رياضة وحشود وعبوديّة وتطبيع! / كمال ميرزا
كمال ميرزا ( الأردن ) – الثلاثاء 19/11/2024 م …
من منظور سيكولوجيا “الجماهير” أو “الحشود”، فإنّ المنافسات الرياضيّة هي من أهم أدوات العصر كفاءةً وفاعليّةً في الإلهاء و/أو استثارة النعرات و/أو افتعال الفتن!
النمط الكامن واحد ومتكرّر منذ منازلات العبيد المحاربين حتى الموت، أو المجالدين (جلادييترز) حسب التسميّة الهوليووديّة، أيام الإمبراطوريّة الرومانيّة.. ولغاية اليوم!
النمط واحد.. لكن الشكل والمظهر والحيثيات والتفاصيل مختلفة!
هل من قبيل المصادفة أن الإمبراطوريّة الرومانيّة تعتبر الشكل الأوليّ أو الجنينيّ للدولة القوميّة الرأسماليّة الإمبرياليّة العنصريّة الحديثة؟!
كما أنّ المنافسات الرياضيّة في تجربة ما تسمّى “الحداثة الغربيّة” هي من أهم أدوات استبطان رؤية ماديّة صراعيّة نيتشويّة دارونيّة كامنة للعالم و”الآخرين”، حيث الحياة “لعبة” يلتزم الجميع بقوانينها كما هي كأساس لـ “التعاقد” دون مساءلتها واتخاذ موقف نقدي منها، وحيث الفوز/ هزيمة الآخرين هي الغاية والنتيجة القصوى المرجوّة مهما كانت الإستراتيجيّة والتكتيك المتّبعين، وحيث “الغاية تبرر الوسيلة” و”الأداة هي الرسالة” و”السياسة هي فن الممكن”!
والمنافسات الرياضية أيضاً هي من أهم أدوات “العلمنة” من خلال إعادة إنتاج “المقدّس”، وتكريسه في المنتخب الذي أشجعه (وأنتمي إليه)، والفريق الذي أشجعه (ويشكّل جزء من هويّتي الحضاريّة و/أو تبعيّتي الثقافيّة)، وزيّ الفريق، وشعار الفريق، و”تعويذة” الفريق، وعادات المتابعة والمشاهدة والتشجيع ذات النزعة “الطقوسيّة” و”الشعائريّة”.. كلّ ذلك بعد أن قامت الحداثة الغربيّة و”علمانيتها الشاملة” بمحاصرة وتدجين وتكييف وتقويض وتفكيك “المقدّسات الكلاسيكيّة”.
والرياضة والمنافسات الرياضيّة أصبحت كذلك من أهم أدوات تكريس مرجعيّة المصنع/ السوق: الرياضة كصناعة، والرياضة كـ “بزنس”، وصفقات البيع والشراء والاستحواذ، و”المركاتو” كضربٍ من “سوق نخاسة” عصريّ يتم عبره تداول اللاعبين/ العبيد العصريّين كـ “سلع” خاضعة لقانون العرض والطلب.
ومع دخولنا أكثر وأكثر في عصر العولمة والأمركة والصهينة والرقمنة، أصبحت الرياضة مناطاً آخر من مناطات وتجليّاً آخر من تجلّيات التفكيك والسيولة ونزع المعياريّة ومجمل ما نطلق عليه “ما بعد الحداثة”، سواء من خلال اختراع أشكال جديدة “هجينة” من الرياضات مسوّغها الوحيد هو “غرائبيّتها” و”ترنديّتها” التي تمثّل أساس قابليتها للتسويق (مثل البادل)، أو من خلال اللغط والجدل الذي يحيط بظاهرة الرياضيّين “المتحوّلين جنسيّاً”، أو من خلال إدراج البريك دانس (أو الرقص البهلواني) كرياضة ضمن منافسات الألعاب الأولمبيّة إلى جانب غيرها من الرياضات “التقليديّة” أو “الكلاسيكيّة” الرصينة.. وغيرها من الأمثلة والمظاهر.
وارتباط الرياضة بالدعاية السياسيّة والتحشيد الإعلاميّ مسألة معروفة. ومع إنطلاق معركة “طوفان الأقصى” المباركة قبل أكثر من سنة اتخذ هذا البُعد الدعائي المُسيّس للرياضة منحىً أكثر كثافةً من خلال “التطبيع”، لا كحرب أفكار أو حرب على الأفكار، بل التطبيع كآليّة نفسيّة تسعى شيئاً فشيئاً إلى نزع فتيل “الجماهير” أو “الحشود”، وتبليد مشاعرها وانفعالاتها، وجعلها تتقبّل دون وعي الأوضاع الشاذّة والممارسات الإجراميّة المتطرّفة باعتبارها أحداثاً “طبيعيّة” أو “اعتياديّة” أو “واقع حال”، واقتصار ردّ فعل هذه الحشود إزاء هذه الأوضاع والممارسات الشاذّة على الرفض العقليّ والإدانة الخطابيّة (التي تخبو وتبهت بدورها هي الأخرى مع مرور الوقت) دون الإتيان بمواقف وسلوكيات عملية ملموسة وحقيقية ومؤثّرة.
ففي بدايات حرب الإبادة والتهجير الصهيو ـ أمريكيّة المُمنهجة ضد الشعب الفلسطينيّ كان هناك رفض واسع لفكرة الاستمرار في المنافسات الرياضيّة أيّاً كانت، ومطالبات حثيثة لوقف هذه المنافسات ومقاطعتها؛ إذ كيف يُعقل أن نلهو ونلعب ونخوض المباريات ونرفع عقيرتنا بالهتاف والتشجيع بينما أشقاؤنا يتعرّضون لأبشع صنوف العذاب وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة؟!
وشيئاً فشيئاً أصبحنا نتقبل فكرة أنّ “الحياة يجب أن تستمر” حتى وإن كان أشقاؤنا يسلبون الحياة وحقّهم في الحياة، وأصبحت متابعة المباريات والمنافسات شأناً شخصيّاً وخياراً ذاتيّاً غير ملزم للمجتمع أو للسلطة بمفهومها المباشر وغير المباشر.
ومع ازدياد حدّة القتل والدمار والحصار والتجويع والتعطيش كمّاً ونوعاً، ازدادت في المقابل شدّة الوقاحة و”الكلاحة” و”انعدام ماء الوجه” والتحشيد المبالغ فيه للمنافسات والأحداث الرياضيّة (وغير الرياضية) وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّه لا يوجد لنا إخوان ينحرون نحراً توّاً وهذه اللحظة!
وأخشى ما أخشاه في ضوء الطنطنة والتحشيد المبالغ فيهما مؤخّراً لمباريات ومنافسات رياضيّة بعينها، ومن وحي واقعة “امستردام” الأخيرة بين المشجّعين الصهاينة والجمهور العربيّ والإسلاميّ، أن تحاول إحدى أجهزة الأمن الصهيونيّة أو المتصهينة استنساخ هذه الحالة، واستغلال المنافسات الرياضيّة لافتعال صدامات واستثارة قلاقل وفتن عربيّة عربيّة أو إسلاميّة إسلاميّة، يغذّيها تراشق إعلامي وتواصليّ مُغرِض ورخيص، وتحت شعارات وطنيّة وقوميّة وطائفيّة مزاودة.. ليس فقط بهدف الإلهاء، أو للفت أنظار الجماهير عن المواقف المتخاذلة والمتواطئة للأنظمة العربية والإسلاميّة إزاء “طوفان الأقصى” وما يحدث في فلسطين، بل ولاستغلال ذلك في تبرير وتسويغ وتسويق وقوف الأنظمة العربيّة والإسلاميّة الذي يزداد صراحةً وصفاقةً يوماً بعد يوم ضد المقاومة وكلّ ما هو مقاوِم، والانحياز والانصياع التامّين لكلّ ما هو صهيونيّ وأمريكيّ!
في مثل هذه الأوضاع يجد المرء نفسه مضطراً للمفاضلة والاختيار بين السيء والأقل سوءاً، لذا نسأل الله تعالى أن يكون كلّ هذا التحشيد الرياضيّ الأخير من قبيل “الإلهاء” فقط، وأن تمرّ الأمور على خير، وألّا يكون وراء الأكمة ما وراءها!