عيد غزة.. لا كعك ولا فسيخ ولا ملابس جديدة والشهداء ينكأون الجراح
غزة- “القدس العربي”: خيمت أجواء الحرب والدمار ومشاهد الموت الحاضرة في أذهان الغزيين، على طقوس عيد الفطر، كما خيمت سابقا على أجواء شهر رمضان، الذي شهد مجازر دموية خطيرة، أسفرت عن سقوط آلاف الضحايا.
عيد بلا أجواء
لم تزين العوائل الفلسطينية منازلها، ولم تقم النساء كالعادة بصنع الكعك، إلا القليل منهن، ضمن محاولات التأقلم مع الواقع المرير، فيما خلت الأسواق من كل أشكال الاحتفال والزينة التي اعتاد عليها الناس من قبل.
ويترقب الغزيون، الذين فقد الكثير منهم أفرادا من أسرهم أو أقاربهم أو أصدقائهم في الحرب المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر، أن يستفيقوا على أصوات غارات وقصف إسرائيلي بدلا من “تكبيرات العيد” المعروفة، وهو أمر شهدوه في شهر رمضان، حين كان جيش الاحتلال يتعمد تنفيذ غارات جوية دامية، على موعد الإفطار والسحور.
وسينكأ العيد أيضا جراح الأسر المكلومة التي فقدت إما الأب أو الأم أو غيبت الأشقاء إلى الأبد، وسكون العيد ثقيلا جدا على آلاف العوائل التي تقيم إما في “مراكز الإيواء” أو في الخيام، بعد أن أخلت منازلها قسرا، بسبب الحرب.
عيد بدون كعك وفسيخ
وتقول ختام عطية، وهي أم لها عدد من الأبناء والأحفاد، إنها لم تخبز هذا العيد كما اعتادت سابقا، “الكعك” (المعمول)، الذي يعتبر أحد أشكال الفرح والاحتفال بقدوم العيد، وهو أمر كانت هذه السيدة، تبدأ به قبل أسبوع من حلول العيد، وتشير في حديثها لـ”القدس العربي” إلى أن الظروف الحالية التي خلقتها الحرب، تحول دون ذلك.
وتضيف “حجم الحزن كبير”، وتشير إلى أن عددا من جيرانها قضوا في الحرب، فيما استشهد أيضا خلال الحرب ابن شقيقتها، وهو أمر يمنع الفرحة، ويجعل الجميع يتذكر أولئك الذين غيتهم الحرب إلى الأبد.
وتؤكد هذه السيدة أن شقيقاتها وجاراتها لم يقمن أيضا بصنع الكعك في هذا الموسم، لافتة إلى أن تكلفة صنع الكعك أيضا وتدني الدخل في غزة، تحول دون صنعه، حيث ترتفع أثمان مستلزمات الكعك بشكل كبير، خاصة في ظل ندرة غاز الطهي، الذي يشغل الأفران.
وكانت في هذه الأوقات تفوح روائح الكعك المصنوع من الدقيق المحشو بعجوة التمر، من كافة الشوارع والأزقة والحارات، في إشارة على بدء استعدادات الأسر للعيد، حيث يقدم هذا الكعك لضيوف العيد، ويعد وجوده أساسيا على طاولة الاستقبال.
كما لم تصنع المخابز الكعك هذا العام، للأسر التي كانت تفضل شراءه. وقال أحد الشبان العاملين في مخبز في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة لـ”القدس العربي”، إنهم بالكاد يستطيعون العمل لإنتاج كميات من الخبز تلبي احتياجات السكان والنازحين، مشيرا إلى أن الكعك أيضا لن يلقى – كما جرت العادة – زبائن على غرار الأعوام الماضية، بسبب ظروف الحرب.
وفي المواسم السابقة، كانت المخابز تزين واجهات العرض الخاصة بها، بأطباق الكعك الجاهز والعديد من أنواع البسكويت التي تقدم في العيد، غير أن هذه الواجهات أغلقت منذ بداية الحرب، وأوصدت المخابز أبوابها الحديدية، وأقامت بها فتحات صغيرة، يجري من خلالها بيع الخبز، لمنع تدافع أعداد المواطنين الكبيرة إلى داخل المخابز.
وبالعادة تمتنع الأسر الفلسطينية التي فقدت أحد أفرادها أو الأقارب من الدرجة الأولى، عن استقبال العيد بالأجواء المعروفة سواء بالزينة أو بصنع الكعك، وهو أمر طال غالبية الأسر بسبب الهجمات الدامية التي نفذها جيش الاحتلال.
كذلك غاب السمك المملح “الفسيخ” عن بيوت الغزيين بسبب الحرب، والذي كان يعتبر أساسيا ضمن وجبة افطار اليوم الأول. وهذا الموسم لم يسمح الاحتلال باستيراده من الخارج، فيما منعت قوات الاحتلال الصيادين منذ اليوم الأول للحرب من النزول للبحر من أجل الصيد. وبالكاد هناك كميات قليلة من “الفسيخ” وجدت في الأسواق وبيعت بأسعار مرتفعة.
ملابس قديمة للأطفال
خلت أسواق القطاع من الملابس التي كان الغزيون يحرصون على شرائها خاصة لأطفالهم، لارتدائها في العيد، حيث منعت سلطات الاحتلال التي تفرض حصارا محكما على القطاع، منذ اليوم الأول للحرب، إدخال الملابس والكثير من المستلزمات الأساسية.
وأغلقت غالبية محال الملابس أبوابها بعد نفاد ما بها من كميات، كان النازحون الذين تركوا مناطق سكنهم شمال القطاع قد اشتروها في الأيام الأولى للنزوح، بعد أن غادروا مناطق سكنهم بما عليهم من ملابس.
ويؤكد أصحاب محال الملابس، أنهم لم يتمكنوا من جلب أي بضائع مستوردة، في ظل منعهم من قبل سلطات الاحتلال، حيث يتوجب مرور بضائعهم لعدم وجود معابر خاصة بغزة أو ميناء، عن طريق المعابر والموانئ الإسرائيلية.
واستصلحت بعض الأسر بعض الملابس التي اقتنتها قبل الحرب، لإلباسها لأطفالها في اليوم الأول، من باب ادخال السعادة على قلوبهم.
من بين هؤلاء محمد جمعة، الذي كان قد اعتاد على الذهاب بأطفاله للهو في العيد في منتزه الجندي المجهول بمدينة غزة، حيث تكثر هناك الألعاب وسط مساحة خضراء.
وهذا المكان الواسع الذي كان وجهة لسكان قطاع غزة الباحثين عن التنزه، دمرته قوات الاحتلال بالكامل خلال الاجتياح البري للمدينة، وأصبح أثرا بعد عين.
عرض وائل عرندس، الذي يملك متجرا لبيع الهدايا، بعضا من ألعاب الأطفال المتبقية في المحل، لبيعها وهي عبارة عن عربات صغيرة تعمل بالبطاريات وعدد قليل من “البنادق البلاستيكية”، لكنه لم يقم بتزيين واجهة المحل كما جرت العادة، وقد وضع كمية الألعاب على “بسطة” في مقدمة المحل.
يقول وائل لـ”القدس العربي” إن هذه الكمية هي ما تبقى في مخزنه، ويوضح أن هذا المخزن الذي كان أسفل منزله، دمرت غالبية بضائعه، بسبب قصف إسرائيلي استهدف منزلا مجاورا قبل أربعة أشهر.
ولم يجد وائل أي مقارنة بين مواسم البيع السابقة وبين الموسم الحالي، وقال إن ظروف الحياة والأوضاع المادية، منعت الآباء من شراء الألعاب لأطفالهم، ويضيف “الكل بيسأل وين (أين) أطفالنا بدهم يلعبوا”.
وتخشى الأسر الفلسطينية من ترك الأطفال في الشوارع للهو، خوفا من غارات جوية إسرائيلية تقع في المحيط.
ويؤكد هذا الشاب أن التجار تكبدوا خسائر مادية كبيرة، خاصة وأن الحرب حرمتهم من البيع في موسمي رمضان والعيد.
وكان تقرير سابق لجهاز المركزي للإحصاء، أكد أن الاقتصاد الفلسطيني تكبد خسائر في الإنتاج تقدر قيمتها بـ2.3 مليار دولار أمريكي خلال الشهور الأربعة الأولى، للعدوان الإسرائيلي الجاري، وأوضح تقرير أصدره أن هناك توقفا شبه تام في عجلة الإنتاج لمنشآت القطاع الخاص في قطاع غزة، وتراجعا غير مسبوق في الضفة الغربية.
وأكد أن غالبية العمالة في قطاع غزة التي تقدر بأكثر من 153 ألف عامل تعطّلت، باستثناء العاملين في قطاعات الصحة والإغاثة الإنسانية.
عيد مرير على النازحين والمكلومين
وفي “مراكز الإيواء” سواء في المدارس أو في مناطق عشوائية، حيث يقيم سكانها في الخيام، كان الوضع أكثر سوءا.
تقول سعاد خليفة النازحة من شمال قطاع غزة، حيث تركت وغالبية أفراد أسرتها منزلهم في الأسبوع الثاني للحرب، إن الظروف الحالية التي تعيشها الأسرة في “مركز إيواء”، تمنعهم من الفرحة، وقد تحدثت هذه السيدة عن فقدان عدد من أفراد الأسرة في مناطق الشمال، سقطوا خلال الهجوم البري.
وتقول “كيف بدنا نحتفل بالعيد في هذا المكان، والخوف والحرب حولينا، ولا بيوت ولا ناس إلها نفسية تعيد (تقصد انشغال البال)”.
أبو محمد أحد سكان “خيام النزوح”، قال إنه “أصعب عيد” يمر عليه، هذا الرجل في منتصف العقد الخامس يوضح أنه في حرب 2014 وحرب 2021 التي حل فيهما عيد الفطر لم تكن الظروف كما هذه الأيام، حيث تعتبر الحرب الحالية الأعنف.
ويوضح أنه في تلك الحروب كان يستطيع زيارة شقيقاته، ويقول “اليوم كيف بدي أزورهن”.
وتقيم بعض شقيقاته في مدينة غزة وأخريات نزحن مع أسرهن إلى مدينة رفح، وتمنع قوات جيش الاحتلال السكان من التنقل من جنوب القطاع إلى شماله، كما تحول ظروف الحرب والازدحام من الزيارات بين الأقارب الذين يقطنون في مدن مختلفة.
ويقول محمد جبر لـ”القدس العربي” إن أيام العيد ستمضي كما غيرها من أيام الحرب، وإنه يخشى من هجمات أكثر دموية. ويوضح أن العيد ومن قبله حلول رمضان زاد من أحزان أسرته، التي فقدت شقيقته الكبرى.
ولا يتخيل هذا الشاب كيف سيمضي اليوم الأول الذي اعتاد فيه على زيارة شقيقته، وأكل الكعك والمكسرات وشرب الشاي صباحا. ويشير إلى أنه اعتاد على ذلك منذ سنين، لافتا إلى أن والدته المسنة استذكرت ابنتها وأجواء العيد معها، وجددت ذكريات الحزن وذرفت عليها الدموع.
وهناك آلاف الأسر التي ستتجرع مرارة أكثر في العيد بسبب فقدان أحد أفرادها أو أكثر.
يتحدث سيف، إلى والده كمال قبل أيام قليلة من حلول عيد الفطر المبارك ويسأله “أبي هل تتوقع أن نعود لمنزلنا في هذا العيد؟”، ينظر الأب الذي يعيش في خيمة لا تتعدى مساحتها 3 أمتار في 3 أمتار في مدينة رفح الفلسطينية، بحسرة إلى ابنه ويقول “وهل تتوقع أن نجد بيتنا سليما بعد أن تركناه؟ هل ستشعر ببهجة هذا العيد ووالدتك وأشقاؤك الثلاثة استشهدوا خلال القصف؟”، هنا يتذكر سيف عيد الفطر العام الماضي، حيث ذهب مع والده ووالدته وأشقائه الثلاثة في مثل هذا الوقت من العام الماضي لشراء الملابس الجديدة، والشوارع تتزين لاستقبال العيد، بينما ينظر حوله فيجد آلاف الخيام يسكن بها مئات الآلاف من النازحين يبحثون عن طعام يكفيهم وسط نقص شديد للسلع الغذائية والمياه الصالحة للشرب.
التعليقات مغلقة.