الدّولة و المثقّف و إشكاليّة الدّولة السّوريّة ، المزمنة ، مع المثقّفين ( 3/3 ) / د. بهجت سليمان

793

د. بهجت سليمان (@drbahjat49) | Twitter

 د . بهجت سليمان

19▪ سابقاً وخلال السنوات الماضية ، تطرّقنا ، إلى علاقة “المثقّف” السّوريّ بالدّولة الوطنيّة السّوريّة ؛ و إذ لسنا بصدد استعادة تلك الأحاديث ، فإنّنا سنحتاجها في استعارة ضروريّة للوصول إلى ما نريد من جديد في بحثنا علاقة الدّولة بالمثقّف ، من حيث الدّولة هي “الطّرف الإيجابيّ” في هذا العلاقة ، بعد أن كنّا تحدّثنا عن “العكس” ، سابقاً .

     نشأت الدّولة السّوريّة المعاصرة في محيطٍ من مشاريع “الدّولة” المختلفة و التي صدّرتها إلينا عهود الاحتلال العثمانيّ و الاستعمار الأوربّيّ المباشر . و في تناقضات تلك التّيارات السّياسيّة و الثقافيّة ، حملت الدّولة النّاشئة الكثير من المواصفات الثّقافيّة الاجتماعيّة التّاريخيّة ، موضوعيّاً ، لتظهر آثار هذه الاتّجاهات العاصفة في البنية السّياسيّة المباشرة في الدّولة ، و التي كان متوقّعاً أن تُنتج ثقافتها انطلاقاً من مراكز القوّة في المتناقضات . و هذا شيءٌ طبيعيّ و تاريخيّ بقدر ما يعكس حيوّيّة “الجمهوريّة الأولى” باعتبارها التّجربة الوطنيّة الأولى و “الشّاملة” مع “السّيادة” .

20▪ إلّا أنّ الذي لم يكن طبيعيّاً ، في الموضوع ، هو تكلّس هذا “الوضع” العامّ و وجموده الذي ظهر في التّردّد التّاريخيّ في مسارات مستقبل الدّولة الحديثة على ما سنوضّحه .

     قامت “الدّولة” بمعبّراتها و عباراتها المختلفة في إطار سياسيّ واحد سياديّ و لكنّه لم يكن ( و هو لا يستطيع في الواقع ! ) “مانعاً” أو “منيعاً” لغيره من الثّقافات التي تستبطنها السّياسة .

     في المقابل حافظت أكثر القوى رجعيّة و عزلة ، من جهة ؛ و أكثرها انتهازيّة و نفعيّة اجتماعيّة و سياسيّة ، من جهة أخرى ؛ حافظت على “مشاريعها” الثّابتة تاريخيّاً ( و هنا ، تاريخانيّاً ) ، و تمسّكت بكلّ روابط الشّدّ “الثقّافيّ” المعادي و المضادّ لثقافة الدّولة ، و ذلك في مشاريع سياسيّة متناقضة و أحياناً ، أو غالباً ، متناحرة مع سيادة الدّولة في الثّقافة و في السّياسة و في غير ذلك ، أيضاً .

     أعادت تلك القوى المناوئة “ثقافيّاً” ( سياسيّاً ) للدّولة ، بسهولة ، إنتاج خطابها الانعزاليّ و الرّجعيّ و المتواطئ .. إلخ و المعزّز بالتّاريخ و الجغرافيا .. و ما إليه ، في نصوص و ممارسات علنيّة تنظيميّة و إداريّة و أخلاقيّة ، و في أشباهها ، و ينوف ، في محافلها السّريّة . و هذا أمرٌ ، أيضاً ، طبيعيّ و متوقّع و ضروريّ و حتميّ تاريخيّاً ..

21▪ بالمقابل ، فإنّه كان للدّولة تصوّرها السّياسيّ عن “الثّقافة” ، و عن غير “الثّقافة” ، و الذي عملت عليه في “النّصوص” الرّسميّة و المؤسّسات الموازية ، في محاولة لإنتاج ثقافتها الوطنيّة “الخاصّة” الجديدة ، إلّا أنّها لم توفق ، كما يجب أن يكون متوقّعاً ، في إنتاج و توزيع “الخطاب” الموازي و المجاوز للنّصوص ، أي في الوجدان الجمعيّ و السّلوك المباشر نظراً لتواشج المكوّنات الواحدة ، الاجتماعيّة ، للدّولة و لأعداء الدّولة ، في مكان اجتماعيّ واحد أو متشابه ، و في مكان سياسيّ ، رسميّ ، سياديّ ، أيضاً واحد ، تقريباً ، و ذلك بقدر ما أنّ الأمر يعود إلى التّشارك التّاريخيّ الحتميّ بالعتلة الاجتماعيّة الواحدة التي تدور بها الدّولة في إنتاج ذاتها و إنتاج المجتمع ، باستمرار .

22▪ من وجه آخر للمشكلة التّاريخيّة التي تفسّر ذلك التعثر الذي مني به ” المشروع الثقافي للدّولة ” فإن الأمر يعودُ إلى أنّ “المفارقة” الحداثيّة التي أحدثتها الدّولة الوطنيّة “المعاصرة” ، بما هي قطيعة “سياسيّة” بمضمون ثقافيّ نسبيّ ، قد حرمتها ، أيضاً ، من تعاطف الوجدان الجمعيّ المتخلّف و الرّجعيّ و المحافظ على “مواقعه” و الذي هو مستعدّ للموت و التّضحية بكلّ شيءٍ في الدّفاع عن تلك “المواقع” التي أُسبِغت عليها ، ثقافيّاً ، صفةُ القداسة الدّينيّة(!) في الوعي الاجتماعيّ ؛ و هذا ، طبعاً ، بالإضافة إلى أسباب أخرى و التي لطالما كانت مصدر عزاءٍ سخيف للموضوعويين من المثقّفين و السّياسيين و الأكاديميين .. المعاصرين ..

23▪ جميعنا يعرف أنّه في وقتٍ ما ، أو بالأحرى في أوقات متواليّة و متراكمة كثيرة ، كان أن اشتدّ النّزاع بين “ثقافة المجتمع” السّياسيّة المواجهة للدّولة ، بصنوفها و صفوفها و فصولها المتعدّدة ، من جهة ؛ و بين “ثقافة الدّولة” السّياسيّة ، بوصفها نظاماً سياسيّاً و مؤسّسات حقوقيّة و اعتباريّة ، من جهة ثانية ..

     وفيما كان طبيعيّاً أن يتطوّر هذا النّزاع التّاريخيّ إلى تناقضات غير محلولة ثقافيّاً و سياسيّا ثمّ اجتماعيّاً .. ، وصلت إلى مرحلة التّضادّ و العداوات التّاريخيّة و السّياسيّة بما تجاوز الخصومة السّياسيّة إلى النّزاعات المسلّحة ( و الفصل الذي نشهده منذ حوالي عقد ، هو أحدث الفصول في ذلك .. ! ) ، أقول في هذه الأثناء كان داخلاً في هذه المواجهات ، أيضاً ، مختلف النّصوص و الخطابات السّياسيّة ذات الجوهر الثّقافيّ لكلا طرفيّ هذه المواجهة التّاريخيّة ، و أعني للدّولة و لأعدائها ، معاً ، على التّوازي و في سباقٍ محموم في “تطوّراتٍ” مضمونيّة و مفهوميّة جاوزت كلّ معقوليّة و عقلانيّة !

24▪ إنّ للدّولة ، أيّة دولةٍ ، منظورها الخاصّ و الوسائليّ ( الذّرائعيّ ) في الدّفاع عن نفسها و مؤسّساتها ، و هذا الأمر واقع و “حقّ” مشروعان ، في مختلف النّظم و الأنظمة السّياسيّة و الشّرعيّات التّاريخيّة للدّول في كلّ مكانٍ و زمان ..

     و هنا ، بالضّبط ، حصلت “مشكلتنا” المعاصرة في موقف “الدّولة” إزاء “الثّقافة” ، بعموم ، و إزاء “المثقّف” ، و هو ما يدور حديثنا عليه .

اعتبرتْ الدّولة ، في سياق “حقّها” المشروع في الدّفاع عن نظامها السّياسيّ بما هو وجود لها و بما هو نظامٌ “ثقافيّ” ، أيضاً ، و بما هو واقع اجتماعيّ يحيط بها و يدخل في عناصرها و مقوّماتها الطّبيعيّة .. اعتبرتْ بأنّ كلّ نظريّة أو حالة ثقافيّة أو مشروع ثقافيّ أو كلّ مثقّف سياسيّ .. إلخ ؛ إنّما ذلك ما هو إلّا مظاهر مختلفة لأعداءٍ ، للدّولة ، متعدّدين .. !

     و لقد دعّم “مشروعيّة” هذه “النّظرة” المنغلقة للدّولة ، إزاء الثّقافة و المثقّفين ، واقع أنّ معظم “المشاريع الثّقافيّة” و “مثقّفيها” .. هم ، بالفعل ، ليسوا أكثرَ من أعداءٍ حقيقيين للدّولة و السّيادة و المجتمع ، إلى درجة من المهزلة والسخرية ، عاصرناها ، جميعاً ، و هي أنّ كلّ “مثقّف” من هؤلاء الدّاخلين في مشاريع “المعارضات” الثّقافيّة – السّياسيّة الهابطة ، كان يُمثّل في قراراته و سلوكه و تنظيره ، “مشروع رئيسٍ للجمهوريّة”.. (!!؟؟) ، بما ينطوي عليه كلُّ هذا “الوهم” الأبله ، من تضحيّة بالمجتمع على مذبح النّزاع المسلّح مع “الدّولة” .

25▪إنّ التّاريخ ملكٌ للجميع ، و الجميع قادرٌ على أن يتذكّر ببساطة تلك المهزلة الثّقافيّة – السّياسيّة – الاجتماعيّة ، المعاصرة ، و أن يكون شاهداً على ما عِيشَ في (سورية) و يُعاش .

     و في إطار “ردّ الفعل” هذا ، اكتسبت السّياسيّة الثّقافيّة السّياديّة طابعاً متكلّساً و حذراً و متردّداً ، بل و أكثر من ذلك ، و أعني معادياّ ( و هذا عمليّاً ، على الأقلّ ! ) و رافضاً لكلّ صيغة “ثقافيّة” ، سياسيّة و غير سياسيّة ( هذه المرّة ) ، و ذلك نتيجة لما كوّنته لها “الثقّافة” ( المعارِضة ) من ظاهرة سيئةٍ لا تؤدّي إلّا إلى الجريمة السّياسيّة و الاجتماعيّة ، و هذا ما لا يتّفق مع طموح الدّولة إلى الاستقرار الاجتماعيّ .

     لا أعني أنّ “الطّالح” قد حذف “الصّالح” من الواقع و الآفاق .. ، و إنّما لم تتمكن “الثّقافة” نفسها أن تنتج لها وجهاً آخرَ ، نظراً إلى أمرين :

     ○ الأوّل ، و هو القيود السّياسيّة الموضوعيّة للثّقافة ، و التي مارستها و تمارسها “الدّولة” كردّ فعلٍ على الثّقافة من حيث المبدأ و الأيلولة ..

     ○  و الثّاني ، هو أنّ “الثّقافة” بعمومها قد أصابتها “عدوى” المعارضة السّطحيّة ، باعتبارها تعيد إنتاج نفسها بمزيد من الشّعور بالغبن إزاء موقف الدّولة من الثقّافة و المثقفين !

     بالنّتيجة انهار النصّ “الثقافيّ” الأصيل ، كما انهار في ثنياته و مفاعيله “الخطاب” الثقافيّ الّلائق بالمعاصرة ، و الذي هو ، في الوقت نفسه ، حاجة إلى التّطوّر الشّامل الذي يُفضي إلى تصحيح “الظّاهرة الثّقافيّة” السّوريّة ، لدخولنا عصر العالم ..

26▪ و بالفعل ، و بقليل من التّدقيق نستطيع القول ، بالمطلق ( و لو أنّنا ، هنا ، نجافي ، العقلانيّة ..) إنّنا لو نظرنا إلى النّتاج الثقّافيّ “الأكثر رقيّاً” في المجتمع السّوريّ ، فإنّنا سنصاب ، و بعمق ، بخيبة الأمل المفجعة نتيجة لتواضع النّصوص و الخطابات ..

     و هنا ، أنا أستعير “مقياساً” ، دقيقاً في “التّقويم” ، على الأقلّ ، من ( جان بول سارتر ) :

       ” إنّ الفكر الأصيلَ ، حقّاً ، لا يوجدُ ، قطُّ ، أحد في انتظاره ” .. !

     على أنّ معظم ما يُنتج ، اليومَ ، من “إبداعات”(!) ثقافيّة دعيّة ، يكون “الجميع” بانتظاره . و ليست الثقافة هذا ، إذاً .

27▪ فهل أقول أخيراً ، إنّ الكثير مما يُنتج ، في ( سورية ) ، اليومَ ، في “الثّقافة” و “المثقّفين” – مع عدم الدّخول في المجاملات ا التي تقول “مع احترامي” ، أو غير ذلك – إنّما هو لا يتجاوز أن يكون صادراً عن هواة ؟

     و مع ذلك ، لا بد من الاعنراف بأنّ موقف “الدّولة” من الثّقافة” و “المثقّفين” ، هو موقف فيه الكثير من العسفِ النّاجم عن عدم شعور الدّولة ، على الأقلّ ، و قناعتها بعدم حاجتها إلى “الثّقافة” و “المثقّفين” ، بمن فيهم أولئك الذينَ لم يطرحوا أنفسهم ، بعد ، كمثقّفين و لا كمخلّصين ، و لكنْ ربّما أنّهم يُدركون كيف يؤسّسون ، على الأقلّ ، للمؤسّسات الثقّافيّة المعرفيّة و المعاصرة ، و التي هي البيئة الوحيدة لإنتاج هويّة ثقافيّة للدّولة و المجتمع و الأفراد السّوريين .

     و من طبيعة واجبات “الدّولة” أن تفترض ، دائماً ، أسوأ الاحتمالات في التّعامل مع “الظّواهر” الثّقافيّة و السّياسيّة و مع “المثقّفين” و “السّياسيين” ؛

     إلّا أنّه ، و بالمطلق ( مرّة أخرى ) ، ليس من واجباتها كما أنّه ليس من حقوقها ( ناهيك عن أنّها لا تستطيع ) أن تعقّم التّاريخ من ضروراته ، و بخاصّة ، تلك التي تعترضها كحتميّات في الصّراع الإنسانيّ – الاجتماعيّ – و السّياسيّ الثّقافيّ ؛ كمأ أنّها “المؤسّسة” التي يفترض بها الإحاطة بكلّ الوقائع غير العابرة و التي من شأنها أن تؤسس لظواهر معاصرة و ضروريّة للمجتمع و الدّولة ، و هذا ما لن تجده “الدّولة” خارج “الثّقافة” و خارج “المعرفة” .