القائمة العربية المشتركة لخوض انتخابات الكنيست الصهيوني .. صنميّة التمثيل ووهم التأثير / نمر سلطاني

635


نمر سلطاني ( فلسطين ) – الثلاثاء 25/2/2020 م …

مقدمة

خاضت الأحزاب التي تمثل المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل انتخابات الكنيست الأخيرة في أيلول/سبتمبر 2019 ضمن قائمة واحدة، وهي القائمة المشتركة، وحصلت مجتمعة على 13 مقعدًا من بين 120. وقد تأسست هذه القائمة في العام 2015 بعدما رفع الكنيست نسبة الحسم من أصوات الناخبين من 2% إلى 3.25%. ولذا، لم يكن هناك مناص أمام الأحزاب العربية سوى الاتحاد في قائمة انتخابية واحدة لعبور نسبة الحسم، ولضمان التمثيل النيابي. إلا أن شعرة معاوية التي ربطت بين مكونات القائمة سرعان ما انقطعت، وبدا للقاصي والداني ضعف الأسس التي بنيت عليها. فبمجرد استقالة النائب باسل غطاس بعد الحكم عليه بالسجن، تماطلت كافة مركبات القائمة في إعادة المقعد للتجمع الوطني الديمقراطي على مدار عام ونصف (من آذار/مارس 2017 وحتى آب/أغسطس 2018). وتراجعت مفردات وشعارات الوحدة لتحل مكانها نقاشات قانونية سفسطائية حول نص الاتفاق وروحه، ولتحصد المركبات الثلاثة الأخرى التمويل المخصص لمقعد التجمع.

وفي انتخابات نيسان/أبريل 2019، خاضت الأحزاب الانتخابات في قائمتين، بعد أن فشلت في الاتفاق على ترتيب المقاعد، وحصلت على 10 مقاعد (أي بتراجع 3 مقاعد عن العام 2015). وإثر ذلك، عادت الأحزاب صاغرة إلى قائمة واحدة بعدما كادت إحدى القائمتين أن تفشل في اجتياز نسبة الحسم، وبعدما اتجهت نسبة كبيرة من المصوتين العرب إلى الأحزاب الصهيونية.

ما أهمية القائمة المشتركة، وكيف يجب تحليلها؟

من المفيد بداية التذكير بالآمال التي انعقدت على القائمة، والتوقعات التي أحيطت بها، إذ علّق الكثيرون الآمال لسنوات عدّة على أن توحيد القوائم سيحدّ من الخلافات الداخلية من جهة، وسيؤدّي إلى زيادة التمثيل بالتركيز على اتفاق واسع النطاق يوضح الأهداف العامة من جهة أخرى. وعلى هذا النحو، فإن توحيد الأحزاب الإسلامية والشيوعية والقومية في قائمة واحدة، في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الطائفية الدموية في العالم العربي، بدا كالحلم الذي تحقق. لذا، اكتسبت القائمة في بداية ظهورها، اهتمامًا خارجيًا أكثر منه داخليًا، إذ أشاد العديد من الكتاب العرب بولادة القائمة وأيّدوها، بل اقترحوها نموذجًا قابلًا للتعميم في أماكن أخرى من العالم العربي.[1]

ومع ذلك، كان نجاح القائمة محدودًا في رفع نسبة التصويت، إذ لم يهرع الناخبون العرب في العام 2015، ولا في العام 2019 كذلك، إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة، رغم “قلق” بنيامين نتنياهو التحريضي لحث ناخبيه على التصويت في العام 2015. ونتيجة لافتقار القائمة لأي عنصر من عناصر المنافسة بين الأحزاب، كان إقبال الناخبين وحركتهم في يوم الانتخابات بطيئة، إذ بدا الأمر وكأنه يعكس المزاج العام للاستياء العربي تجاه السياسة الرسمية الإسرائيلية، والتشكيك في جدوى هذه المُشاركة. وتكرر مشهد استجداء الناخبين في ساعات يوم الانتخابات الأخيرة للخروج للتصويت في انتخابات نيسان وأيلول 2019.

انعكست الشكوك حول جدوى المُشاركة في الانتخابات في انخفاض إقبال الناخبين المتتالي في الانتخابات السابقة، إذ لم تتعد نسبة التصويت في انتخابات العام 2013 56%، وذلك تماشيًا مع الانخفاض التاريخي على المدى الطويل.[2] ولم تنجح القائمة المشتركة في رفع نسبة التصويت عند الناخبين العرب في العام 2015 إلى 70% كما كان يأمل مؤيدوها وأنصارها، فقد تبيّن أن نسبة المشاركة زادت بنسبة تقل عن 8% لتصل إلى 63% بالمقارنة مع انتخابات العام 2013، غير أن نسبة المشاركة كانت أقل من نسبة المشاركة النهائية العامة البالغة 72.3%.

ورغم الخطاب حول الطبيعة التاريخية لتوحيد القوائم، فقد زاد التمثيل الفلسطيني في البرلمان الإسرائيلي بمقعدين فقط، ليصبح مجموع المقاعد 13 في العام 2015. ورغم المحافظة على نفس المقاعد في انتخابات أيلول/سبتمبر 2019، بسب انخفاض نسبة التصويت العامة، إلا أن نسبة التصويت عند الناخبين العرب لم تتجاوز 59%.

تدعي هذه الورقة أن القائمة المشتركة تمثل الإنجاز الأعلى من حيث التمثيل السياسي الرسمي، وفي الوقت ذاته تجسيدًا لإفلاسه التام. إن نجاح القائمة المشتركة يدفع مفهوم التمثيل الفلسطيني في الدولة اليهودية إلى أقصى مداه وإلى نهايته المنطقية، فهو يكشف في الحقيقة عبثيّة التمثيل وقصوره أيضًا. وبهذا المعنى، فإن نجاح القائمة قد يعجّل في إضعاف آلية التمثيل في نهاية المطاف.

تشكل القائمة المشتركة الترياق الخاطئ، لأنها تقوم بتناول الأعراض لا الجذور أو المسببات. ويستند هذا الادعاء إلى الحجج الآتية:

أولًا: تمثّل القائمة المشتركة والاحتفاء بها تجسيدًا لصنمية آلية التمثيل على حساب الجهود التشاركية والتنظيمية.

ثانيًا: تُقدّم هذه القائمة وهم النفوذ والتأثير من خلال السياسة الرسمية على حساب النفوذ والتأثير خارج البرلمان، وتتحول إلى مجرد “لوبي” مدني يعكس رغبة في الاندماج ضمن مواطنة منقوصة، في الوقت الذي تنزاح فيه الخارطة السياسية الصهيونية يمينًا.

ثالثًا: يلهي التركّيز على القائمة ذاتها والاحتفاء بها عن السؤال الرئيسي المتمثّل في الاحتواء في المبنى الاستعماري، ويركز بدلًا من ذلك على الإقصاء من التمثيل السياسي. وكما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فإن القضية الرئيسية للمواطنين الفلسطينيين الدونيةُ الناتجة عن الاحتواء، إذ توضح دراسات التاريخ القانوني الاستعماري، أن الاضطهاد الناتج عن الاندماج والاحتواء قد لا يقل عن ذلك الناتج عن الإقصاء.[3]

صنمية التمثيل

استخدمت الحملة الانتخابية للقائمة المشتركة منذ انطلاقها شعارات، مثل “القوة الثالثة” (في البرلمان الإسرائيلي)، وقدمت وعودًا بأن تكون أكثر نفوذًا وتأثيرًا وفاعلية في التمثيل العربي. ومع ذلك، يصعب التوفيق بين هذه الشعارات والتقديرات الأكثر تفاؤلًا التي وعدت بأربعة عشر أو خمسة عشر مقعدًا في الكنيست. وهنا وجب التساؤل: لماذا تعدّ زيادة عدد المقاعد من 11 مقعدًا إلى 13 مقعدًا، أو أكثر، تحويلًا للتمثيل السياسي الفلسطيني من الهامشية إلى النفوذ والتأثير؟ وهل تعدّ القائمة المشتركة فعلًا نموذجًا يحتذى به؟

تكمن المشكلة الرئيسية من حيث السياسة الفلسطينية داخل إسرائيل، وخارجها أيضًا، في التركيز المفرط على التمثيل الرسمي الهرمي والتراتبي، على حساب التنظيم المجتمعي، الذي يعتمد تمكين الكوادر والقوى المحلية، وتطوير المؤسسات الجمعية التي ترعى هذا التمكين.[4] فقد أدركت الأحزاب ضرورة اتحادها ضمن قائمة مشتركة، الأمر الذي يمنع بعضها من الاندثار، ولذلك تجنبت الخلافات الأساسية بينها. وقد نُثني على هذا الاتفاق، وعلى تحييد الخلافات، كدليل على نضج الأحزاب، ولكن تجنب هذه الخلافات يعني أن الوحدة ستكون مجرد وعاء فارغ، وشكلًا بلا مضمون.[5]

إن إعطاء الأولوية للتمثيل والتضحية بالمبادئ الجوهرية يؤدي إلى صنمية التمثيل، ويعني ذلك تحميل آلية التمثيل فوق ما تحتمل، ويصبح التمثيل ضمن البنية الرسميّة السياسيّة الغايةَ المُطلقة، كما لو كان يملك القدرة على إصلاح القضايا الجوهرية بمجرد وجوده فقط.

لكن التمثيل لا يتعدى كونه آلية. ففي نهاية الأمر، المسألة ليست كمية فحسب، فمهما بلغ عدد النواب العرب يبقى السؤال: تمثيل ماذا؟ لذا، لا نستطيع التغاضي عن الخلافات بين مكونات القائمة حول العديد من القضايا الجوهرية على شاكلة مواقفها من السلطة الفلسطينية واتفاقات “أوسلو”؛ ومسألة حل الدولة الواحدة/الدولتين؛ والربيع العربي؛ وكذلك الخلافات بين العلمانيين والإسلاميين.

والأهم من ذلك كله، أن مركّبات القائمة المشتركة تختلف أساسًا على قضيّتين: الأولى، طبيعة التمثيل السياسي، إذ إن بعض الأحزاب في القائمة المشتركة يعدّ التمثيل البرلماني الهدف الأسمى. والثانية، اختلاف الأحزاب السياسية حول مسألة التنظيم الوطني خارج البُنى الرسمية السياسيّة الإسرائيلية، إذ يعارض الحزب الرئيسي في القائمة (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة) هذه الفكرة تمامًا (مثلًا، انتخاب لجنة المتابعة) ويقترح تعاونًا يهوديًا عربيًا بدلًا من “النزعة الانعزالية”.[6] وكان هذا التيار في الماضي قد رفض فكرة تمثيل المواطنين الفلسطينيين في المجلس الوطني الفلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية.

ومع استمرار تجنب هذه الخلافات، تبدو فكرة التمثيل التي تجسدها القائمة المشتركة سطحيّة تجاه الداخل (لأن الوحدة ضعيفة المضمون) ومحدودة تجاه الخارج (لأن سقفها إسرائيلي). ومع ذلك، يبدو أن هذه السطحية تتلاءم بشكل جيد مع الشعبوية العامة المهيمنة على المشهد البرلماني الإسرائيلي، وما يصاحب ذلك من تأثير المال ووسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعيّ على وجه الخصوص، على السياسات الانتخابية. ومن المهم الإشارة هنا إلى نجاح صحيفة الملياردير الأميركيّ اليهوديّ شيلدون أديلسون، “يسرائيل هيوم” (إسرائيل اليوم)، التي توزع مجانًا، في التفوّق على جميع الصحف الأخرى المنافسة. فقد لعبت دورًا حاسمًا في الحفاظ على هيمنة التيار اليميني، وسيطرة نتنياهو على السلطة. وفي مثل هذه الأجواء الشعبوية التي يجيدها نتنياهو ببراعة، يصبح أنجح أعضاء الكنيست هو الأكثر مهارة في جذب انتباه وسائل الإعلام.

تلقي هذه التطورات بظلالها على مسألة التمثيل العربي، ويصبح الجواب على الشعبوية بمثلها. فمن اللافت للانتباه أن من رفعوا شعار “إسقاط نتنياهو” استنسخوا نموذجه في التصرف السياسي. فعلى سبيل المثال، توجه رئيس القائمة المشتركة إلى الناخبين العرب بعد انتخابات أيلول/سبتمبر 2019 بالفيديو عبر الفيسبوك طالبًا منهم منحه “الثقة لمدة أسبوع” لاتخاذ القرار بشأن التوصية على مرشح لتشكيل الحكومة. كما أن نجاح الخطاب الشعبوي عمومًا مدين لنتنياهو وسياساته النيوليبرالية التي تفكك أواصر المجتمع، فتزيد الفقر وتعزز صراع البقاء وتغذي ثقافة الاستهلاك، وبالتالي تخلق الحاجة التي يقوم بسدها الخطاب الشعبوي.

وفي ظل هذه الظروف والتحوّلات الإسرائيليّة نحو الشعبويّة اليمينية، يتنافس النواب العرب على الصورة والصوت، وحصد “الإعجاب” على موقع فيسبوك، وجذب العناوين في وسائل الإعلام؛ ذلك أن النظام السياسي الإسرائيلي يستثني الممثلين العرب من الائتلافات الحكومية، وحتى من لجان الكنيست الحساسة. كما يتجلى هذا الإقصاء أيضًا في انعدام إمكانية تجنيد عدد كافٍ من الأصوات في البرلمان لتشريع المسائل المهمة التي تتعلق مباشرة بالأقلية الفلسطينية. لذا، يبقى الأداء المسرحي والدرامي الخيار الوحيد المتبقي. ويتم تيسير هذه الشعبوية الجديدة بطرق إلكترونية على نحو أكثر نجاعة من الأشكال القديمة للشعبوية. وعلى هذا النحو، فإن اختزال السياسة لا يهدف إلى تنظيم المجتمع، بل تبقى تأثيراتها محدودة وتنحصر بحجم شاشة الحاسوب ووقت التصفح عبر الإنترنت، ولا تتعدى حدود الشعبوية الرقمية للمواطن الرقمي.[7]

معتدلون ومتطرفون

لم تخلق القائمة المشتركة هذه الظروف، ولكنها ساهمت معها في طمس الخلافات بين الأحزاب تحت مسمى الوحدة، وبالتالي تراجعت الأحزاب والسياسة وبرز النواب في صفحاتهم الفيسبوكية.

كانت هذه الوحدة السطحية والتركيز المفرط على التمثيل واضحة قبل انتخابات 2015 وبعدها. فالغلبة في هذه الوحدة ذات الإطار الشعبوي للتيار الاندماجي، الذي يرى نفسه جزءًا من “التيار الديمقراطي في إسرائيل”، لا الحركة الوطنية الفلسطينية، ويعارض التنظيم الجمعي للأقلية الفلسطينية في مؤسسات قومية، ويعطي الأولوية للمطالب المدنية، في حين يوصم التيار المعارض بالتطرف لتهميشه وإحراجه.

استوردت مكوّنات القائمة التقسيم بين “المعتدلين” و”المتطرفين” الذي كان خارجيًا بين الأحزاب، وأعادت إنتاجه كتقسيم داخلي ضمن القائمة المشتركة.[8] وتكمن خطورة هذا الخطاب في تطابقه مع الخطاب الإسرائيلي الذي يميز، وبشكل خاص منذ هبة القدس والأقصى في العام 2000، بين من يُطلق عليهم “القومجيين” أو “المتطرفين”، وبين “المعتدلين”. ومن ضمن مواقف “المعتدلين” أنهم يركّزون على التعاون العربي اليهودي، ويتبنون الخطاب “المُتزن”، حتّى في مواجهة الهجمات المتطرفة والعنصرية خلال المناقشات المتلفزة، ويدعمون المقاطعة ضد المستوطنات فقط لا مجمل النظام الإسرائيلي (وهو موقف مشابه لموقف الاتحاد الأوروبي)، ويزورون مروان البرغوثي في السجن لا أسرى أراضي 48 مثل وليد دقة.

لقد برز الخط الفاصل بين المعسكرين مرارًا. ففي إحدى اللحظات بعد انتخابات 2015 مثلًا، اختلف أعضاء القائمة حول كيفية التصرف خلال عزف النشيد الوطني الإسرائيلي في الجلسة الافتتاحية للكنيست، فغادر البعض، في حين بقي عدد كبير من “المعتدلين”. وكان أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة، قد أشهر اعتداله على أكثر من منبر إسرائيلي بقوله إنه يتبع درب مارتين لوثر كينغ لا مالكولم إكس. ثم تبين أنه يتبع نسخة باهتة من كينغ عندما نأى بنفسه عن مخالفة باسل غطاس للقانون لمساعدة الأسرى الفلسطينيين، حيث صرح للتلفزيون الإسرائيلي بأنه يريد العمل في نطاق القانون فقط، متناسيًا أن كينغ دعا إلى مخالفة القانون الظالم بالعصيان المدني.[9]

وفي نفس الوقت، صَعَّدت المؤسسات الإسرائيلية من هجومها على “المتطرفين”، فقام الكنيست بتوقيف نواب التجمع في العام 2016 عن العمل لمدة أربعة أشهر بسبب زيارتهم لعائلات شهداء فلسطينيين يرفض الاحتلال تسليم جثامينهم لذويهم. وكان التحريض على النائبة حنين زعبي قد استشاط منذ مشاركتها في محاولة كسر الحصار على غزة في العام 2010. وحكمت عليها محكمة في العام 2016 بالسجن ستة أشهر مع وقف التنفيذ لتهجمها اللفظي على شرطيين.

لم يفعل النواب “المعتدلون” الكثير للدفاع عن زملائهم “المتطرفين” وحقهم في التعبير السياسي، كأن يقاطعوا جلسات الكنيست احتجاجًا على منع زملائهم، ولا عندما حظرت السلطات الحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح وحلّت جمعياتها وسجنت صلاح مرارًا.[10] بالمقابل، صرح منصور عباس، رئيس الحركة الاسلامية المشاركة في القائمة، بعد انتخابات أيلول/سبتمبر 2019 للإذاعة الإسرائيلية، بتاريخ 23/10/2019: “لسنا زعبيين” (أي لسنا مثل حنين زعبي)، موضحًا أن لا مانع أمام تحالف بين المشتركة وحزب كاحول لافان على شاكلة “جسم مانع”.[11]

وأخيرًا، كان امتناع نواب التجمع في نهاية العام 2019 عن التوصية على الجنرال بيني غانتس مرشحًا لتشكيل الحكومة، خلافًا لباقي مركبات القائمة، مناسبة متجددة لتحديد “المتطرفين”، وإن كانت التوصية غير المسبوقة على الجنرال غانتس تدل على شيء، فإنما تدل على ضيق المساحة التي يناور فيها “المعتدلون”، وضيق خياراتهم، وضعف إنجازاتهم، ورغبتهم الجامحة في الاندماج، وعدم قدرتهم على التأثير؛ ذلك أنهم لم ينجحوا في “إسقاط نتنياهو”، ولا كان حزب غانتس اليميني مستعدًا لمنحهم وعودًا ملموسة. ما أسفرت عنه هذه التوصية الإعلان عن تخفيض سقف القائمة المشتركة إلى مرتبة جماعة ضغط “لوبي” تسعى إلى الاندماج رغم عدم توفر المواطنة المتساوية.[12]

التمثيل على حساب التنظيم

تتجلى إشكالية التركيز على “التأثير” من خلال “التمثيل” في التخلي عن إمكانية التأثير الحقيقي خارج الساحة البرلمانية. فمن نتائج الجنوح للـ”اعتدال” أن يجنح “المعتدلون” إلى تفريغ المُناسبات الكفاحية من جوهرها الاحتجاجيّ، حيث يبدو الإحياء السنوي لذكرى يوم الأرض و”هبة أكتوبر” 2000 هزيلًا في مناطق 48. فمنذ العام 1976 لم يعلن الإضراب العام إلا مرات قليلة في يوم الأرض. ونظرًا لعدم وجود إضراب عام، بسبب مُعارضة القوى السياسية البارزة، يتحول هذا اليوم إلى ذكرى رمزية ومناسبة فولكلورية بدلًا من الاستمرارية الكفاحية التي تفرضها استمرار نفس السياسات التي أدت إلى يوم الأرض. ويوحي ذلك بأن الصراع على الأرض مسألة متعلقة بالماضي لا الحاضر أو المستقبل.[13]

وفي ظل غياب الجهود التنظيمية الجادة، تكون المشاركة في مسيرات يوم الأرض بشكل عام محدودة وغير مرضية وغير لائقة بالحدث. ومن أسباب ذلك ضعف لجنة المتابعة، التي لا تتعدى كونها هيئة تضُم داخلها مجموعات سياسية برلمانية وخارج برلمانية، إثر رفض التيار الاندماجي المستمر لتحويلها إلى هيئة تمثيلية منتخبة. ولم تستطع هذه اللجنة عمل أي شيء في السابق أكثر من الإعلان عن العديد من المسيرات التي تشارك فيها أحزاب مختلفة فقدت قدرتها على حشد وتجنيد الناس.

كما تعاني الأحزاب القائمة من الترهل التنظيمي الداخلي، بما في ذلك الانقسامات والخلافات، وضعف الفروع المحلية. ومن جملة الأسباب، الخلافات المريرة حول المواقف الحزبية في انتخابات المجالس المحلية، والخلافات بشأن ما يجري في العالم العربي، وخاصة سوريا.

وعمومًا، لم يؤد وجود القائمة المشتركة إلى تصعيد الجهود السياسيّة المُشتركة، أو إلى زخم أكبر في المظاهرات في المناسبات الاحتجاجية.

ليس هذا التركيز على التمثيل، في الوقت الذي يتقهقر فيه التنظيم، مفاجئًا. فقد أشار بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، إلى العلاقة الشائكة بين التمثيل والمشاركة، حيث يستبدل الأول الأخير، مما يؤدّي بالمحصلة إلى تقويض المشاركة، فيحضر التمثيل وتغيب المشاركة.[14]

قد يكون التركيز بين الأقلية الفلسطينية على التمثيل أمرًا مفهومًا إلى حد ما، نظرًا لبروز القادة الأفراد، وتركيزهم وأحزابهم على التمثيل البرلماني. فمما لا شك فيه أن التمثيل أسهل على المدى القصير وأجدى انتخابيًا من العمل الجماعي التنظيميّ الشاق طويل الأمد والتجربة المحبطة التي قد تصاحبه. لكن التركيز على القادة غير محصور فقط بالأقلية الفلسطينية في أراضي 1948.

لا شك أن القادة، مثل مارتن لوثر كينغ، مهمون في سياق نضال الأميركيين من أصول أفريقية من أجل حقوقهم المدنية في الولايات المتحدة. لكن منظمي الكوادر الشعبية مثل إيلا بيكر لم يكونوا أقل أهمية. فالعديد من المبادرات اللافتة للنظر في ستينيات القرن الماضي كانت بمبادرة منظمين محليين في البداية، لا القادة ككينغ، إذ جادلت بيكر بضرورة تنظيم الأفراد والجماعات من القاعدة إلى القمة، حتى يكونوا قادرين على التنظيم الذاتي للصمود، بدلًا من الاعتماد على القيادة لقيادتهم وللتكلم باسمهم.

ولا تخفى أهمية مثل هذا النهج في التنظيم بالنظر إلى التراجع الحاد في أوضاع المواطنين الفلسطينيين في أراضي 48، الذي يتخذ صورته النهائيّة في ارتفاع معدّلات الفقر وتزايد الجريمة المنظمة. إن الإشكالية في تركيز القائمة المشتركة على الجريمة لا تنبع فقط من طرحها ضمن إطار مدني وكمطلب اندماجي. وبالإضافة إلى ذلك، تتلخص الخطوات الاحتجاجية في مسيرة سيارات، وخيمة اعتصام للنواب العرب، ولقاءات مع المسؤولين. وإن كانت هذه النشاطات محمودة، فإنها لا تتعدى حدود المواطنة، كأن العلاقة بين المواطنين الفلسطينيين والدولة ليست استعمارية، وبذلك تبقى قاصرة عن تحقيق التغيير المنشود.

وأخيرًا، فإن إهمال التنظيم الأهلي والمجتمعي يعني في محصلة الأمر النظر إلى المجتمع كمجموعة من الناخبين ذات حد أدنى مشترك، لا كمجموعة قومية ذات رؤية للصالح العام. في الحالة الأولى، وهي التعريف الليبرالي للمجموعة، يكون تمثيل الإرادة الجمعية محصلة مجموع ما يفضله الناخبون الأفراد. وفي الحالة الثانية، وهي التعريف الجمهوراني، يلتقي التمثيل والتنظيم، لأن الإرادة الجمعية ليست معطى جاهزًا سابقًا لتنظيم المجتمع سياسيًا، بل تصقل في خضمه. ونتيجة لهذا الإهمال، تترك القوى السياسية تنظيم المجتمع فريسة تحت رحمة ثالوث السوق النيوليبيرالية، والهيمنة الصهيونية في الدولة، والوشائج البدائية والجهوية مثل العائلة. يدفع العامل الأول إلى التذرير والفردانية والاستهلاك، والثاني إلى الدونية تجاه المستعمر، والثالث إلى الانكفاء إلى انتماءات تنشد المصالح الضيقة فيغيب المجتمع.

ما بين المقاطعة والتحضير للمقاطعة

هناك مظهر آخر من الاختزال الذي تثيره مسألة “التأثير” متعلقة بالنقاش حول مقاطعة الانتخابات، وهو النقاشات التي تخلقها الحملات الانتخابية بين الذين يسعون إلى “التأثير” من خلال التصويت، وأولئك الذين يسعون إلى المقاطعة لأنهم لا يريدون الشرعنة التي تنتج عن المشاركة السياسية في النظام الإسرائيلي. ولكن يجب تجنب التبسيط الذي يفرضه الاستقطاب في هذا النقاش: فمن ناحية، لا يمكن اختصار التأثير إلى التمثيل البرلماني باعتباره الوسيلة الرئيسية أو الحصرية؛ ومن ناحية أخرى، لا يشرعن المواطنون الفلسطينيون إسرائيل من خلال المشاركة في الانتخابات فقط. وهذا يعني أن هناك حاجة للتفكير الإستراتيجي الأوسع الذي لا يركز بشكل حصري على الانتخابات، ويميز بين أشكال الشرعنة المقبولة والمكروهة.[15]

وبدورها، تغذي القائمة المشتركة وهم “التأثير”، بشكله المختزل، من خلال الخطاب المصاحب للحملات الانتخابية. ونظرًا للزيادة الطفيفة في عدد النواب الممثلين للمواطنين الفلسطينيين، تزداد التوقعات لتحصيل إنجازات. لكن الحقيقة أنه لا يوجد سبب واضح يجعل هذه القائمة أفضل حالًا من الممثلين السابقين.

ومما يلفت النظر، التناقض المتزايد بين خطاب “التأثير” وصعود التيار الصهيوني اليميني المتطرف. فما انفكت الأحزاب العربية تحذر في كل دورة انتخابية أن دورة الكنيست المنتهية ولايتها كانت الأكثر عنصرية في تاريخ الكنيست. فمنذ العام 2000 ونحن نشهد محاولات يمينية متزايدة لإقصاء السياسيين العرب، وتحديد السقف السياسي للتمثيل “غير اليهودي” في “دولة اليهود”. وخلال تزايد العنصرية ورغم استشراس التيار اليميني، كان الرد الوحيد حتى الآن الدفاعَ عن التمثيل النيابي والإصرار عليه.

ويبقى السؤال هو ما إذا كان هناك خط أحمر تغدو فيه عيوب التمثيل الفلسطيني في الكنيست أكثر من فوائده. لأنه وفي حال التشبث بالتمثيل النيابي بأي شكل من الأشكال مهما انخفض سقفه، وضَعُفت نجاعته، وبهتت إنجازاته، فإن هذا سيغذّي من صنمية التمثيل، لأن التمثيل يتحول من أداة إلى غاية بحد ذاتها. ومما يستدعي هذا التساؤل أن التيار الأقوى حاليًا في القائمة المشتركة هو نفسه الذي رفض المقاطعة الاحتجاجية لانتخابات شباط/فبراير 2001 التي تلت المجزرة في هبة القدس والأقصى، وذلك رغم كونها انتخابات لرئاسة الحكومة فقط.[16]

إذا كان الجواب بالإيجاب، بمعنى وجود خط أحمر، وإذا كنا نقترب من لحظة التشكيك بجدوى التمثيل النيابي، فمن المحير عدم شروع القوى السياسية في التحضير للحظة التي تصبح فيها المقاطعة مجدية أكثر من التمثيل والمشاركة السياسية. فالحجة الرئيسية ضد المقاطعة أنها قد تخلق فراغًا سياسيًا يمكن استخدامه من قبل مؤسسات الدولة والأحزاب الصهيونية. لكن بالإمكان استدراك هذا الفراغ من خلال إنشاء مؤسسات خارج البرلمان تعمل على تجسيد الإرادة السياسية. وهكذا، تصبح المقاطعة خيارًا سياسيًا لا واقعًا مفروضًا، وتعبيرًا سياسيًا لا عزوفًا عن السياسة.

وهناك حجة أخرى تتمثل في أن المقاطعة تحتاج إلى دعم جماعي كبير لتكون مؤثرة وناجعة. ولكن، لا يمكن للقوى السياسية ضمان ذلك إلّا من خلال الحشد والاستعداد والتحضير. ولا تستطيع القوى السياسية الإشارة لعدم وجود جاهزية لهذا الخيار في الوقت الذي ينبع فيه انعدام الجاهزية من سلوكها السياسي.

ما بين السيادة والإقصاء

غالبًا ما يخفي التشابه في الخطاب خلافات بين رؤى الأحزاب التي تشكل القائمة المشتركة. في السابق، وتحديدًا في السبعينات والثمانينات، كان خطاب “الحقوق القومية” الذي طالب بها التيار المركزي بين فلسطينيي 1948 لا يتعدى المطالب المدنية.[17] وبشكل مشابه، تستخدم كافة الأحزاب في القائمة، منذ منتصف التسعينات، خطاب “السكان الأصليين”. ومع ذلك، فالنظر بشكل أعمق لما يكشفه الخطاب يبيّن أن أقلية فقط من بين الأحزاب تأخذ هذا الخطاب على محمل الجد. فإذا كانت الأصلانية تعني تحدّي سيادة الدولة، فإن إشكالية المواطنة لا تتمثل بالإقصاء، وإنما في الاحتواء ضمن سيادة منقوصة وغير عادلة تنفي أصلانية الفلسطينيين وأحقيتهم بالوجود كجماعة سياسية.

فالمواطنون الفلسطينيون مندمجون فعليًا بشكل دائم في مبنى سياسي إقصائي. لذلك، فإن المحاولات الإسرائيلية لإقصاء العرب من السياسة البرلمانية ورد الفعل العربي بالإصرار على الاحتواء، وتشكيل القائمة المشتركة لضمان التمثيل، هو مجرد جزء من الصورة الأكبر. فتقليص الكل إلى الجزء (اختزال السياسة إلى التمثيل، والتمثيل إلى التمثيل النيابي، والتأثير إلى الانتخاب) يجزّئ واقع المواطنين الفلسطينيين السياسي، فتتحول السيرورة المتحركة إلى شيء ثابت لا يتبدل مهما اختلفت الظروف.

واذا كانت المشكلة هي الاندماج لا الإقصاء،[18] فمعنى ذلك أن رد التيار الاندماجي على السياسات الإسرائيلية بالمطالبة بمزيد من الاندماج هو مثال ساطع لتشخيص خاطئ يتبعه علاج مغلوط. ولو راجعنا مثلًا النقاش الذي دار حول مشروع قانون الدولة القومية للشعب اليهودي؛ لوجدناه مثالًا للتركيز على الأعراض بدلًا من الطبيعة الاستعمارية للدولة. فقد شهدنا تركيزا على “هوية” أو “تعريف” الدولة من خلال الادعاءات التي تمحورت حول زيادة المنسوب الإثنوقراطي أو زيادة المنسوب الديني.[19]

استُخدمت في الحجج ضد مشروع القانون مفاهيم، مثل: الفاشية، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، والإقصاء. لكن هذه الادعاءات غير كافية، فالادعاءات المتعلقة بـ “الدين” هي نقاش يهودي داخلي حول طبيعة اليهودية، وليس حول وجودها. وبالمثل، فإن التركيز على “الفاشية” يمثل المشكلة باعتبارها تتعلق بالجانب اليميني للصهيونية بدلًا من الصهيونية نفسها، وبانحرافاتها واستشاطاتها بدلًا من تيارها المركزي. لكن الفاشية لا تنحصر بالدول الدينية فقط، كما أن نقدها في السياق الإسرائيلي يتماشى مع دعم ومناصرة الحروب الاستعمارية.

علاوة على ذلك، تحتوي “الديمقراطية” على عنصر غير قابل للاختزال يتمثل في تمثيل هيمنة الأغلبية القومية والثقافية. ويقترح نقد كون تعريف الدولة لنفسها كـ”يهودية وديموقراطية” بوجود تناقض بين اليهودية والديمقراطية، فالمزيد من اليهودية، في هذه الصيغة، تعني وجود ديمقراطية أقل. ومع ذلك، فإن اليهودية تعتبر أيضًا عنصرًا داخليًا للديمقراطية، وليست مجرد عنصر خارجي لها. وبالتالي، فإن التركيز على الديمقراطية لا يمثل تحديًا للطرق التي تؤدّي بها البنى الرسمية الديمقراطية إلى إعادة إنتاج الهيمنة. كما أن التركيز على الديمقراطية يخفي الإجراءات العنيفة والدموية المصاحبة لتأسيس الديمقراطية، كالنكبة مثلًا.

إن التناقض قائم في الديمقراطية ما دامت استعمارية، وفي اليهودية ما دامت استعمارية، والتركيز على التوازن بينهما لا يغير من استعمارية الدولة في شيء. لذلك، يجب أن يكون التركيز على السيادة الاستعمارية بدلًا من الهوية أو الديمقراطية، لأن المشكلة ليست في انعدام الديمقراطية والتمييز فحسب، بل في رفض الوجود السياسي للفلسطينيين ونفي علاقتهم بأرضهم.

خلاصة القول، إن تصوير القائمة المشتركة لنفسها على أنها ممثلة “التيار الديمقراطي” في إسرائيل لا يشكل تحديًا لهذا المبنى الاستعماري، بل هو تحرك في إطاره. وأما اختزال العمل السياسي إلى التأثير عبر التمثيل، فيقف عائقًا أمام تحدي هذا المبنى الاستعماري.