البديل الثقافي بعد حظر “الجماعة المنحلة” في الأردن / جمال القيسي

0 219

جمال القيسي ( الأردن ) – الخميس 24/4/2025 م …

في لحظات التحول الكبرى، لا تكون المواجهة الحاسمة مع التيارات غير المدنية أمنية أو قانونية فقط، بل تكون ثقافية بالدرجة الأولى ذلك أن الخطاب غير المدني – سواء جاء في عباءة دينية أو أيديولوجية – لا يعيش في فراغ، بل يقتات على فراغات الثقافة، وعليه تغدو الثقافة هي المتراس الأخير في وجه أي خطاب غير مدني.

إن الحظر القانوني للجماعة المنحلة قد يُسكت الصوت، لكن الثقافة هي التي تمحو الأثر. والثقافة هنا ليست ترفاً نخبوياً، بل هي شبكة الرموز والقصص والمعاني التي تشكل وعي الناس. فإذا بقيت هذه الشبكة أسيرة التكرار، والتلقين، والانغلاق، فإن أي خطاب غير مدني سيجد طريقه إليها من جديد، ولو بعد حين.

عندما يُطرح مصطلح “حظر الجماعة المنحلة”، يتبادر إلى الذهن مباشرة البعد القانوني والسياسي لهذا القرار؛ بيد أن الحظر لا يكتمل فهمه بغير العصف الذهني في آثاره الثقافية. فالجماعة – التي لم تكن مجرد تنظيم سياسي – استطاعت على مدار عقود أن تزرع خطابًا ثقافيًا متكاملًا، يمس التعليم والدين واللغة والرموز وحتى أنماط الحياة. من هنا، يصبح السؤال الأهم: ماذا يعني البديل الثقافي لها؟ أي كيف يؤثر هذا البديل على البنية الرمزية والذهنية التي شيدتها الجماعة داخل المجتمع الأردني؟ وهل يكفي القرار السياسي لعزل تيار عريض تشكل كـ”ثقافة بديلة” لزمن طويل. سأحاول، هنا، الحديث بإيجاز غير مخل، عن ضرورة حضور “البديل الثقافي لحظر الجماعة”، وقراءة التحولات التي يفرضها ذلك على مستوى الوعي الجمعي، والرموز، والمرجعيات. إن وجود البديل الثقافي التنويري التقدمي سيعمل على تحقيق النتائج الآتية:

أولًا: نزع شرعية الخطاب الرمزي

لم تكن الجماعة المنحلة مجرّد تنظيم سياسي، بل كانت حاملة لخطاب ديني رمزي وثقافي مجتمعي متكامل. عبر عقود من الزمن؛ حيث أسست الجماعة لمفرداتها، ومصطلحاتها، وشعاراتها التي تسربت إلى الوعي العام باعتبارها تمثّل “الإسلام الصحيح” أو “الدين الملتزم”.

البديل الثقافي يعني نزع الشرعية الرمزية لهذا الخطاب وتفكيكه بوعي مقابل، وإعادة مساءلة المفاهيم التي حملها مثل: “الحاكمية”، “الطليعة المؤمنة”، “الجهاد”، “الولاء والبراء”، ” السمع والطاعة” وغيرها. إنها عملية تفكيك للرموز التي رسّختها الجماعة في العقل الجمعي.

ثانيًا: تحجيم النفوذ على الوعي الجمعي

على امتداد سنوات طويلة، تسللت الجماعة إلى مفاصل تشكيل الوعي من خلال استغلال المساجد والجمعيات والمدارس والجامعات والنقابات والجمعيات وغيرها. وقد أسهم هذا التغلغل في صياغة وعي ديني واجتماعي محافظ -مغاير لطبيعة المجتمع الأردني- ومتوجس من الحداثة، ومشكك في مفاهيم الدولة المدنية. البديل الثقافي، إذًا، يتطلب سياسة ثقافية مضادة، تعيد الاعتبار لقيم المواطنة والتعددية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، لتعيد تشكيل الوعي بما يتجاوز السردية الإخوانية.

ثالثًا: إعادة تعريف المرجعيات الدينية

طوال فترة نشاطها، قدمت الجماعة نفسها كمرجعية إسلامية عليا، فكانت تطرح تأويلًا معينًا للنصوص، وتعيد إنتاج الدين من خلال رؤية أيديولوجية حزبية. وقد ترافق ذلك مع إضعاف المؤسسات الدينية الرسمية أو تهميشها. المطلوب اليوم من الدولة استعادة دورها السيادي في الثقافة المجتمعية، وعبر تعميق الحوار لإعادة تعريف مفاهيم الشريعة واستعادته من قبضة التنظيم، ليصبح الدين مجالًا مفتوحًا للتعدد والتسامح واحترام الآخر، وليس بتوظيف الدين كمنصة للحشد السياسي.

رابعًا: تفكيك بنية الهوية الإخوانية

لقواعد الجماعة هوية متكاملة تتجاوز السياسة: (لباس تاريخي، لغة مقعرة، أناشيد، رموز، أدبيات، وحتى ذاكرة جماعية). البديل الثقافي لا يكتمل دون التعامل مع هذه الهوية، ومحاولة فكّ ارتباط الأفراد بها. فالكثير من الأعضاء والأنصار لا يرون أنفسهم كجزء من حزب سياسي، بل من “دعوة سامية” أو “رسالة ربانية”. لذا فإن التحدي الثقافي يكمن في تقديم بدائل قيميّة وهوياتية جاذبة، تنقل الأفراد من الانتماء للجماعة إلى الانتماء للوطن والدولة الحديثة.

خامسًا: إعلان عملي بنهاية زمن “الدعوة المنظمة”

ثقافيًا، يشير البديل الثقافي إلى بداية النهاية لمفهوم “الإسلام السياسي” حقيقة لا إعلان حسن نوايا وتقية كما فعلت الجماعة المنحلة العام 2017 وإنما لا بد من تبديد هذه الحالة الضبابية كحالة جماهيرية منظمة؛ ففي ظل الانكشاف السياسي، والتعرية الأمنية، وبلإقناع بجدوى العمل الحزبي الحقيقي تصبح فكرة “التنظيم الدعوي” عبئًا ثقيلًا، ويفقد جاذبيته كخيار للشباب. وهنا تبدأ مرحلة جديدة، يكون فيها التدين فرديًا اختياريا بعلاقة عامودية مع الله لا أفية من خلال أحد، ويكون التحول الثقافي، وإن بدا صامتًا، عميقا ومؤثرا في جعل الدين أقل أيديولوجية.

وهم الخوف من “تطرف ما بعد الحظر”

من أبرز ما يُطرح في مواجهة قرار الحظر هو الخوف من أن يدفع ذلك الجماعة إلى السرية والتطرف. لكن هذا الطرح – وإن بدا عقلانيًا للوهلة الأولى – هو في جوهره تبسيط ساذج للواقع. إذ أن التجربة الأردنية أثبتت أن الجماعة، وهي تعمل في العلن، لم تمنع تسلل الأفكار المتطرفة إلى داخلها، بل إن الأجهزة الأمنية كشفت خلال السنوات الماضية، وقبل قضية الخلايا المسلحة عن أنشطة سرية مرتبطة بأفراد في الجماعة أو محسوبين عليها، كانت تخطط لصناعة متفجرات أو تهريب أسلحة أو تنفيذ عمليات، ما يعني أن العلنية لم تكن ضمانة للابتعاد عن العنف؛ بل أكثر من ذلك، فإن استمرار الجماعة كجسم شرعي أعاق أحيانًا مساءلة بعض أعضائها بذريعة الظروف السياسية والغطاء النيابي والانتشار النقابي ، وهو ما سيقل كثيرا بعد قرار الحظر، وسمح بوضوح أكبر في التعامل مع كل مظاهر التطرف كقضايا أمن دولة لا سياسية.

بعبارة أخرى. إن حظر الجماعة المنحلة لا يمكن قراءته فقط كإجراء قانوني أو أمني، بل هو إعلان عن لحظة ثقافية فارقة، تتطلب مشروعًا وطنيًا يعيد تشكيل العقل والوعي والرمز والانتماء. لا يكفي أن تُحل الجماعة على الورق، بل لا بد من أن تُحل في الأذهان، وأن يتم تفكيك خطابها، ومراجعة آثارها، وإحلال سردية بديلة، تؤمن بالدولة والمواطنة وسيادة القانون والسلمية، . فالثقافة، في النهاية، هي الجبهة الأعمق لأي معركة سياسية حقيقية، والمتراس الأخير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إحدى عشر − 1 =