الثقافة العربية في مواجهة مشروع الاحتلال / جمال القيسي
في زمن التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، وفي خضم العدوان المتوحش المستمر على الشعب الفلسطيني، تتأكد مرة بعد أخرى حقيقة أن المواجهة مع المشروع الصهيوني ليست صراعا عسكريا ولا نزاعا حدوديا وحسب، بل هي في جوهرها صراع على “الرواية” والمعنى والحق في الوجود الإنساني الكامل.
إن إحدى ثغرات الخطاب العربي التقليدي في هذا السياق كانت انشغاله الزائد بالرد الآني أو العاطفي، على حساب تطوير رؤية ثقافية استراتيجية طويلة المدى، تُحيل المواجهة إلى مشروع إنساني وفكري وحضاري.
لم يكتف المشروع الصهيوني، بصفته حركة استعمارية احتلالية بغيضة، باغتصاب الأرض، بل عمل على طمس التاريخ ومحو الحضور العربي الفلسطيني، عبر بناء سردية استشراقية تزعم أن فلسطين كانت “أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وكما بيّن المفكر إدوارد سعيد، فإن ما واجهه الفلسطينيون لم يكن فقط نزع ملكية جغرافية، بل نزعا لروايتهم عن أنفسهم، ومحاولة لإلغاء وجودهم من المخيلة العالمية. وقد أسهمت النخب الثقافية الغربية المتماهية مع هذا المشروع، في تثبيت هذه السردية، من خلال مناهج البحث، والنشر الأكاديمي، والسينما، و(الدبلوماسية الثقافية) .
في المقابل، لم تكن الهزائم السياسية والعسكرية التي تعرض لها العرب، كافية لهزيمتهم على المستوى الثقافي.
فما تزال الثقافة بكل محمولاتها المعنوية، تشكل خزّانا حيا للمقاومة الرمزية، كما يرى عبد الوهاب المسيري، الذي ذهب إلى أن تفكيك البنية المعرفية للصهيونية يتطلب مشروعًا حضاريا مضادا، لا يكتفي بالنقد، بل يعيد الاعتبار للهوية والكرامة والمعنى.
إن التحدي الحقيقي اليوم، يكمن في القدرة على تحويل الثقافة العربية من حالة انفعال إلى مشروع فاعل. وهذا لا يعني استعادة خطاب شعاراتي أو دعوي، بل يكون من خلال تطوير أدوات معرفية ولغوية وفنية تُخاطب العالم بمنطق العدالة والحرية وحق تقرير المصير؛ فالثقافة التي يمكن أن تواجه المشروع الصهيوني ليست ثقافة كراهية أو رد فعل، بل ثقافة تُقدّم الإنسان العربي والفلسطيني بوصفه كائنا حرا له تاريخ ضارب في العمق الإنساني، ولغةٌ ساهمت في بناء الحضارة، ورؤيةٌ للمستقبل تتجاوز حدود سايكس–بيكو وهويات التجزئة.
ومن هنا، تصبح المواجهة الثقافية ممكنة وضرورية، حين يُعاد إحياء المشروع النهضوي العربي كخيار تاريخي، يتجاوز المراهنة على الأنظمة أو التحالفات الظرفية. مشروع يرى أن الكلمة، في سياق الاستعمار الجديد، لم تعد مجازاً بل باتت سلاحاً، وأن كتابة الرواية والتاريخ والفن والفكر هي جبهات مقاومة لا تقل أهمية عن جبهات الاشتباك الميداني.
إن المشروع الصهيوني، رغم قوته العسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية، سيظل يعاني مأزقا أخلاقيا متفاقما، يتجلى في سقوط خطابه أمام الرأي العام العالمي، خصوصا بعد المجازر المتكررة في غزة وعموم فلسطين. وفي ظل تزايد الوعي العالمي بالظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، تبرز الحاجة الماسّة إلى خطاب ثقافي عربي إنساني، لا يطلب شفقة، بل يؤكد على الحق في الأرض والرواية والكرامة.
ليس المطلوب تجميل الواقع، بل تغييره عبر الفعل الثقافي الواعي. فالثقافة، حين تستعيد دورها التحرري، تتحول من أداة استهلاك إلى وسيلة تفكيك وإعادة بناء. والجيل الذي يُربّى على الوعي لا يُستدرج إلى الخنوع، بل يؤسس لمعادلة جديدة، عنوانها: من يملك الرواية، يملك المستقبل.