سماحة السيّد نصر الله … عن الحرب وإدارتها / عباس محمد الزين

323

عباس محمد الزين – الإثنين 12/2/2024 م …

لم تكن عبارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من بيروت، بأن وزارته وبلاده “يتلقون تقييماً دقيقاً وواضحاً” من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، “بشأن التطورات في المنطقة” من خارج السياق الدبلوماسي المتّبع، بل تمثل في حد ذاتها رؤية سياسية وأمنية وحتى عسكرية، ضرورية لإيران، في التعامل مع ملفات المنطقة. وهذا الأمر يندرج في إطار تحديد المسارات التي يجب اتباعها في اتخاذ أي قرار.

وبما أن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع، سيكون، لماذا السيد نصر الله تحديداً الذي تحتاج دولة مثل إيران إلى “تقييمه”؟ فالأمر لا يرتبط بطهران، بقدر ارتباطه بالرجل الذي عاصَر محطات وأزمنة وحروباً وأنظمة، فجمَع الخبرة المطلوبة في قراءة أي حدثٍ، مع الوعي الإستراتيجي “الدقيق” لاتخاذ أي قرار، والأكثر من ذلك هو قدرته على الإحاطة بكل جوانب الحدث، وما يترتب على هذا الأمر من قدرة على الاستشراف كتمهيد لاتخاذ القرار… فضمن أي مفهوم يندرج هذا الأمر؟

خلال الأشهر الماضية، وفي العدوان المستمر على غزة، وضمن ملحمة “طوفان الأقصى” التي تخوضها المقاومة الفلسطينية، كانت المعركة (الحرب) جزءاً من الصراع التاريخي الدائر بين قوى محور المقاومة على امتداد جغرافيا الصراع، وبين الولايات المتحدة كقوّة هيمنة تمثّل “إسرائيل” ركيزة فيها، بيد أن الجزء الأساسي الذي يجب الالتفات إليه، والذي يعدّ أكثر تأثيراً يتعلّق بمفهوم “إدارة الحرب”.

عندما يقول السيد نصر الله إن “القرار بات في الميدان”، فإن التنفيذ العملي هو “الحرب”، والمعطيات بكل تفاصيلها السياسية والأمنية التي أدت إلى اتخاذ قرار التنفيذ، هي “إدارة الحرب”. في هذه النقطة، إذا حصل خطأ في التنفيذ، فإنه يؤثر في سير المعركة اليومي ويمكن إصلاحه من خلال معالجة الخلل، لكن الخطورة تكمن في أي خطأ أو مغالطة لم يتم الانتباه إليها خلال اتخاذ القرار، وهو ما يؤثر في “إدارة الحرب” فيحرفها عن مسارها وأهدافها، ومع عدوٍّ مثل الولايات المتحدة و”إسرائيل” فإن القرار الخاطئ هو في أحيانٍ كثيرة “القرار القاتل”.

إدارة الحرب

في كانون الثاني/يناير 2012، أصدرت جامعة أوكسفورد ما سمّته “دليل الحرب”، والذي يتحدث الفصل الـ17 منه عن “إدارة الحرب”، باعتبارها أمراً ضرورياً إلى جانب الرجال والعتاد والمهارات العسكرية. ربما لن تتطلب الحروب المستقبلية إدارة على نطاق الحروب الصناعية نفسه في القرن العشرين، وفق الدليل، ومن غير المرجح أن تتطلب هذه الحروب حشد بلدان واقتصادات بأكملها لبذل جهد صناعي كبير لشن حروب باستخدام الفولاذ والفحم والمواد وملايين الرجال، لكن الإدارة ستظل حيوية في المساهمة التي يتعين عليها تقديمها ضمن صراع معقد وناجح، وفي توفير وسائل خاصة ومخصصة للقيادة العليا للتركيز على القضايا، والتوصل إلى القرارات المناسبة، وتنفيذ تلك القرارات.

العديد والعتاد وما يرافقها من مهارات عسكرية أمور قابلة للتعديل وفق يوميات المعركة أو وفق الأهداف العامة، وذلك من حيث الحجم والنوعية، لكن الإدارة تبقى مسألة مختلفة لأنها معنية بتحديد كل هذه الأمور. اللواء في احتياط الاحتلال الإسرائيلي، غرشون هكوهين، يتحدث عن هذا الأمر بقوله، إنّ السيد حسن نصر الله، “كان ولا يزال أستاذاً في إدارة الصراع والقتال”، رابطاً هذا الأمر بما حقّقه حزب الله من “إنجاز استراتيجي غير مسبوق بإخلاء كل مستوطنات خط المواجهة في الشمال، وتحويل المنطقة إلى ساحة حرب”، ضمن “جهد قتالي محدود النطاق”، وهنا أهمية الأمر في التحولات التي يمكن أن تطرأ على خطط الحرب وتقنيات التنفيذ، مع إعطاء النتيجة المرجوّة، في حال كانت هناك “إدارة سليمة للمعركة”.

الحديث عن شخصية السيد نصر الله في أوساط الاحتلال الإسرائيلي مرتبط بقدرته على مخاطبة العقل الاستيطاني الإسرائيلي بكل ما يشكّل له من مخاوف. في حرب العام 2006، خرج مستوطن خلال تقرير للإعلام الإسرائيلي قائلاً “عندما يقول لنا نصر الله انزلوا إلى الملاجئ فإننا سننزل”. مصداقية الأمين العام لحزب الله في تعاطيه مع المستوطنين الإسرائيليين تمثل جزءاً من نظريات “إدارة المعركة” ضمن مسارين: المسار الأول، هو أن الاختراق الذي يحققه السيد نصر الله في العلاقة بين المستوطن ومؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية يتجاوز مرحلة الحرب إلى النتائج والتداعيات (من أبرز تداعيات حرب 2006 كمثال). والمسار الثاني، في القدرة على المفاجأة والردع وفرض قواعد اشتباك جديدة، إذ إن الإسرائيلي سيبقى تفكيره دائماً مشغولاً بما “يخفيه نصر الله” وما هو “قادر على القيام به ولم يقم به بعد”.

لطالما كانت خطابات السيد نصر الله تأخذ طابعاً تدريجياً وبمراحل متعددة في توضيح الفكرة أو المضمون، وتفكيك كل ما يتعلق بها، وصولاً إلى لحظة اتخاذ الموقف أو القرار. ويمكن لحاظ 3 أحداث ضمن هذا السياق في السنوات الأخيرة: إعلان حاجة لبنان إلى المواد النفطية وصولاً إلى التهديد بالرد والحرب في حال استهداف السفن القادمة من إيران. الحديث عن ضرورة حماية الثروات البحرية بمسألة الغاز وحقل “كاريش”، وصولاً إلى التهديد بالحرب واستخدام القوة في حال لم يحصل لبنان على حقوقه. وأخيراً، دخول لبنان معركة “طوفان الأقصى”، إسناداً للمقاومة في غزة، وصولاً إلى التهديد بحرب بلا سقوف إذا وسّع الاحتلال الإسرائيلي من عدوانه على لبنان. 

في الأحداث الـ 3 المذكورة كمثال كان السيد نصر الله يوضّح للصديق والحليف المسار الذي ستسلكه المقاومة، ويفنّد أكاذيب العدو ويهدد في حال اعترض المسار الذي ستسلكه. كان يمكن أن يتم اتخاذ القرار من الخطاب الأول، لكن وضعه ضمن مسار عملي ومنهجي يدخل ضمن إطار “إدارة المعركة” وصولاً إلى القرار، ومن بعده التنفيذ ضمن الأسئلة التالية: لماذا ستدخل المقاومة في الحرب في حال اعترض الاحتلال سفن النفط من إيران؟ لأنها حاجة ضرورية للبنان وباتت من ضمن أمنه القومي. لماذا ستدخل المقاومة الحرب في حال لم يحصل لبنان على حقوقه في حقل “كاريش”؟ لأن استخراج الغاز من هذه المنطقة مهم للاقتصاد اللبناني المتعثر، ويرتبط ارتباطاً مباشراً بحماية المصالح اللبنانية. ولماذا ستدخل المقاومة الحرب بلا سقوف في حال وسّع الاحتلال من عدوانه؟ لأن الأمر يرتبط بشكل أساسي بحماية أمن لبنان وبوجود المقاومة وبشكل المواجهة في المنطقة. 

في خلال الأشهر، بين الفكرة واتخاذ القرار كان السيد نصر الله يقدم جميع الأدلة والبراهين، ويصعّد ويهدد بشكل تدريجي استناداً إلى التطورات وموقف الاحتلال الإسرائيلي، بطريقة توصله إلى الهدف المنشود حتى من دون دخول الحرب مع وجود استعداد كامل لها تدركه “إسرائيل” جيداً. يقدم السيد نصر الله هذا الأمر لجمهوره أيضاً، ليس فقط ليكون مستعداً لأي احتمال، بل ليكون على بيّنة وضمن وعي لازم وكامل لأي قرار ممكن اتخاذه من قبل قيادة المقاومة. في المقابل، فإن العدو يعيش حالة من الإرباك، لأن ما يطرحه من سقوفٍ عالية في وقتٍ قصير يتهاوى في التأثير والأهمية، مع التدرج العقلاني في المواقف للسيد نصر الله. ولعل ذلك الأمر مقصود، في جعل الاحتلال الإسرائيلي يرمي كل أوراقه ويكشف عن جميع خططه ومواقفه، ليكون أمام قيادة المقاومة الوقت الكافي للتعامل ضمن مسار زمني يبدأ بالمطالب وينتهي بالتهديد لفرض هذه المطالب.

وهنا، يُطرَح السؤال التالي: مع معرفة قيادة حزب الله بأن الاحتلال الإسرائيلي ومنذ الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى” كان يفكّر بعملية واسعة ممكن أن تصل إلى اجتياح برّي، لماذا لم يهدد السيد نصر الله مباشرة وفي حينها بحربٍ بلا سقوف وبلا ضوابط؟ لماذا اختار السيد نصر الله ومعه قيادة المقاومة أن يمر أكثر من خطاب قبيل هذا التهديد؟ ببساطة، لأن إدارة المعركة كانت تتطلب فهم جدية الاحتلال الإسرائيلي في هذا التهديد بعد إظهار المقاومة لبعض قوتها أولاً. ولأن التهديد بالحرب الواسعة كان يتطلب حضوراً ذهنياً وعملانياً للمقاومة وجميع الشرائح اللبنانية، ثانياً يتضمن معرفة حجم الإجرام الإسرائيلي وتهوره وعدم احترامه لجميع المواثيق الدولية، ومن هنا يأتي كلام السيد نصر الله في الخطاب عن أن ما يحميك هو قوتك فقط لا المنظمات الدولية. وثالثاً، لأن أوراق المقاومة كثيرة جداً ومتنوعة، وتمتلك قدرة كبيرة على المناورة بها في الوقت الذي تنظر فيه إلى الاحتلال الإسرائيلي يتم استنزافه على أكثر من جبهة كاشفاً معظم قوته، ومن خلال ذلك كان كلام السيد نصر الله محدداً وموجهاً عندما تحدث “عن ألوية متعبة ومهزومة قادمة من غزة… يا هلا ومرحب بالحرب”.

يمكن أن تستخدم كل قوتك في يومٍ واحد، وتنتظر الرد في اليوم التالي، فتكون في اليوم الثالث تعيد نفسك مكشوفاً. ويمكن أن تستخدم جزءاً بسيطاً منها في يوم، وتنتظر الرد، وتستكمل في الأيام التي بعدها الظهور والإظهار وفق المعركة وتحدياتها. هذا الأمر لا يتعلق فقط بما تمتلكه، بل أيضاً بما يمتلكه عدوّك. وإذا كانت الحرب شجاعة، فإن الإقدام عليها، يتطلب أكثر شجاعة الاعتراف بقوة عدوك وقدراته. عملياً، هذا ما يقدمه السيد نصر الله في إدارة المعركة مع واحد من أكثر الجيوش تجهيزاً في العالم على صعيد العدة والعتاد والتكنولوجيا (الاحتلال الإسرائيلي)، وأمام أكبر قوة عسكرية هي الولايات المتحدة الأميركية.

وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي دائماً ما تردد أوساطه بأنّ ما يرعبهم هو “عدم معرفتهم ما يدور في رأس نصر الله”، فبالعودة إلى كلام أمير عبد اللهيان من بيروت، وكلام قادة فصائل المقاومة في المنطقة، يبدو واضحاً أن أكثر ما يطمئن هؤلاء هو “معرفتهم ما يدور برأس حليفهم السيد نصر الله” وبما يقدمه من تقييمات على صعيد المنطقة ككل.

وذلك كله، نتيجة لتجربة تكشف عن عمق وأهمية موقفه وتقييمه ليس فقط على صعيد الدعم المعنوي، بل بشكل أكبر على صعيد القراءة الملمّة والمؤثرة والكاشفة لخفايا الأمور والمستشرفة لتأثيرها: من العراق الذي وقف فيه ضد الغزو الأميركي مطالباً الحلفاء والمقربين مواجهته ورفضه، على الرغم من العداء والخصومة مع نظام صدام حسين، إلى سوريا التي كانت مسرحاً لشتى فصول وأنواع التآمر بمسميات وعناوين طائفية، واليمن الذي وقف بجانبه في وقتٍ كان فيه العالم بأكمله مجتمعاً ضده قائلاً إن “موقفه في اليمن أشرف من قتال إسرائيل”، وبطبيعة الحال فلسطين التي في ذروة السّعار الطائفي قال “لن نتخلى عنها”. هذه المواقف مجتمعة لا تُظهِر فقط الكيفية التي يدير بها السيد نصر الله بما يمثله، المواجهة والحرب ضد الهيمنة الأميركية، بل ترسم شكل المنطقة وتحدد معالم مستقبلها تحت قيادته وأمثاله.

التعليقات مغلقة.