الدّيون، إحدى أدوات الهيمنة “النّاعمة” – الجزء الرابع … من التّأثيرات السّلبية للدّيون في أمريكا الجنوبية / الطاهر المعز

0 259

الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 6/4/2025 م …

الأرجنتين

رفضت الدولة في البداية الانضمام إلى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي عند تأسيسهما خلال رئاسة خوان دومينغو بيرون، قبل أن تنضم إليهما سنة 1956 في ظل الدكتاتورية المحافظة الموالية لواشنطن، ومنذ ذلك الحين، وقعت الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة 22 اتفاقية مع صندوق النقد الدولي…

أشرفت الولايات المتحدة على الإنقلاب العسكري ودعمت الدّكتاتورية العسكرية التي ارتفعت الدّيون في ظل حكمها ب5,5 أضعاف، من 1976 إلى 1983 لتصل إلى 45 مليار دولار، وباعت الدّكتاتورية العسكرية شركات القطاع العام، واستثمرت جزءًا هاما من ثمن البيع ومن مبالغ القروض في شكل ودائع بالمصارف الأمريكية بمعدل فائدة لا يتجاوز 5,5% عليها، في حين يقترض المصرف المركزي الأرجنتيني من نفس المصارف بفائدة تعادل 8,75%، بدعم من صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة، مما رَفَعَ دُيُون الأرجنتين بسرعة كبيرة، فارتفعت الثروات الشخصية لضُبّاط الدّكتاتورية العسكرية والمُقرّبين منها، كما تم استخدام القروض في شراء الأسلحة والمعدات العسكرية لقمع الشعوب فقد تم اختطاف واختفاء ثلاثين ألف شخص في الأرجنتين في ظل الدكتاتورية العسكرية بين سنتَيْ 1976 و 1983…

تخلفت الأرجنتين سنة 2001، بسبب الأزمة الإقتصادية والمالية لثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، عن سداد أكثر من سبعين مليار دولار مستحقة للدائنين من القطاع الخاص ودُوَل نادي باريس، بينما استمر سداد ديون صندوق النقد الدّولي، وأثارت الأزمة تحركات شعبية ضخمة قمعتها الحكومة بشدة، وأدت إلى سقوط أربعة رؤساء خلال أسبوع واحد، وضل وضع اقتصادي واجتماعي مُنهارًا لعدة أشهر، وبداية من 2007 خفضت الأرجنتين ديونها لصندوق النقد الدولي بشكل كبير لمدة عشر سنوات تقريبًا (2007-2017) إلى أن تم انتخاب الرئيس الثري واليميني الموالي للولايات المتحدة ” ماوريسيو ماكري” النيوليبرالي سنة 2018، في مناخ اتسم بصعوبات اقتصادية كبيرة – مع تزايد التفاوت والفقر والتضخم – ووافق صندوق النقد الدّولي سنة 2018 على أكبر قرض بقيمة 57 مليار دولارا ، وكان الصندوق ومنورائه الولايات المتحدة يهدف مساعدة ماوريسيو ماكري على إعادة انتخابه بفضل الإنفاق الذي أصبح ممكنا من خلال هذا القرض الذي يُؤَدِّي إلى إغراق البلاد بالدّيُون التي يستوجب سدادها عقودًا، فضلا عن الشروط السياسية والإقتصادية التي ترافق قُروض الصندوق

حصلت حكومة الأرجنتين إذًا، سنة 2018، على أكبر قرض يُقدّمه صندوق النقد الدّولي على الإطلاق بقيمة 57 مليار دولارا، وهو القرض الثاني والعشرون ( آنذاك) لإنقاذ اقتصاد الأرجنتين ( ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، بعد البرازيل) المُتَعَثِّر، وإعادة تمويل المصرف المركزي، ولم يتم إعادة انتخاب ماوريسيو ماكري، وواصل خليفته ألبرتو فرنانديز، الذي وعد بتحرير البلاد من السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي، التفاوض مع الصندوق الذي أَقْرَضَ الحكومةَ 23,4 مليار دولار سنة 2022 و12,7 مليار دولار سنة 2023، لسداد جزء من الدّيُون المُسْتَحَقّة بقيمة 44 مليار دولار اقترضتها سنتَيْ 2018 و2019، وتم استخدام القرض البالغ 23,4 مليار دولار لسداد أقساط بقيمة 18,6 مليار دولار سنة 2022 و21 مليار دولار سنة 2023…

بعد سبع سنوات، أكد صندوق النقد الدولي يوم الجمعة 28 آذار/مارس 2025 أنه يجري محادثات مع الأرجنتين – أكبر دولة مقترضة من صندوق النقد الدّولي – بشأن قرض جديد بقيمة عشرين مليار دولار ( إضافة إلى 44 مليار دولارا مُسْتَحَقّة للصّندوق) بهدف “دعم برنامجها للإصلاح الاقتصادي” ودعم احتياطي المصرف المركزي الذي لا يتجاوز 26,23 مليار دولارا (يوم 29 آذار/مارس 2025)، وأدى خبر طلب القَرْض إلى تراجع حاد في قيمة العُمْلة المحلية ( البيزو)، في عملية استبقاية لتنفيذ شروط صندوق النقد الدّولي التي تتضمن دائمًا خفض قيمة العملة…  

كان للاتفاق التاريخي الذي وقعه صندوق النقد الدولي مع الأرجنتين في عام 2018 وما صاحبه من تقشف عواقب وخيمة على الطبقات العاملة والكادحين وخاصة النساء، ومن ضمنها التخفيضات في الميزانيات العامة وفصل الموظفين المدنيين وإلغاء معاشات التقاعد للنساء اللاتي عملن في المنزل طوال حياتهن (بناءً على طلب صندوق النقد الدولي) وارتفاع عدد الفقراء الذين يضطرون إلى اللجوء إلى “مطابخ الحساء” المجانية، بسبب ارتفاع معدل الفقر من 27% إلى 40% خلال فترة ولاية ماوريسيو ماكري

ولكن الأمر لم ينته بعد، إذ لا تزال الأرجنتين مدينة لصندوق النقد الدولي بمبلغ 40 مليار دولار ومن خلال اتخاذه قراراً بإنقاذ ولايته، “منح” ماوريسيو ماكري بلاده عقداً من التقشف على الأقل، نظراً لأن حكومة ألبرتو فرنانديز اليسارية لم تكن لديها الشجاعة للتشكيك في سداد الديون. كان هذا الافتقار إلى الشجاعة جزئيًا هو الذي أدى إلى انتخاب خافيير ميلي رئيسًا في نهاية عام 2023. هذا الأخير، وهو من مؤيدي الليبرالية الجديدة التي تم أخذها إلى أقصى حد، دون أي قواعد، يشعر براحة كبيرة مع شروط صندوق النقد الدولي. يجب مراجعة وإلغاء الديون التي تؤدي إلى إفقار السكان وزيادة التفاوت. لا يجوز أن يُحكم على الشعب الأرجنتيني بدفع دين بغيض بشكل واضح.

بعد انتخاب خافيير ميلي

تم انتخاب الرئيس اليميني المتطرف خافيير ميلي بنهاية سنة 2023، واستخدم الرئيس حق النقض ضد أي زيادة في تكاليف تشغيل الجامعات ورواتب أساتذة التعليم العالي، يوم التاسع من تشرين الأول/اكتوبر 2024، ويأتي هذا النقض بعد أن وافق مجلس الشيوخ يوم الثالث عشر من أيلول/سبتمبر 2024 على إعادة تقييم العُمْلة ( بيزو) بهدف امتصاص آثار التضخم، وأدّى اعتراض الرئيس إلى إطلاق حملة احتجاجات بدأت بإضراب أكثر من ثلاثين جامعة ومظاهرات طلابية اتّسعت فيما بعد إلى فئات شعبية عديدة، وتعكس هذه الإحتجاجات وضع البلاد والسّكان، فقد نشر المعهد الوطني للإحصاء والتعداد (INDEC ) أوائل شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024، بيانات تفيد ارتفاع مستوى الفقر من 42% من السكان بنهاية 2023، إلى 52,9% من السكان ( 57,4% بنهاية سنة 2024)، أو حوالي 24,8 مليون شخص، بنهاية أيلول/سبتمبر 2024، ويبلغ معدل فقر الأطفال 66%، وأدّى الفقر إلى انقطاع نحو 35% من الشباب عن الدّراسة بالتعليم الثانوي، ويعاني 19% من السكان من ظروف سكنية غير مستقرة، بينما يعاني 18% منهم من الاكتظاظ، ونشَرَ المرصد الاجتماعي للأسرة الأرجنتيني، التابع للجامعة الكاثوليكية الأرجنتينية، بحثًا مشترك مع مصرف الرهن العقاري، يُفيد إن 56% من الأطفال في المراكز الحضرية يفتقرون إلى الوصول إلى نظام الصرف الصحي والأرصفة والطرقات، و 53% ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الغاز، و 38% ليس لديهم شبكات الصرف الصحي…

بالنسبة للعاملين الأُجَراء، انخفضت قيمة الأُجور بسبب التضخم، منذ وصول خافيير ميلي إلى السلطة يوم العاشر من  كانون الأول/ديسمبر 2023، إذ بلغ معدل التضخم 263,4% على أساس سنوي، بنهاية شهر تموز/يوليو 2024 فيما انخفضت رواتب موظفي الدولة، من حيث القيمة الحقيقية، بنسبة 25,7% وانخفض عدد العاملين في القطاع الخاص بنسبة 23,2%، أي إن العمال والكادحين والفئات الشعبية تُسدّد ثمن الأزمة…  

لا يحصل حوالي 37% من العاملين على الحقوق الأساسية مثل الضمان الاجتماعي أو الإجازة مدفوعة الأجر أو الحق في مكافأة نهاية الخدمة في حالة فقدان الوظيفة، لأنهم غير مُسجّلين سواء في الإقتصاد الرسمي أو الإقتصاد الموازي، خصوصا في قطاع البناء: 70% من العمال غير مسجلين ومن بين العاملات المنزليات، تعمل 76% منهن في القطاع غير الرسمي، بحسب المعهد الوطني للإحصاء والتعداد، وصدر مرسوم ( 26 أيلول/سبتمبر 2024)

وفي هذا السياق، يعمل المرسوم 874/2024 [بتاريخ 26 سبتمبر 2024] يُجيز إعفاء صاحب العمل من الغرامات أو العقوبات أو المساهمات في حالة وجود موظفين غير مُسجّلين، فضلا عن التسامح مع الديون الناجمة عن عدم سداد اشتراكات الضمان الاجتماعي أو مساهمات صاحب العمل الأخرى، وتثساهم مثل هذه الإجراءات في تهميش العاملين وزيادة التفاوتات: حصل أغنى 10% على 32,5% من الدخل، بينما حصل أفقر 50% على 19,9% خلال الربع الثاني من سنة 2024 وفق معهد الإحصاء…  

رغم انتشار الجوع والفقر والبطالة والديون والتضخم قررت الحكومة ( وزارة المالية) تجميد تحويل الأموال المخصصة للمساعدات الاجتماعية للقطاعات الأكثر حرمانًا من السكان، وإلغاء مطابخ الحساء ( التي تقدم حساء للأفقر الفقراء)، وأوقفت المساعدة الطبية للمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة وحادة، وألغت خطط المساعدة الاجتماعية ودفعت المتقاعدين إلى الفقر مع معاشات تقاعدية قريبة من خط الفقر، فارتفع معدل الفقر في البلاد إلى مستوى مثير للقلق حيث بلغ 57,4% من السكان بزايادة 4,5% بين نهاية 2023 ونهاية 2024، وفق تقرير صادر عن المرصد الاجتماعي للجامعة الكاثوليكية الأرجنتينية (UCA)

تُخطّط الحكومة لتنفيذ سلسلة من الإجراءات، سنة 2025، ل”تخفيف” قوانين العمل، “لجعل العمل أكثر مرونة”،  وخصخصة مؤسسات القطاع العام ووسائل الإعلام، وتفكيك الوزارات والخدمات الحكومية، ونهب الثروات مثل المناجم والليثيوم وصيد الأسماك والممر المائي بارانا-باراغواي، وما إلى ذلك، فيما تُعرّض مشاريع الحكومة للخطر قطاعات الثقافة والدفاع عن حقوق الإنسان والتعليم العام وتمويل الجامعات الوطنية والبحث العلمي العام الخ.

ردّت نقابات الأُجَراء الفعل ونفذت إضرابَيْن عامّيْن خلال ثلاثة أشهر، رغم الإجراءات القمعية وغلق الشوراع وتهديدات وزيرة الأمن، مما أجبر الحكومة على التراجع، مؤقتا، عن بعض المشاريع، غير إن كل المؤشرات تُفيد إن الرئيس ميلي وحكومته يريدون تدمير المؤسسات العامة وقوانين العمل وتدمير الأسس الديمقراطية، بدعم من صندوق النقد الدّولي، حيث يستمر الهجوم على العمال وأعربت الحكومة عن نيتها إلغاء حق الإضراب في العديد من القطاعات، مثل التعليم والصحة والنقل…

خلاصة

يلعب صندوق النقد الدّولي دَوْرَ “مُنقذ” البلدان التي تلاقي صعوبات في سداد ديونها، ولكنه في الواقع يُنقذ الدّائنين من القطاع الخاص في الدّول الغنية، فهو يُوفر المبالغ التي تُمكّن البلدان الفقيرة من تسديد ديونها ويغتنم خبراؤه الفرصة لتشديد الشروط فتصبح الدّيون بمثابة أداة الإستعمار الجديد التي تضمن تبعية الدّول المُقترضة، بواسطة برنامج الإصلاح الهيكلي الذي يتضمن خصخصة القطاع العام وإلغاء دعم الوقود والأغذية وخفض الإنفاق الحكومي وخفض عدد موظفي القطاع العام وتوجيه الإنتاج نحو التصدير وفتح الأسواق وإلغاء مراقبة الأسعار وصرف العملات الأجنبية وزيادة الضرائب على الأجور والضرائب غير المباشرة، مع إعفاء الشركات الكبرى من الضرائب على الأرباح وتؤدي هذه الإجراءات إلى تفاقم التفاوتات في الدّاخل وإلى مزيد من التّبعيّة إلى الأطراف الخارجية…

يُؤَدّي ارتفاع حجم الدّيون ( والفوائد ) وما ينتج عنها من سياسات التّقشّف وانخفاض الإنفاق الحكومي وتقويض قطاعات الصحة والتعليم والنّقل والسّكن والطّاقة إلى تفاقم عدم المساواة، وإلى زيادة النُّفُوذ المالي والسياسي للأغنياء ( أي الأقلية) وهو نَسءف لمبادئ الدّيمقراطية، لأن الأغنياء أو السلطات (الحكومة والمجالس النيابية) التي تُمثلهم لن تتخذ سوى قرارات تُناسب مصالح الأثرياء، مما يزيد من عدم المُساواة ومن التباعد بين المؤسسات الرسمية وأغلبية المواطنين

يمكن التّخفيف من حدّة الفقر وعدم المساواة من خلال إجراءات لا تُقوّض النّظام الرّأسمالي ( أي إنها إجراءات وتدابير لا علاقة لها بالإشتراكية، كما يزعم النيوليبراليون) ومن بينها الضرائب التصاعدية، وزيادة قيمة الرواتب (ليتمكن الأجراء من استهلاك إنتاج مصانع الرأسماليين) وزيادة الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية وجودة الخدمات، وهي إجراءات تُحَفِّزُ التنمية الإقتصادية وتُخفّف من التّوتّر وتحدّ من الغضب الشّعبي، لكن الرّأسمالية – خصوصًا في مرحلة النيوليبرالية، وفي ظل غياب نماذج لمجتمعات مُغايرة، كالمجتمعات الإشتراكية – لا تهتم سوى بزيادة الأرباح ولا تؤمن بالحوار

وجب على “المجتمع المدني” والنقابات والمنظمات والأحزاب التقدمية خلق ميزان قُوى قادر على فَرْض برنامج للحد الأدنى على سلطات الدّول المُستدينة يُجبرها على فرض الضرائب التصاعدية على الثروة والدخل وأرباح الشركات، وتحويل العبء المالي من الأُجَراء ومن “المُستهلكين” ( ضريبة الإستهلاك) إلى الثروات والرُّيُوع، وإعادة تنظيم القطاع المصرفي وتوفير خيار عام للائتمان والخدمات المصرفية والتّراجع عن خصخصة المصارف المركزية التي فرضها الدّائنون وأقطاب النيوليبرالية تحت غطاء “استقلالية المصارف المركزية“…

من أجل:

تأميم القطاعات الحيوية والإنتاج الاجتماعي وتطوير الخدمات العامة المجانية (التعليم والصحة والثقافة وغيرها)، وتمويل تحويل الزراعة الحالية التي تساهم بشكل كبير في الأزمة البيئية إلى زراعة مُستدامة، وتعزيز التنوع البيولوجي لضمان السيادة الغذائية، وجعل الفلاحة مُلائمة لتغير المناخ و تعزيز سلاسل التوريد القصيرة وتشجيع النقل العمومي بدل استخدام السيارات الخاصة، وتمويل برنامج لملاءمة السّكن لمناخ كل بلد مع ضمان الجودة…  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة عشر + 1 =