهورية والنظام العلماني فيها مصطفى كمال أتاتورك في 1923. و هو أول من تبنى الشعر الحر غداة ذلك التحول اللغوي.بيد أن تأثير أعمال حكمت الإبداعية لم تقتصر على حدود بلاده، بل تجاوزتها إلى آفاق المعمورة بكل ثقافاتها المتعددة المختلفة؛ ليس لما تميزت به تلك الأعمال من جاذبية إبداعية خلاقة خارقة فحسب، بل ولتماهيها مع المشاعر الإنسانية المفعمة بالصدق في كل مكان. عربياً فقد تأثر بشعره كملهم في إبداعاتهم الشعرية شعراء عديدون، لعل من أبرزهم كل من: نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونوري الجراح، بالإضافة إلى عدد كبير من شعراء العامية العربية، كالشاعر المصري زين العابدين فؤاد. . ولئن كان الكسندر بوشكين يُعد في روسيا أمير شعرائها ومثري ومطوّر في لغتها، فإنه يمكننا القول أن ناظم حكمت هو أمير شعراء تركيا بلا منازع، والمعادل لمنزلة بوشكين في الأدب الروسي، وطه حسين في الأدب العربي، سيما وأن أعماله الإبداعية لم تقتصر على الشعر، بل أمتدت إلى الكتابة المسرحية والروائية. كما تميز شعره بالتألق الإبداعي في المجالين السياسي الوطني والرومانسي على السواء.
وتتجلى عظمة عبقريته الشعرية في أنه أجترح معظمها في ظل ظروف بالغة القسوة توزعت بين السجن والمنفى الطويلين . فقد أمضى في معتقلات النظام التركي بأسطنبول وبورصة وأنقرة وتشانقر ما مجموعه أثنتي عشرة عاماً، وكان قد أصدر الحكم عليه في إحدى عشر قضية مختلفة، وكتب عنه معجم الأدب العالمي : ” كانت سنوات السجن بالنسبة لناظم حكمت تعني تعميقاً وتطويراً لابداعه الشعري. فعن الصياغة التصويرية المتغلغلة إلى داخل الأشياء، المعبرة عن الخصائص الإنسانية في صلتها بالحياة الاجتماعية، وصلت إلى ذروة التجديد الشعري، وإن كانت تتردد في قصائده غنائية تجنبها فيما بعد” ( حنا مينا، ناظم حكمت.. السجن. المرأة. الحياة، دارالآداب، بيروت، الطبعة الثانية1980، ص 35).
ومع أنه صدرت ترجمات متعددة لأشعاره بالعربية، كتلك التي صدرت لكل من علي سعد و محمد البخاري وفاضل وعبد الوهاب البياتي وقد أشار إليها الكاتب المصري في تقديمه لطبعة كتاب ” من شعر ناظم حكمت” لعلي سعد، إلا أنه يخامرني شيء من الشعور بأنه لم يُقدُر لما تركه حكمت من خزينة أرثه الشعري العظيم من يترجمه عربياً بشكل إبداعي أعظم دون التقليل من جهود وأجتهاد من ترجموا شعره . فأنت عندما تقرأ ترجماته ومعظمها بين يدي، يشعرك حتى بالمستوى الذي تمت بها تلك الترجمة أنك أمام شاعر مبدع كبير، تتجلى الصور الإبداعية في ثنايا قصائده في مختلف أغراضها، ويرقى الكثير منها إلى مرتبة الحكمة أو المقولات المأثورة. ومن ذلك على سبيل المثال: ” إن لم أحترق أنا / وتحترق أنت / ونحترق نحن / فمن ذا الذي/ ينير الظلمات”، وكذلك؛ ” إن أجمل البحار / ذلك الذي لم نذهب إليه بعد./ وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد./ وأجمل أيامنا/ لم نعشها بعد./ وأجمل ما أود أن أقول لك/ لم أقله بعد. وفي هذا الصدد يقول الروائي السوري الكبير حنا مينه: أن ناظم حكمت أحدث ثورة على الأشكال العروضية التقليدية في الشعر التركي وحطمها واصطنع وزناً حراً فيه نمط جديد من الإيقاعات والمقاطع المتدرجة، التي تتدفق في أول القصيدة ثم تتنامى وتتغير، مع الأحتفاظ، أحياناً، بما يشبه اللازمة من المقاطع المتكررة التي يُراد لها أن تتثبت وتترسخ في الذهن. وهو الذي رسم لقصة البطلة البطلة السوفييتية زويا، التي تحدت النازيين الألمان بصمودها الحديدي فقرروا إعدامها خلال الحرب العالمية الثانية، صورة شعرية تخلد بطولتها على مر التاريخ. ( حنا مينه، المصدر نفسه، ص 34 و ص 153).
ومن المفارقات التاريخية أن كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية ونظامها العلماني الهجين والذي كان رفيقاً لناظم حكمت في حركة الأستقلال هو نفسه من أسس تقاليد ملاحقة القوى اليسارية والديمقراطية وملاحقة وأضطهاد ناظم حكمت كأحد رموزه لمجرد أنه خالفه في توجهاته السياسية، وسار على دربه حتى مماته مغرّبا عن وطنه خلفائه اللاحقون، وكان آخر عسف اُتخذ بحقه بعد فراره من وطنه للخلاص من الملاحقة الأمنية صدور قرار سحب الجنسية منه مطلع الخمسينيات، وإذ كان لحملات التضامن العالمية أثرها في الأفراج عنه من اعتقاله الأخير، لم تفد كل الحملات الإعلامية العالمية وعرائض التضامن معه على مدى أكثر من نصف قرن من بعد مماته لإعادة رفات الشاعر لدفنها في تراب وطنه بناء على وصيته، فإن واحدة من المفارقات التاريخية أن يرد الأعتبار إلى جنسيته الشاعر سنة 2009 والتي سحبت منه بتهمة الخيانة الوطنية مطلع الخمسينيات، أي في عهد الرئيس الإسلاموي رجب طيب أردوغان الذي أستطاع من خلال اللعبة السياسية أن يخترق ذلك النظام العلماني الهجين الذي أسسه أتاتورك، في حين ظل هذا النظام ومازال سداً منيعاً شرساً في وجه اليسار من أن يجد له مكاناً في الملعب السياسي المفصّل على مصالح الرأسمالية التركية التي تلتقي مصالحها مع الدول الرأسمالية الغربية وذراعها العسكري حلف ” الناتو”، والتي بغريزتها تدرك أن اليسار أخطر من الإسلاميين على مصالحها، وكأن أردوغان يريد من موافقته على إعادة الجنسية لحكمت أن يسخر من ديمقراطية النظام الذي أتى به إلى السلطة، باعتباره أكثر ديمقراطياً من عتاة رموزه وآبائه المؤسسين، وهو النظام الذي مكنه من الفوز لحكم تركيا خمس سنوات إضافية ليكمل ربع قرن على وجوده في السلطة بعد تمكنه من الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهذا ما لم يحدث لأي رئيس علماني في تاريخ تركيا!