دَهالِيز الدّيمقراطية الأمريكية – الجزء الأول / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 11/6/2025 م …
من “مناهضة الشيوعية” إلى “لنجعل أمريكا قوية مرّة أخرى”
قال السيناتور الديمقراطي عن ولاية نيفادا بات ماكاران ( 1884 – 1972)، سنة 1950، خلال فترة الحرب الباردة، إنه يريد إنقاذ الولايات المتحدة من الشيوعية و”المصالح اليهودية”، وقدم مشروع قانون الجنسية ( تشديد شروط الحصول على الجنسية الأمريكية) والهجرة ( تقنين الإستغلال الفاحش للمُهاجرين والمهاجرات، بمن في ذلك الأطفال) سُمِّيَ، بعد إقراره من قِبَل الكونغرس سنة 1952، “قانون ماكاران-والتر”، وقانون الأمن الداخلي المكمل له لعام 1950 (المعروف أيضاً باسم قانون ماكاران )، وهي مجموعة قوانين قَمْعِيّة أدّى تطبيقها إلى موجة من الملاحقات السياسية للزعماء التقدميين الذين أرهقتهم المعارك القضائية ماليا ونفسانيا، وعانوا من السجن ومن التّرحيل الجماعي، مما دفع السيناتور هيوبرت همفري ( 1911 – 1978) إلى القول إن الترحيل دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة “سيكون بداية لدولة بوليسية“.
إن القرارات والتّدابير التي اتّخذها دونالد ترامب شبيهة بتلك القوانين أو هي مستوحاة منها، في مناخ يُذَكِّرُ بفترة الحرب الباردة، من ملاحقة وترحيل المُهاجرين باعتبارهم “تهديدًا للنظام الإجتماعي” وقَضْم الحقوق السياسية والإجتماعية، والهستيريا السّائدة، واستبعاد طلبة وسائحي وعُمال العديد من البلدان من تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة، واستخدام إجراءات “الإبعاد السريع”، والذي يحرم الشخص من جلسات المحكمة في قضايا الترحيل ما لم يتمكن من إثبات أنه كان متواجدًا لأكثر من عامين، ويعيد أمر تنفيذي آخر إحياء قانون تسجيل الأجانب لعام 1940-1944، وجَعَلَ عدم الإعلام عن الأجانب أو عدم سعي الأجانب للوشاية بأنفسهم جناية، وتهدد إدارة ترامب بتحويل جميع المهاجرين إلى مجرمين من خلال “جريمة” عدم التسجيل“، كما منع حظر سياسي (بقي ساريًا حتى سنة 1990) الشيوعيين المُفْتَرَضِين من دخول الولايات المتحدة، وتم تطبيقه بشراسة خاصة على الشعراء – من الشاعر الجنوب أفريقي دينيس بروتوس إلى الشاعر التشيلي بابلو نيرودا والشاعر الفلسطيني محمود درويش، كما مُنع غابرييل غارسيا ماركيز، الذي تم تحويل روايته ” مائة عام من العزلة” إلى عمل تلفزيوني ناجح على شبكة نتفليكس، من دخول الولايات المتحدة باعتباره شيوعيًا بعد حصوله على جائزة نوبل، وتم اتهام العديد من المُقيمين الأجانب بالتّخْرِيب، وأيدت المحكمة العليا سنة 1952 ترحيل روبرت جالفان، وهو عامل مكسيكي عاش في الولايات المتحدة منذ كان في سن السابعة من عمره سنة 1918، وتزوج من مواطنة أمريكية وأنجب أربعة أطفال وأثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الولايات المتحدة حليفة للاتحاد السوفييتي، كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي لمدة عامين، وهو حزب سياسي قانوني آنذاك، ومع ذلك تم ترحيله، ولا يزال يُشكّل الإنتماء إلى الحزب الشيوعي سبباً كافياً لرفض طلب الحصول على الجنسية الأمريكية، بذريعة “الإنتماء إلى “منظمات إرهابية أجنبية”.
تم استخدام ذريعة “الأمن القومي” لتأسيس مجلس مراقبة الأنشطة التخريبية، وبناء معسكرات اعتقال، ويحاول دونالد ترامب تحديث وتَحْيِين تلك القوانين والإجراءات ( بما فيها التي تم إلغاؤها لاحقًا بسبب عدم ملاءمتها لبنود الدّستور) وأصبح الاعتصام أمام محكمة فيدرالية جريمة جنائية، حيث منعت القوات الفيدرالية المتظاهرين في بورتلاند من التواجد أمام المبنى الفيدرالي، خلال الإدارة الأولى لدونالد ترامب، استنادًا إلى نفس القوانين، كما تم استخدام ذريعة الأمن القومي لرفض تأشيرات الدّخول إلى الولايات المتحدةَ
أقرت الولايات المتحدة سنة 1924 قانون الهجرة المُسمّى “قانون استبعاد اليابانيين”، وهو يُقصي جميع الآسيويين من دخول الولايات المتحدة التي اضطرّ حُكّامها إلى التّخلِّي عن تطبيق هذا القانون خلال الحرب العالمية الثانية، نظرًا لحاجتها للعاملين لتعويض الشبان الذين التحقوا بالجيش خلال الحرب، وبعد الحرب، تم تحديد الحصص سنة 1952، فكانت حصة الصين والهند وكل دولة آسيوية مائة شخص سنويًا، فيما بلغت حصة ألمانيا التي أشعلت الحرب 25814 شخصًا، وحصة بريطانيا 65361 شخصًا، أي إن تحديد الحصص كان إيديولوجيًّا وعُنْصُريًّا، تمامًا مثل الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب خلال فترة إدارته الأولى بشأن تقْيِيد دخول الأشخاص من سبع دول إسلامية وهي القرارات التي أيدتها المحكمة العليا، مما شجّعَ دونالد ترامب على إصدار أمر تنفيذي جديد، في بداية ولايته الثانية بمنع دخول الأشخاص من 12 دولة، ويتعين على أي شخص يتقدم بطلب للحصول على أي نوع من التأشيرات من أي مكان أن يدعم “القيم الأيديولوجية” الأميركية، مما يعني الإرتباط العضوي بين القمع السياسي وتطبيق قوانين الهجرة وعمليات الترحيل الجماعي، كما حصل خلال منتصف القرن العشرين حيث اتهمت دائرة الهجرة والتجنيس العائلات بتزوير وثائق الأبناء، وتم إلغاء وثائق إقامة المُهاجرين المُستهدَفين وسجنهم وترحليهم، كما استهدفت إجراءات الترحيل ذات الدوافع السياسية مناضلين تقدّميين باسم مكافحة الشيوعية ( قبل فترة المكارثية) ويتكرّر الأمر اليوم باسم مكافحة الإرهاب، وتم استخدام نفس الإجراءات ( قانون الأمن الدّاخلي) ضد المنظمات التقدمية والنقابات خلال عُقُود ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، ووَثَّق شريط ” بدلة زوت” ( إخراج لويس فالديز 1981 ) الذي يمزج الوثائق بالخيال، عمل اللجنة الأمريكية لحماية المولودين في الخارج، التي أسسها الحزب الشيوعي، في مكافحة التهم التي وجهتها الشرطة للشباب المكسيكي في لوس أنجلوس في قضية سليبي لاجون، ومُقاومة موجات التّرحيل.
تشترك الأوامر التنفيذية التي أصدرها دونالد ترامب ( وفقا لشعار “لنجعل أمريكا قوية مرة أخرى – Make America Great Again « MAGA » ) مع قوانين ماكاران في الأهداف المتمثلة في تقسيم العاملين إلى مواطنين وأجانب، وشق صفوف التقدميين والنقابيين والمُدافعين عن الحقوق المدنية والدّيمقراطية، وعرقلة اتحاد مختلف الفئات المتضررة من السياسات الرأسمالية، ولا يقتصر الدّرس على التكرار التاريخي ( هل يُمكن للتاريخ أن يُعيدَ نفسه؟) لأن هذه الإجراءات تستهدف التقدميين والنقابات وكسر التحالفات بين المهاجرين والحركات التقدمية والمدافعين عن الحقوق السياسية والمدنية، وتُعزِّزُ مواقع اليمين المتطرف العُنْصُرِي…
دَوْر المال في إدارة شؤون الدولة والمجتمع
تَدّعي السّلطات ووسائل الإعلام الأمريكية إن الولايات المتحدة مَهْد الدّيمقراطية النابضة بالحياة، ( خلافًا لخصومها مثل الصّين أو روسيا على سبيل المثال ) غير إن الحزبَيْن الأمريكيّيْن مُتّفقيْن “على الإثم والعدوان” وعلى الإستغلال والإضطهاد وقَمْع الأصوات المُناهضة للإحتكارات، وابتعد الحزبان اللّذَيْن تقودهما نُخْبَة مُحترِفَة لها نفس العقيدة ونفس السياسة الخارجية وتختلف في بعض تفصيلات السياسات الدّاخلية، لكن كِلتا القيادَتَيْن النُّخْبَوِيّتَيْن منفصلة عن الحياة اليومية لمعظم المواطنين، مما مَكّنَ مجموعات الضّغط التي تُموّلها الشركات الإحتكارية والمُجَمّع الصناعي العسكري من كسب نُفُوذ في الكونغرس وفي الحياة السياسية الأمريكية يُضاهي أو يفوق نفوذ الأحزاب والنّقابات وما سُمِّي “المُجتمع المَدَنِي”، ويُقدّم ديديس كيو مؤلف كتاب “التراجع الكبير: كيف يُقوّض تراجع الأحزاب السياسية الديمقراطية الأمريكية” – 2025 ( The great retreat : How political parties should behave and they don’t – Didi KUO – 2025 ) ) فَرَضِيّةً مفادها أن الأحزاب السياسية القوية لا غنى عنها لتجاوز العقبات التي تعترض “صِحّةَ الديمقراطية”، فالأحزاب ذات التنظيم الداخلي القوي، والروابط الوثيقة بمختلف مُكونات المجتمع، والبرامج المتماسكة أيديولوجيًا التي تعكس مصالح سُكّان دوائرها الانتخابية الأساسية، تُعدّ أساسيةً لوقف موجة الإستبداد ( الذي يُعَدُّ تَقْويضًا لأسس الديمقراطية) وإعادة تأكيد السيطرة الديمقراطية على اقتصادٍ يهيمن عليه المليارديرات والأثرياء بشكل متزايد، “ديدي كيو” إن الأزمة الحقيقية لا تكمن في التحزب المفرط، بل في تفريغ الأحزاب من محتواها، وإنه يجب إعادة بناء الأحزاب كوسطاء بين المواطنين والدولة للدفاع عن الديمقراطية واستعادة سيطرة المواطنين على الرأسمالية، ويُشير إن الأحزاب السياسية تاريخيًا كانت تَبْنِي منظمات مدنية وطبقية، ثقافية ورياضية ونقابية، تُساعدها على خوض الانتخابات والإندماج في المجتمعات المحلية لإبلاغ المعلومات إلى المواطنين عمّا تقوم به الحكومة ( أو ما تعتزم القيام به) نيابةً عنهم، ولإبلاغ أصوات ومطالب واحتجاجات المواطنين إلى مؤسسات الدولة، وبذلك تمكنت الأحزاب من معرفة احتياجات ومشاغل وآمال وطموحات المواطنين ( النّاخبين ) لتعزيز ولائهم السياسي خلال الدورات الانتخابية، وبذلك تكتسب الأحزاب قاعدة شعبية، وتمكّنت أحزاب اليسار والنقابات من ترسيخ مبدأ التفاوض الجماعي بين العمال والرأسماليِّين، وتوسيع نطاق الضمان الاجتماعي، وأشكال إعادة التوزيع والتخطيط الاقتصادي لتخفيف وطأة السوق الحرة، غير إن الرأسمالية تمكّنت من افتكاك هذه المكتسبات بمجرّد تراجُع اليسار والحركة النقابية في الولايات المتحدة وأوروبا، وتحوّل الأحزاب التي كانت تعمل سابقاً كمنظمات جماهيرية مندمجة في المجتمع المدني، إلى آلة انتخابية تُديرها نخبة منعزلة عن الحياة اليومية لمعظم المواطنين، وبذلك تركت الأحزاب المكان لجماعات المَصالح و”الجهات المانحة” التي أسّست مراكز الدّراسات والبُحوث ووسائل الإعلام النّافذة ومجموعات الضّغط، ولم يكن هذا التّحوّل طبيعيا بل نتيجة تحوّلات وخيارات استراتيجية، خصوصًا منذ العقْدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، وتبني قادة “يسار الوسط” اقتصاد السّوق والمفاهيم ( والممارسات) الليبرالية الجديدة ( النيوليبرالية) وخصخصة الإقتصاد والخدمات باسم “الحَوْكَمَة الرشيدة” وفَرْض التّقشّف على معظم المواطنين، مما جعل من العسير التّمْيِيز بين أحزاب “اليسار” التي تتبنى برامج اقتصادية داعمة للسوق، واليمين، وأدّى تبنِّي بعض اليسار للنيوليبرالية إلى تراجع مستويات معيشة الطبقة العاملة، التي أصبحت مصالحها أقل تمثيلاً في النظام السياسي، وإلى ترك المجال لقادة اليمين المتطرف ( الفاشي ) لاجتذاب الفُقراء من خلال خطاب ديماغوجي ( شُعْبَوِي) أصبح سائدًا في جل بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية والعديد من بلدان العالم، وتمكّن من تحويل مظالم الطبقة إلى استياء من الهجرة والتعددية الثقافية والجريمة، ومُطالبة بتشديد قبضة الشرطة وبالمزيد من قوانين الرّدع باسم “فَرْض النّظام” ومُقاومة الفَوْضى والجريمة، مع تحميل المهاجرين (الغُرَباء) مسؤولية تراجع مستوى معيشتهم، بدل مقاومة الرأسمالية وتحكّم الأثرياء في أجهزة الدّولة التي تُمارس السياسات النيوليبرالية، لأن الأثرياء يُموّلون الحملات الإنتخابية ويمتلكون وسائل الإعلام التي تُروّج للمُرَشَّحِين الذين يخدمون مصالحهم…
بلغ الإنفاق على الحملات الإنتخابية الأمريكية لسنة 2024 مليارات الدولارات لتنظيم مهرجانات مُنظّمة مُسبقًا على شاكلة الإخراج المَسْرَحي وشراء مساحات الإعلانات ذات القيمة الإنتخابية غير المؤكدة، وهي مبالغ لا يمتلكها حزب صغير أو نقابة أو جمعية خَيْرِيّة، وكان بالإمكان توجيه هذا الإنفاق إلى منظمات أهْلِيّة أو برامج رعاية صحّيّة أو محلات لإيواء للمُشرّدين وما إلى ذلك، لكن الأحزب التي تُركّز نشاطها واستراتيجيتها على الإنتخابات فقدت الصّلة بالمواطنين وبالطّبقة العاملة والفُقراء، ولم تَعُدْ جديرة بتمثيل مصالحهم أو الدّفاع عنهم…
الفقر والجوع والتّشرّد في “قاطرة الإمبريالية”
أنشأت وزارة الخارجية الأمريكية منظمة “هيومن رايتس ووتش” ( H.R.W. ) التي تُموّل نشاطها الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية، وتُصدر – HRW – تقارير دورية عن وضع حقوق الإنسان في العالم، وخصوصًا في الدّول المنافسة للولايات المتحدة أو التي تُعاديها، لكن من يُصدر تقارير دورية عن الفقر والقمع والإضطهاد والعُنصرية والتّشرّد والوضع داخل سجون الولايات المتحدة؟
كرّر الخطاب السياسي لليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا الشمالية “إن المهاجرين يُشكّلون تهديدًا للنظام الإجتماعي”، ويُوَسِّع أحد الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب نطاق استخدام “الإبعاد السريع”، والذي يحرم المهاجرين واللاجئين من جلسات المحكمة في قضايا الترحيل ما لم يتمكنوا من إثبات تواجدهم في الولايات المتحدة لأكثر من عامين، واستوحى دونالد ترامب هذه الأوامر من قانون تسجيل الأجانب ( 1940-1944 ) الذي أدّى سنة 1954 إلى اعتقال أكثر من مليون شخص، وأعلن توم هومان، الذي ترأس وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE) في إدارة دونالد ترامب الأولى وأُعِيدَ تعيينه خلال الرئاسة الثانية لدونالد ترامب “إن مداهمات الهجرة الجماعية ستبدأ من جديد، وسوف تشمل المدارس والكنائس والمستشفيات…”، وتهدف قرارات وحَملات دونالد ترامب تقسيم الكادحين والفقراء وتحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية مثل الفقر والجوع والتّشرّد وما إلى ذلك، وتحميل المهاجرين مسؤولية الكوارث الإجتماعية التي تخلقها الرّأسمالية.
الفَقْر، معضلة هيكلية وليست طارئة
أدى كساد 2008/2009 إلى زيادة مستوى الفقر وتُظهر بيانات تعداد سنة 2010 أن نصف السكان يعتبرون من الفقراء أو من ذوي الدخل المنخفض، حيث يعيش واحد من كل خمسة آلاف فرد من جيل الألفية الثالثة في فقر، وفق دليل روتليدج للفقر والذي يتوقع مُعدُّوه من الباحثين الأكاديميين ظهور أشكال جديدة ومتطرفة من الفقر في الولايات المتحدة نتيجة لسياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالي والعولمة التي جعلت من الفِئات المُهَمَّشَة اقتصاديًا «فائضًا من السكان» الفقراء الذين يجب السيطرة عليهم وعقابهم، وأكدت العديد من الهيئات الدولية على قضايا الفقر التي تواجهها الولايات المتحدة وصَنّف تقرير لليونيسف لعام 2013 الولايات المتحدة كثاني أعلى معدل لفقر الأطفال النسبي في الدول المتقدمة، وبداية من حزيران/يونيو 2016، أشار صندوق النقد الدولي ( حزيران/يونيو 2016) إلى ضرورة معالجة ارتفاع معدل الفقر على وجه السرعة من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وتقديم إجازة أمومة مدفوعة الأجر للنساء لتشجيعهن على دخول سوق العمل، وأجرى المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان فيليب ألستون، تحقيقًا ( كانون الأول/ديسمبر 2017 ) لمدة أسبوعين حول آثار الفقر الشامل في الولايات المتحدة، وأشار إلى ارتفاع حجم «الثروة الخاصة والبؤس العام»، خلال فترتَيْ رئاسة باراك أوباما التي جعلت الولايات المتحدة تمتلك «أسوأ معدل فقر في العالم المتقدم” وبعد أقل من ستة أشهر، صَدَرَ تقرير ألستون ( أيار/مايو 2018 ) وأبرز التقرير أن 40 مليون شخص يعيشون في فقر، وأن أكثر من خمسة ملايين يعيشون “في ظروف العالم الثالث”
انخفضت النسبة المئوية للأمريكيين الذين يعيشون في فقر وفقًا لتقييم أجراه مكتب تعداد الولايات المتحدة سنة 2018 إلى أدنى مستوياتها منذ كساد عام 2008 وبلغت 11,8% أو حوالي 38,1 مليون مواطن، وارتفع معدل الفَقْر إلى 12,6% سنة 2022، وفقاً لبيانات المسح المجتمعي الأمريكي، وبلغ معدل الفقر المتوسط بين الأطفال (أقل من 18 سنة) 16,3%، خصوصًا في ولايات الجنوب التي لم تتخلّص بَعْدُ من آثار العُبودية ( ولايات مسيسيبي وفرجينيا الغربية ولويزيانا…) حيث فاق معدّل الفقر 25%، في حين بلغ معدّل الفقر الأمريكي 10,9% بين الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 سنة فأكثر، و11,7% بين من تتراوح أعمارهم بين 18 و64 سنة، وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الوطني ارتفاع معدلات الفقر في الولايات المتحدة خلال سنة 2023، في حين انخفضت نسبة الأشخاص المحرومين من الحماية الصّحّية إلى حوالي 8% من العدد الإجمالي للسّكّان بفعل استمرار برنامج “ميدكيد”، وهو برنامج حكومي مخصص لذوى الدخل المنخفض، ولم يتم شطب أي شخص منذ جائحة كوفيد لكن هذه الميزة تنتهي تدريجيا.
ركز كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، خلال الحملة الإنتخابية سنة 2024، على مكافحة الفقر، ففي حين دافع “ترامب” عن دعم الإقتصاد بواسطة خفض الضرائب على الثروات وأرباح الشركات، وأكّدت بعض الدّراسات مثل مؤسسة “بروكنغز” ارتفاع عدد المواطنين العاجزين عن تسديد ثمن الغذاء والسكن، وأظهرت أحدث البيانات الصادرة خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، تراجع المعدل الرسمي للفقر، غير إن 37 مليون شخص يعيشون في حالة فقر…
المُشرّدون وفاقدو المأوى
نشرت منظمة العفو الدّولية تقريرًا يُشير إلى الإرتفاع المُستمر لعدد المُشرّدين في الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن العشرين، في حين يفوق عدد المساكن الفارغة عدد المشردين بخَمْس مرّات وقدّرت المنظمة عدد المشردين الأمريكيّين بنحو ستمائة ألف سنة 2014 وارتفع العدد إلى حوالي 670 ألف سنة 2024، وارتفع عدد المُشرّدين القاصِرِين في المُدُن الكبرى مثل نيويورك ولوس أنجلس وغيرها بسبب انخفاض الدّخل وارتفاع الإيجارات وغياب القوانين التي تحمي المستأجرين من أصحاب العقارات، وبدل البحث عن حلول تحمي المُشرّدين، اتخذت العديد من المدن الأمريكية قرارات تجريم المشردين وحَظْر النوم في الشوارع، والجلوس في الأماكن العامة، والتسول، والتبول (في المدن حيث المراحيض العامة شبه معدومة) والعديد من الجرائم الأخرى تم تصميمها “لمعالجة ظاهرة التّشرّد”.
غياب العدالة الجنائية
تقترن الفوارق الطّبقية المُجْحِفَة في الولايات المتحدة بالعنصرية، وعالجت مختلف الحكومات المتتالية ( من الحزب الدّيمقراطي أو الجمهوري ) نتائج الفقر بالمزيد من القمع ( قمع الشرطة وقمع القضاء ومختلف مؤسسات الدّولة ) فقد ازدادت معدلات الأحكام بالسَّجن النّافذ، وخصوصًا الأحكام التي تستهدف المواطنين السُّود بشكل غير متناسب مع نسبتهم من السّكّان، وتمتلك الولايات المتحدة رقما قياسيا بعدد المساجين ونسبتهم من السكان، وتُقدّر نسبة السكان الأمريكيين بنحو 5% من العدد الإجمالي لسكان العالم ونسبة المساجين بنحو 25% من العدد الإجمالي لمساجين العالم، ويُقدّر عدد المساجين بنحو 2,5 مليون وأكثر من مليوني آخرين قيد الإفراج المشروط والمراقبة، إضافةً إلى الأشخاص المحتجزين في السجون المحلية أو مراكز الاحتجاز، ومرافق الإصلاح للأحداث، ومرافق احتجاز المهاجرين، لأن السّلطات الأمريكية اختارت الإعتماد المُفرط على القمع من قِبَل الشرطة والقضاء، بدل الإستثمار في الإسكان والرعاية الصحية والتعليم وفق تقرير هيومن رايتس ووتش سنة 2022 الذي أشار إلى انتشار ظاهرة نشْر المعلومات الخاطئة والروايات المُضَلِّلَة بشأن “ارتفاع الجريمة وتدني مستوى السّلامة العامة” وإحجام السلطات عن إصلاح جهاز الشرطة والإستثمار في تحسين الخدمات العمومية والتعليم والصحة والإصلاحات وما يُسمّى “الاستثمارات المجتمعية”، ومن جهة أخرى ترفض معظم مراكز الشرطة الأمريكية الإبلاغ عن البيانات المتعلقة باستخدامها القوة، ما يستلزم جمع البيانات وتحليلها من قبل المنظمات غير الحكومية التي قدّرت عدد ضحايا الشرطة بين الأول من كانون الثاني/يناير و 31 كانون الأول 2023 بنحو ألف قتيل، وتُقدّر نسبة المساجين السود بنحو 43% من العدد الإجمالي للمساجين، ويُقدّر عدد الضحايا السود لرصاص الشرطة بثلاثة أضعاف الضحايا البيض، في حين لا تتجاوز نسبة السّكّان السّود 12,5% من العدد الإجمالي للسكان.
تتميز الولايات المتحدة بنظام قَمْعِي فريد، حيث لا تُميّز القوانين بين القاصرين والرّاشدين، خلافًا للمعايير القضائية الدّولية التي تُحَرّم هذه الممارسة، فضلا عن العنصرية السائدة في نظام الاعتقالات والاحتجاز السابق للتحقيق في نظام القضاء والسَّجن بعد صدور الحكم، وتظل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم التي تحكم على القاصرين المدانين بارتكاب جرائم بقضاء عمرهم في السجن إلى أن يموتوا