حكاية هنديّة / د. ابراهيم صبيح

308

د. ابراهيم صبيح ( الأردن ) – الأربعاء 16/12/2020 م …

ملايين من الناس يتحركون في كل الاتجاهات ويتزاحمون مع ملايين من السيارات الكبيرة والصغيرة، ركاب يخرجون من شبابيك الحافلات من شدة الازدحام، معابد كثيرة، أنهار عريضة، صبية يلعبون الكريكيت وهم حفاة في أرض فضاء، محلات ودكاكين وأقمشة وأصباغ برتقالية وحمراء، عمال يحملون أكواماً هائلة من القش على ظهورهم، حفاة ومتأنقون، قصور وأكواخ.

كل هذا في “مومباي” (بومباي سابقاً) أكثر مدينة مأهولة بالعالم حيث يسكنها حوالي عشرين مليونا من البشر موزعين على الجزر السبعة التي تتكون منها مومباي. زرت المدينة لأول مرة عام 2007 ضيفاً على المؤتمر الآسيوي لجراحة الدماغ وكنت أحتفظ بمخزون من المعلومات عن الهند من خلال الأفلام الهندية التي كنت أشاهدها في صباي: الموسيقى والرقص والميلودراما والخيال الخصب والمواقف المثيرة والمفارقات المدهشة، العلاقات العائلية، الآباء والأمهات، التضحية والإيثار، الفساد والاختطاف، الأبطال والأشرار والحب والغرام.

تذكرت أجمل وأغرب ما في الأفلام الهندية وهي الأغاني والرقصات التي تغرس في سياق الفيلم غرساً فيظهر البطل والبطلة وهم يرقصون في قصر كبير في “كلكتا” ومعهم المئات من الكومبارس الذين يرقصون على الشرفات وعلى الطاولات والأسوار وفجأة ينتقل المشهد حيث تستمر الأغنية تحت مطر غزير جداً والآلاف من الكومبارس يرقصون فوق قمم التلال بينما البطل والبطلة يركضان باتجاه بعضهما على حافة النهر، وعندما يلتقيان يحمل البطل البطلة ويدور بها في الهواء قبل أن يقع بها على الأرض ويتدحرجان على التلال المغطاة بالثلوج في “كشمير”.

خرجنا من مقر انعقاد المؤتمر حيث ركبنا حافلة سياحية للذهاب إلى العشاء في أحد المطاعم الفخمة. كنت أجلس بجانب الشباك وأحسست عند خروج الحافلة من بوابة الفندق أنني خرجت من عالم الفخامة إلى عالم الفقر المدقع حيث أن نصف سكان مومباي يعيشون في أحياء عشوائية وأكواخ لا تصلح للسكن الآدمي.

توقفت الحافلة عند إحدى الإشارات الضوئية ورأيت رصيف الشارع وقد تحول إلى عدة أماكن للسكن حيث يتدلى من السور القريب من الرصيف قطع من الأقمشة تم تثبيت أطرافها على الرصيف بأحجار ثقيلة وتحت كل قطعة قماش كانت تعيش عائلة.

رأيت الزوج الذي ينام تحت قطعة القماش (التي تشكل المنزل) والزوجة تقوم بغسل أجساد أطفالها بماءٍ قذر بينما شيوخ ونساء وأطفال ينامون على حجر الرصيف القاسي دون غطاء فوقهم أو تحتهم.

رأيت بذخاً غير عادي في حفل زفاف في المطعم الذي قصدناه ورأيت أكواما من الذهب على صدور السيدات بينما خارج المطعم كان صبية صغار يبحثون في القمامة عن طعام.

لم أتخيل يوماً أنني سأرى فقراً شديداً يصيب ملايين من البشر مثلما شاهدت في مومباي. تذكرت أن واحد من كل ستة أشخاص على وجه هذه الأرض هو هندي، وتذكرت الملايين من العمال المهرة الذين ترسلهم الهند للعمل في دول الخليج العربي وتذكرت المعاهد العلمية الهندية ذات الشهرة العالمية والتي تصدر خريجيها إلى وادي السيليكون في كالفورنيا.

تذكرت صناعة السينما في الهند (بوليوود) التي تفوقت على صناعة السينما في هوليوود حيث تنتج بوليوود مائتي فيلم سنوياً. تذكرت أن ستة ملايين مسافر ينتقلون من وإلى مومباي بالقطار يومياً، يركبون داخل القطار وفوق أسطحه فيموت الآلاف منهم.

في مومباي بكيت مرات عديدة لأنني أستطيع أن أنام في سرير وثير في فندق مميز وأتنقل في حافلات فارهة لأتناول أشهى الطعام بينما هناك من لا يعرف معنى تذوق الطعام أو دفء الكساء من بني الإنسان.

التعليقات مغلقة.