الدولة الشموليّة أو الكليانية (1 من 2) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 3/11/2022 م …
في عام 1766خاطب الملك الفرنسي “لويس الخامس عشر” البرلمان الفرنسي قائلاً: (في شخصي فقط تكمن السلطة العليا, ومن شخصي بالذات تستمد مجالسي وجودها وسلطتها, وإليّ فقط تعود السلطة التشريعيّة بلا شريك أو رقيب, وعني ينبثق النظام برمته.).
بهذا الإعلان استطاع (لويس الخامس عشر) ليس توضيح مفهوم الدولة الشموليّة/الكليانيّة فحسب, بل والعمل على إعادة تأسيسها وبلورتها قانونيّا أيضاً. وعلى الرغم من كل محاولات الطبقة الرأسمالية الهادفة إلى القضاء على آليّة عمل هذه الدولة بعد وصولها إلى السلطة في أوربا, إلا أن مصالحها بعد سيطرتها على السلطة دفعتها أن تعمل جاهدة على إعادة إنتاج هذه الدولة الشموليّة في منظومة الدول الأوربيّة في القرن التاسع عشر, على يد كل من نابليون بونابرت, وبسمارك وغاري باردي, ثم في القرن العشرين على يد هتلر وموسوليني وفرانكو وغيرهم.
أما بالنسبة لدول العالم الثالث ومنها عالمنا العربيّ من حيث تكوينها البنيويّ العام, فقد ظلت هي الساحة الأكثر تقبلاً إلى اليوم للأنظمة الشموليّة, كونها هي الدول الأكثر تخلفاً في بناها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. فهي الدول أو المجتمعات التي لم يتطور فيها بعد ما يسمى (الوجود الاجتماعيّ) بشقيه الماديّ والفكريّ الذي لازال يتحكم فيه – أي الوجود الاجتماعيّ – الاقتصاد البضاعيّ الصغير, أو الاقتصاد الريعيّ, وما يقوم عليهما من بناء اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ غير قادر على تجاوز هذه البنية التحتيّة لهذه الدول المتخلفة. أو بتعبير آخر, لم يتشكل فيها حراك اقتصاديّ واجتماعيّ عميق قادر على تشكيل قوى طبقيّة واعية لذاتها, وقادرة على قيادة الدولة والمجتمع بشكل عقلانيّ, أي امتلاك هذه الطبقة أو الكتلة الاجتماعيّة القدرة على خدمة نفسها والمجتمع معاً, هذا وعلينا أن نؤكد هنا على الدور السلبيّ الذي مارسته وتمارسه القوى السياسيّة الحاكمة في هذه الدول لسنين طويلة, وهي قوى لم تستطع بعد الخروج من منظومتها الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة المغلقة والمأزومة معاً بتخلفها, ممثلة بمنظومة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والحزب, وبالتالي, فالسياسة عندها لم تمارس بعد كفعل سياسيّ عقلانيّ تحكمه آليّة عمل لمؤسسات دستوريّة متجذرة وأصيلة يتم عبرها اختيار قادة هذه الدول أو حكامها من قبل الشعب نفسه بشكل عقلانيّ وموضوعيّ, بالرغم من وجود هذه المؤسسات الدستوريّة في بعض هذه الدول, إلا أنها لم ترتق إلى ممارسة دورها وفقاً لروح المواطنة الحقيقيّة ودولة القانون, أو بتعبير آخر: لا يوجد لدى القوى الحاكمة هنا رضى سياسيّ أو قناعة سياسيّة بغية تفعيل دور هذه المؤسسات التشريعيّة بشكل حقيقي يقوم على تداول السلطة, والإيمان بدور دولة المؤسسات والمواطنة والتعدديّة السياسيّة والديمقراطيّة واحترام الرأي والرأي الآخر, وغير ذلك من آليّة عمل الدولة العلمانيّة أو الحديثة (دولة المواطنة) وقوانينها التي تهدف إلى ضبط آليّة عمل هذه الدولة وعلاقتها بالمواطنين, بقدر ما تمارس السياسة هنا من قبل القوى الحاكمة فعلاً “سياسويّاً” براغماتيّاً إلى أعلى درجات البراغماتيّة بصيغتها النفعيّة والأنانيّة الضيقة, وعلى أرضيّة مرجعيات تقليديّة للقوى الحاكمة. فهذا الفعل السياسويّ الذي يعتبر نتاجاً للوجود الاجتماعيّ المتخلف لم يزل يساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الدولة الكليانيّة/ الشموليّة, بأدواتها ممثلة هنا بعشيرة أو قبيلة او طائفة أو حزب وحيد, و”بقائد كاريزما” اعتقد هو أو من يؤمن بدوره أنه هو وحده في دولته هذه من يستطيع رفع رعاياه من مأزق تخلفهم التاريخي, إلى رحاب المجتمعات والدول الحضاريّة المتقدمة, دون أن يدرك هذا (البطل) بأن ما يقوم به في حالة تفرده بالسلطة, يكون هو ذاته أحد الأسباب التي تعمل على تكريس هذا التخلف وتعميقه وتعميمه, مع تقديرنا لكل النوايا الحسنة والحس الوطنيّ وحتى القوميّ الذي يتمتع به بعض هؤلاء القادة (الأبطال) بما يمثلونه من دور للفرد في التاريخ تجاه شعوبهم. هذا ويعتبر عالمنا العربي أحد الساحات التي لم يزل يمارس فيها البطل دوره بشقيه على المستوى السياسي/ الدولتيّ, أو على المستوى الاجتماعيّ بشقه السلبيّ ممثلاً بشيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, في خلق وتكريس الدولة الكليانيّة/ الشموليّة, كون هذه الدولة لم تتوفر فيها بعد كما أشرنا أعلاه الشروط الموضوعيّة والذاتيّة لتجاوز محنة تخلفها, ولم تستطع طموحات أحزابها الحاكمة التي تدعي العلمانيّة والديمقراطيّة, أو أسرها الحاكمة بأبطالها من ملوك وقادة ورؤساء جمهوريات, أن يخلقوا بعد تلك التحولات الكبيرة والعميقة القادرة على تحقيق دولة القانون والمؤسسات, لأنها طموحات محاصرة بشهوتهم هم ذاتهم للسلطة من جهة, ولظروف التخلف البنيويّ للدولة والمجتمع معاً من جهة ثانية. هذا ومن جهة ثالثة تأتي جملة المعوقات الخارجيّة ممثلة سابقاً وحاليّاً في الغرب الاستعماريّ وبحثه الدائم عن منافعه ومصالحه في هذه الدول, والتي غالباً ما يجد تحقيقها سهلاً لتعاون السلطات الحاكمة في الكثير من هذه الدول معه, إن لم يشاركوه في اقتسام حصة الفطير فيها – وهذا هو الصحيح -, ثم بسبب التحولات الكبيرة التي انتابت العالم بأسره تحت مظلّة النظام العالميّ الجديد وثورته العلميّة والتكنولوجيّة والثقافيّة, وخاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكيّة بعقليتها الكاريزميّة/ الستالينيّة, ثم ظهور الولايات المتحدة الأميركيّة كدولة قويّة بمشروعها الرأسماليّ الاحتكاريّ الذي راح يفرض نفسه كقوة قادرة على ليّ ذراع ليس دول العالم الثالث فحسب, بل وحتى دول المعسكر الغربي وإخضاعها لتنفيذ السياسة الأمريكيّة الخادمة لهذا المشروع, وقبوله كنظام عالميّ جديد, وهي الدول التي كانت تعمل وتتناغم معها في فترة الحرب الباردة لإسقاط المنظومة الاشتراكيّة.
إن ما حققته الثورة المعلوماتيّة اليوم من تطور على مستوى الاتصالات ونقلٍ للمعلومات قد حوّل العالم إلى قرية صغيرة, مكشوفة أمام الصغير والكبير, وقد كشفت هذه الثورة المعلوماتيّة تلك الهوة الواسعة جداً ما بين تطور الدول العظمى, وتخلف دول العالم الثالث بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص, بحيث لم يعد بإمكان قادة الدول الشموليّة إخفاء أسرار وخفايا دولهم, وخاصة ما تعانيه هذه الدول من فساد واحتكار للسلطة أمام شعوبهم, أو سيطرتهم على شعوبهم تحت غطاء أيديولوجيات كبيرة, اشتراكية, أو قومية, أو دينية.
لاشك أن زمن الأباطرة والقياصرة أخذت تُكشف عوراته في عالم التطور العلميّ والثورة المعلوماتيّة اليوم, وأن زمن الشعوب قد بدأ يفرض نفسه, هذه الشعوب التي أخذت تبحث عن دورها الحقيقي في صنع التاريخ, أي تاريخها هي, تاريخ حريتها وعدالتها ومساواتها, تاريخ مشاركتها في بناء الدولة والمجتمع, والقضاء على كل أشكال السيطرة والاستبداد والعبوديّة والوصاية بأثوابها المعاصرة… نعم نحن اليوم في الزمن الذي أخذت فيه الشعوب تتحرك لأخذ مبادرتها في إدارة شؤون بلادها, وسعيها المحموم إلى تحويل أفرادها من رعايا إلى مواطنين, وإنهاء دور مرحلة وصاية الحزب وعبادة الفرد وسلطة العشيرة والقبيلة والطائفة, هذه الوصايا التي دفع متبنوها والسائرون على نهجها الثمن غاليّاً, مثلما دًفًعوا شعوبهم وبلادهم الثمن غاليّاً أيضاً… فماذا كان مصير الدول التي سارت على طريق الدولة الشموليّة هذه في عالمنا العربي؟… ماذا كان مصير صدام حسين, والقذافي, وزين العابدين, والسادات, والبشير وحسني مبارك؟. الذين أجبروا شعوبهم أن يصفقوا لهم كثيراً لعشرات السنين, وعندما حانت الفرصة لهذه الشعوب أن تتمرد عليهم أسقطوهم عن عروشهم وهزموهم شر هزيمة, مع ضرورة الإشارة بأن هذه الشعوب لم تستطع ان تستثمر حراكها السياسي اليوم (ثورات الربيع العربي) بشكل عقلانيّ لتحقيق ما تطمح إليه, كونها شعوباً مُورس عليها فعل القهر والظلم والاستلاب والتشيىء والتجهيل من قبل حكامها داخل دولها لسنين طويلة, وبالتالي كانت ردود أفعالها في تحركاتها السياسيّة اليوم تتضمن الكثير من الفوضى والعنف والسير وراء أيديولوجيات ظلاميّة لا تختلف في طموحاتها وممارساتها (الاقصائيّة) عن طموحات الأيديولوجيات الحاكمة وممارساتها, ثم بسبب عجز هذه المعارضة بالمواجهة العقلانيّة لأنظمتها الشموليّة راحت تتكئ على قوى خارجيّة لها أجندات خاصة بها مشبعة بأبعاد سياسيّة وطائفيّة وعرقيّة, حيث استطاعت هذه القوى الخارجيّة أن تستغل حراكها السياسيّ وتوظفه خير توظيف لمصلحتها أكثر من توظيف حراكها لمصلحة تغيير أنظمتها الحاكمة, فكانت نتائج حراكها السياسيّ كارثيّة على بلدانها حيث حرق الأخضر واليابس في البلاد, وحولت جهة الصراع من صراع بين شعب وأنظمته على الحريّة والمساواة وتداول السلطة والتعدديّة السياسيّة ودولة القانون والمواطنة, إلى حروب أهليّة, وصراعات طائفيّة وعرقيّة مقيتة تحركها كما قلنا أيديولوجيات عرقيّة عنصريّة, وظلاميّة تكفيريّة إقصائيّة, وقوى خارجية لا تختلف في قهرها لشعوبها هي ذاتها عن قهر الشعوب التي تحركت ضد أنظمتها. ومع ذلك نقول إن المنعطفات التاريخيّة في حياة الشعوب لا تمر بسهولة أو مرور الكرام, فلا بد من تضحيات, فما جرى في دول عالمنا العربيّ من انتفاضات شعبيّة ضد أنظمتها, سيشكل بالضرورة تحولاً تاريخيّاً هاماً في حياة ومسيرة هذه الشعوب لاحقاً, وأعتقد أن القوى الحاكمة والشعوب معاً ستستفيد منه وتؤسس لمرحلة جديدة فيها الكثير من الحريّة للشعوب, والتقليل كثيراً من استبداد الحكام وتسلطهم على مقدرات شعوبهم.
إن من يتابع مجريات الأحداث المحزنة والمفجعة التي ظهرت في مجرى ما يسمى بثورات الربيع العربي في وطننا العربي, يصل إلى قناعة أكيدة بأن من قام بهذه الأحداث وإن كانت تحت مسمى (الثورة)… الثورة ضد التسلط والتفرد بالسلطة… الثورة من أجل الحرية والعدالة والمساوة… الثورة من أجل التعدديّة السياسيّة وحريّة الرأي والصحافة ودولة القانون… الثورة من أجل الغاء قانون الطوارئ وتحقيق المحاكمة العادلة للمسيء والفاسد, يجد أن كل ما نتج عن هذه الثورات من نتائج سلبيّة وتدميريّة كان وراءها قبل أي شيء آخر غياب الوعيّ السياسيّ لمفهوم الثورة لدى هذه المعارضة, هذا الغياب الذي تجلى واضحاً في تلك الانقسامات الحادة في أسلوب ممارستها فكريّاً وعمليّاً أولاً, ثم فقدان الكثير من فصائلها لتوازنها السياسيّ, وتضخم مصالح وأنانيّة وشهوة السلطة لدى بعض أطرافها ثانياً, الأمر الذي سمح ثالثاً, بدخول ما هب ودب من قوى اجتماعيّة لا تنتمي أصلاً لكل ما يمت لهذه المعارضة, أو لمفهوم الثورة بصلة, لتمارس عمليّاً وعلى نمط أسلوب العصابات بكل معنى الكلمة, سرقة العباد وتدمير البلاد, إضافة إلى ارتماء الكثير من قادة فصائل هذه المعارضة ذاتها بأحضان الخارج, بل ومع أعداء الوطن والثورة معاً كما بينا أعلاه, بل لم يتوان بعضهم من التعامل مع إسرائيل بالذات, والسماح بتدفق المتطرفين الإسلاميين (المجاهدين) من خارج البلاد بأيديولوجيتهم التكفيريّة, للعمل مع بعض القوى الدينيّة السياسيّة المحليّة التي شجعت حضورهم واحتضنتهم للعمل معاً على تطبيق مشروع “الحاكميّة” الموهوم. وهذا ما أساء في الحقيقة لحراك المعارضة, ورهن قرارها كلياً لدول الخارج, ولقادة أو أمراء الجهاد من المهاجرين, فغابت كلياً حريّة الرأي والحركة والتنسيق بين أطراف المعارضة, وتحديد مسار الثورات ذاتها, حيث فرضت على هذه (المعارضات) أجندات محددة, وفي مقدمته الأجندة الطائفيّة التي تصب في خدمة مصالح بعض القوى الخارجيّة التي تجد في تأجيج مضامين هذه الأجندة خدمة لمصالحها السياسيّة هي, كما هو الحال في سورية والعراق وليبيا ولبنان ومصر, حيث اشتغلت السعوديّة ودول الخليج وتركيا كثيراً على هذه الأجندة الدينيّة الطائفيّة التكفيريّة لمواجهة إيران بالنسبة للسعودية بشكل خاص, ولنشر الفكر الدينيّ الإخواني بالنسبة لتركيا وقطر, الأمر الذي حول المعارضة في هذه الدول أو قسم كبير منها إلى مرتزقة للبترودولار.
نقول: إن كل هذه الفوضى (الثوريّة) التي حدثت من قبل المعارضة بكل فصائلها المتأتي عليها أعلاه, لا تتحمل نتائجها المعارضة وحدها وإنما الذي يتحمل المسؤوليّة الأكبر في هذه المسألة أيضاً هي أنظمة الحكم العربيّة التي مارست فعل الإقصاء والإخصاء السياسيّ والفكريّ للآخر, وحرمانه الكثير من حقوقه الطبيعيّة, وفي مقدمتها حقه في إبداء الرأي والمشاركة في إدارة أمور البلاد . لذلك من هذا المنطلق تأتي مقولة : (فاقد الشيء لا يعطيه), منطبقة تماماً على فعل المعارضة أو ممارستها في مضمار ما سمي اليوم بحراك الربيع العربي أولاً, وعلى الموالاة أيضاً, أي الأنظمة والقوى الحاكمة ثانياً.
إن الأنظمة العربيّة بكل أشكالها جمهوريّة كانت أو ملكيّة أو أميريّة, وبكل طبيعة أنظمتها, دستوريّة كانت أم استبداديّة, هي أنظمة شمولية/ كليانيّة مارست فيها – شخصيات كاريزميّة أو أحزاب سياسيّة, أو قوى اجتماعية فئويّة, قبليّة كانت أو طائفيّة أو أسريّة – الفعل السلطويّ الشموليّ في قيادتها للدولة والمجتمع, اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً, كما استطاعت أن تزرع في نفسيّة وأخلاق وسلوكيات الكثير من أفراد المجتمع كما سيمر معنا عبر هذه الدراسة, قيماً وانتماءات بعيدة عن قيم الانتماءات للوطن والمواطنة, وذلك من أجل استمراريّة سلطتها وهيمنتها, الأمر الذي منحها بامتياز صفة الأنظمة الشموليّة. بيد أن الموقف المنهجيّ والمنطقيّ والتاريخيّ في البحث, يفرض علينا بالضرورة الإقرار بأن الأنظمة أو السلطات الشموليّة/ الكليانيّة المعاصرة في العالم الثالث عموماً وطننا العربيّ على وجه الخصوص, تختلف من حيث درجة استبدادها وتحقيق دولتها (العميقة) عن الأنظمة الاستبداديّة الأخرى التي ظهرت قبلها عبر التاريخ, لذلك هذا يتطلب منا عدم الخلط بينها وبين الطغيان التاريخيّ للأنظمة الاستبداديّة الماضية, بالرغم من أن هذه الأنظمة الشموليّة المعاصرة تعتبر في طريقة استبدادها وطغيانها امتداداً لتلك الأنظمة بهذا الشكل او ذاك.
لاشك أننا كعرب قد ورثنا من الماضي بقايا تشكيلات اجتماعيّة اقتصاديّة متخلفة حدثت فيها تاريخيّاً السيطرة المطلقة للقوى الحاكمة, تحت مظلة النظام الإقطاعيّ العسكريّ أو نمط (الدولة المملوكيّة) داخل بنية الدولة أو الخلافة الإسلاميّة بصيغتها الشموليّة طوال تاريخها الطويل, والسيطرة على الأجسام والأرواح معاً. أما النظام الرأسماليّ وخاصة في أوربا, فقد تفنن دعاته الليبراليون من الطبقة البرجوازيّة بعد أن سيطروا على السلطة في ممارسة أبشع أنواع الاستغلال والظلم والقهر على الشعوب التي وقعت تحت سيطرتهم داخليّاً وخارجيّاً, حيث رحنا نجد حالات من التشيء والاستلاب والتغريب لم تعشها الشعوب السابقة التي عاشت قبل نمط وعلاقات الإنتاج الرأسماليّة, هذا إذا ما اعتبرنا الأنظمة الفاشيّة والنازيّة الشموليّة هي إحدى تجليات هذا النظام الرأسماليّ في صيغته الإمبرياليّة. بيد أن الأنظمة الشموليّة/ الكليانيّة المعاصرة والحديثة في عالمنا الثالث, فهي تمارس كما أثبتت التجربة لأنظمتها, آليّة عمل من الاستبداد الشموليّ عبر أجهزة ومؤسسات تقودها مجموعة من الرجال قدموا ولاءهم المطلق للقائد الفرد, ورضي الكثير منهم أن يكونوا أدوات تنفيذيّة لما يقرره هذا القائد الذي حاز على سلطات مطلقة عبر آليات عمل حزبيّة ودستوريّة شكلانيّة, يضاف لها مؤسسات إعلاميّة ودينيّة, حولت الدولة ومؤسساتها إلى حزام ناقل لإرادته وما يقرره هو أو يراه نافعاً للبلاد والعباد, كقائد ملهم, لا يأتيه الباطل من تحته أو بين يديه. بينما نرى في الجانب الأخر من المسألة كيف راح من يَدَعون الولاء له ويسبحون بحمده ليل نهار يمارسون ظلمهم وقهرهم واستبدادهم وفسادهم على الشعب, باسم الحفاظ على الدولة وأمنها ومشروعها الأيديولوجيّ, هذه الدولة التي تحولت وسلطتها بفعل ممارساتهم اللاعقلانيّة, إلى (دولة سلطة) لا (سلطة دولة), بعد أن غلفوا ممارساتهم وشعارتهم بروح شعبويّة ينضح منها الكذب والجهل والتخلف والانتهازيّة والثرثرة الثوريّة والادعاء بالحريّة والعدالة والمساواة والديمقراطيّة والعلمانيّة كما تقول أو تشير دساتير بلادهم أو أحزابهم أو إعلامهم. وهذه المسائل وغيرها من ممارسات سوف نتطرق لها بشكل أكثر تفصيلاً من خلال عرضنا التالي لأهم سمات وخصائص الدولة الشموليّة.
ملاحظة: تابع في الحلقة القادمة (سمات وخصائص الدولة الشمولية).
كاتب وباحث من سوريّة.
التعليقات مغلقة.