هيكل وادوارد سعيد.. ملامسة الواقع بلا تزييف / عبدالله السناوي

321

عبدالله السناوي ( مصر ) – الخميس 22/2/2024 م …

راح يتذكر ذلك اليوم من شهر آذار/مارس عام (١٩٤٨) عندما دلف إلى «أخبار اليوم»، وكل من قابله يخبره بأن الأستاذ «مصطفى أمين» يسأل من وقت لآخر عما إذا كان وصل الجريدة. وما أن أطل عليه بادره: «أين أنت.. النقراشى باشا يطلب أن يراك الآن».

حامت تصورات وتوقعات وتساؤلات غير أن ما جرى لم يرد فى تصور، أو توقع.. فقد كان رئيس الحكومة «محمود فهمى النقراشى» مشغولا بما يجرى فى فلسطين، وأراد أن يستقصى الحقائق من الصحفى الشاب العائد توا من مسارحها الملتهبة.
سأل مستفهما عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات للحرب كان قد وصفها بأنها «نُذُر شر».
وسأل متشككا عما إذا كان صحيحا أنه شاهد بنفسه فى إحدى المستعمرات «أكثر من ستين مدرعة» على ما روى فى سلسلة تحقيقاته «النار فى الأرض المقدسة».
لم يكن رئيس الحكومة مقتنعا بما قرأ وسمع: «أنت يا ابنى الكلام ده جبته منين؟».. «أنت تبالغ فيما تقول والأمور ليست بالخطورة التى تتحدث عنها»!
لم تكن مصر قررت دخول الحرب.. والرجل الذى أُرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحفى فى الرابعة والعشرين من عمره يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.
هكذا وفرت له التغطية الميدانية الإلمام بحقائق الموقف والقدرة على التنبؤ بما سوف يحدث لاحقا.
منذ ذلك الوقت المبكر استقرت فى كتاباته قضية فلسطين، قبل أى قضية أخرى، من «النار فى الأرض المقدسة» إلى «العروش والجيوش» عن يوميات حرب (1948) بالوثائق الرسمية على جزأين إلى «المفاوضات السرية» فى ثلاثة أجزاء، وقد كانت الأكثر مبيعا فى تاريخ الكتب السياسية العربية.

بصورة أو بأخرى فإن «هيكل» و«سعيد» تشاركا، كلٌّ بطريقته ومن موقعه، فى كشف حقيقة أوسلو وعملية السلام كلها. لم يكن ذلك رجما بالغيب. النبوءات السياسية تكتسب صدقيتها من ملامسة الواقع بلا تزييف وقراءة الحسابات والتوازنات والمصالح ونصوص الاتفاقيات وما خلفها دون أوهام

لمرة أخرى استعاد الأستاذ «محمد حسنين هيكل» بعض المشاعر، التى تملكته فى أثناء تغطيته لحرب فلسطين، وهو يوجه رسالة عبر صحيفة «العربى» للشيخ «رائد صلاح»، الذى يطلق عليه «شيخ الأقصى».
«إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلما خالدا بالنسبة لنا جميعا، فهو الحسنيان معا، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ، الأقصى إلى جانب ذلك كله ماثل دائما فى حياتى، فالله وحده يعلم عدد المرات التى جئت فيها إلى رحابه قادما عن طريق الخان الأحمر، وهو الطريق المؤدى من أريحا إلى القدس داخلا من باب رأس العامود، ماشيا من حوارى خان الزيت على الطريق الواصل إليه، مصليا فيه وماشيا منه إلى كنيسة القيامة داعيا، ثم خارجا لكى أغطى وقائع الأحداث من سنة ١٩٤٧ إلى سنة ١٩٤٨ ــ وكاتبا فى كل ما نشرت بأنها النار فى الأرض المقدسة، غير أن القضية تتعدى أى شخص وأى مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التى لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسى شعبى واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ــ قبل غيرهم وفى مقدمة الصفوف ــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
بعد أقل من ثمانية أعوام على رحيله فى (17) شباط/فبراير (2016) تأكدت مجددا وبأقوى صورة رمزية الأقصى فى الصراع العربى الإسرائيلى.
لم تكن مصادفة أن تحمل عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر اسم «طوفان الأقصى».
تحمل الفلسطينيون وحدهم، كما توقع وتنبأ، عبء الدفاع عن المسجد الأقصى، وتكاليف إحياء القضية الفلسطينية، التى جرى الظن أنها ذهبت إلى النسيان.
الذاكرة أقوى سلاح فى الدفاع عن القضايا العادلة.
وقد كان دوره جوهريا فى إحياء الذاكرة وتوثيق الصراع على المنطقة، وفلسطين فى قلبها.
«لا يوجد شىء فى الأدبيات المتاحة عن الشرق الأوسط الحديث يقارن بسرده المحكم المفصل عما حدث فى أثناء حربى ١٩٦٧ و١٩٧٣ إلى ما قبل أوسلو».
«كتاب المفاوضات السرية أفضل من مئات الأطروحات المتخصصة فى الشرق الأوسط، على أقل تقدير يمكنك أن تعرف من خلال ذلك الكتاب أن عملية السلام حققت ٩٠٪ من مطالب طرف و١٠٪ من مطالب طرف آخر، وأن ذلك سوف يؤدى لصدمة مستقبلية».
هكذا كتب الدكتور «إدوارد سعيد» فى صحيفة «الجارديان» البريطانية عام (١٩٩٦) تحت عنوان «المراقب المستقل».
بصورة أو بأخرى فإن «هيكل» و«سعيد» تشاركا، كلٌّ بطريقته ومن موقعه، فى كشف حقيقة أوسلو وعملية السلام كلها.
لم يكن ذلك رجما بالغيب. النبوءات السياسية تكتسب صدقيتها من ملامسة الواقع بلا تزييف وقراءة الحسابات والتوازنات والمصالح ونصوص الاتفاقيات وما خلفها دون أوهام.
[كان إدوارد سعيد أول من لمح الخلط الواقع فى الصف الفلسطينى وشخصه، وشاركنا معا فى اجتماع خاص فى جنيف سنة (1988) هدفه بحث الخيارات المطروحة على القيادة الفلسطينية، مع لحظة تعرضت فيها لضغوط شديدة لكى تقدم ما يطلق عليه «تنازلات»….. ثم توافقنا فيما بعد بغير اتفاق على ردة فعل إزاء موقف واحد من اتفاقية أوسلو، وشرحت موقفى لأول مرة فى محاضرة فى الجامعة الأمريكية (في القاهرة)، لكن إدوارد فى أمريكا كان يتحدث إلى العالم، فقد رفع صوته صافيا، متصاعد الإيقاعات، معبرا بحيوية خلابة، شاهدا بالحق على دور الموقف والمثقف، وحين يختار المعلم أن تصل ذخيرته إلى العالم الأوسع بسرعة دون انتظار التأثير البطىء فى المحيط الأكاديمى، فهو يريد أن يلحق الحوادث ويلامس المستقبل، وكذلك يسبق موتا يعرف أنه فى انتظاره، وكان ذلك مشهدا جليلا من أى منظور تقع عليه عين أو يستشعره وجدان].
كان ذلك ما كتبه على صفحات جريدة «العربى» عند رحيل المفكر الفلسطينى الأكبر فى أيلول/سبتمبر (2003).
كانت قد مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذى خط فيه باسم الرئيس «جمال عبدالناصر» مطلع ستينيات القرن الماضى فى رسالة شهيرة إلى الرئيس الأمريكى «جون كينيدى»: «من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق.. ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه فيما يملك وفيما يستحق».
بدت تلك إشارة بليغة لوعد «بلفور»، الذى مهد لتأسيس الدولة العبرية فى فلسطين المحتلة.
ما بين وعد «بلفور» وتهويد ما تبقى من أراض فلسطينية محتلة بدا متأكدا أنه إذا لم يتنبه العرب والفلسطينيون إلى ما قد يتعرضون له من نكبات جديدة فإنها واقعة لا محالة.
بنظرة إلى حقائق الصراع فإن المقاومة الفلسطينية بحجم التضحيات التى بذلت أثمانها الباهظة فى غزة تبدو كمحاولة بطولية لوقف حدوث نكبة ثانية.

التعليقات مغلقة.