“مئة عام من العزلة”… حين تصبح الرواية مرآة الواقع / د. هاني الضمور
في “مئة عام من العزلة”، يروي غابرييل غارسيا ماركيز قصة بلدة خيالية تُدعى “ماكوندو”، تحاصرها اللعنة، وينهكها التكرار، وتدفنها العزلة. عائلةٌ تتكرر أخطاؤها جيلًا بعد جيل، تنسى الحقيقة، تنسلخ عن التاريخ، حتى تُمحى من الوجود، لا بحرب، بل بالصمت والتراخي، وبالخيانة الصامتة للأخلاق والقيم.
لكنّ هذه الرواية، رغم عمقها، لا تُشبه ما يحدث في فلسطين.
لأن فلسطين، على عكس “ماكوندو”، لم تنسَ. لم تتخلَّ عن ذاكرتها، ولم تورّث الهزيمة لأبنائها كما فعلت عائلة بوينديا. لم تختر العزلة، بل فرضها عليها الاحتلال الصهيوني بالقوة والحديد والنار. لكنّ فلسطين لم تستسلم، لم تُمحَ، لم تُغلق الصفحة.
في “ماكوندو”، نسوا أسماءهم، وارتكبوا الفاحشة، وتناسوا الأمانة، فاختفوا. أما في فلسطين، فالأسماء تُولد مع الطفل، مشفوعة باسم قريته، بشجرة زيتون، بآية من كتاب الله، بتاريخ الانتفاضة، وألم الأسْر، ورائحة الدم الطاهر.
عائلة بوينديا عاشت مئة عام في دائرة مغلقة من العبث، لأنهم انفصلوا عن القيم، وعن الوحي، وعن الله. أما فلسطين فتمتدّ في دماء الشهداء وتاريخ المساجد ووعي الأمهات، لأنهم لم ينقطعوا عن أصلهم، لأن الله لم يغِب عن المعادلة، لأن البوصلة ما زالت تشير إلى القدس، لا إلى رغبات النفس.
في “مئة عام من العزلة”، تكرّرت الخيبات دون أي مقاومة حقيقية.
في فلسطين، يتكرّر العدوان، لكن تقابله مقاومة أكثر شراسة، أكثر إيمانًا، أكثر فطرةً وإنسانيةً من كل عواصم العالم الباردة.
“ماكوندو” لم تحتمل ذاكرة الحرب، فمحتها.
فلسطين تحتفظ بجراحها كما يحتفظ العاشق برسائل محبوبه. الجرح لا يُنسى، بل يُكتب على الجدران، ويُدرَّس في المدارس، وتُرسم حوله القصائد، وتُولد من رحمه أجيال تعرف من هو العدو، ومن هو الشهيد، ومن هي الخيانة.
ماركيز كتب روايته ليحذر من مجتمع ينهار عندما يتخلّى عن أخلاقه، عن مرجعيته، عن ضميره.
وفلسطين تُكتب كل يوم لتقول: “نحن ما زلنا هنا، لأننا لم نُبدّد الحق، ولم نُجامل على القدس، ولم نغلق عيوننا عن معنى الشهادة، ولم نستبدل التاريخ بسلسلة نسيان.”
الاحتلال الصهيوني حاول أن يصنع من غزة “ماكوندو محاصَرة”، لكنه فشل.
حاول أن يُفرغها من الأمل، أن يقطع عنها الكهرباء والماء والدواء والهواء، لكنّه لم ينجح في كسر صوت “الله أكبر” على ألسنة الأطفال تحت الركام.
ماكوندو انتهت حين آمنت أن العالم نسيها.
لكنّ فلسطين تعيش لأنّها تؤمن أن الله لا ينساها.
هناك، كانت النهاية بعاصفة تمحو ما تبقى من البلدة.
وهنا، العاصفة قادمة، لكنّها لا تمحو فلسطين، بل تمحو الاحتلال، وتُعيد الحساب إلى أصحابه.
الرواية تنتهي حين يفكّ آخر ورثة العائلة شيفرة المخطوطة، ويكتشف أن كل ما حدث كان مكتوبًا، أن المصير كان قدرًا لا مهرب منه.
لكن في فلسطين، القدر يُكتب بالشهادة، بالمرابطة، بالحجر، بالآية، بالموقف، وبالصرخة التي تقول: “لن نكون ماكوندو.”
نحن لا نعيش مئة عام من العزلة، بل نعيش ألف عام من الصمود.
العزلة خيار الضعفاء، أما نحن، فأبناء القِبلة الأولى، وسنظل نكتب بدمنا قصة الخروج من الظلام، حتى وإن أغلق العالم أبوابه، وحتى وإن صمتت الأمم.
في زمن يُطبّع فيه الكثيرون مع العدو، تُذكّرنا فلسطين أن القيم ليست شعارًا، بل موقفًا. وأن الشرف لا يُشترى بالمؤتمرات، بل يُنتزع في الساحات. وأن من لا يزال يحمل في قلبه ذرة من ضمير، فليقرأ “مئة عام من العزلة”، ثم ينظر إلى فلسطين…
ليعرف الفرق بين من مات بالصمت، ومن يحيى بالمقاومة.