جردة حساب أوليّة لنتائج “طوفان الأقصى” / د. حسن نافعة

342

د. حسن نافعة ( مصر ) – الخميس 4/1/2024 م …

ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي كان إنجازاً فلسطينياً يصل إلى حد الإعجاز، لكنه لم يكن الإنجاز الوحيد وإنما أضيفت إليه خلال الأشهر الثلاثة الماضية إنجازات أخرى لا تقلّ إبهاراً.

بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أشهر على عملية “طوفان الأقصى”، والتي شكّلت نقطة فاصلة ليس في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي فحسب وإنما في تاريخ المنطقة وربما العالم كله، يهلّ علينا عام ميلادي جديد. وتلك مناسبة تستحقّ أن نتوقّف عندها لنبحث كيف غيّر هذا الحدث الجلل مسار الصراع وشكل المنطقة والعالم.

ففي بداية عام 2023، أي قبل طوفان الأقصى بنحو عشرة أشهر، نجح نتنياهو في تشكيل ائتلاف حكومي يعدّ الأكثر تطرّفاً في تاريخ “إسرائيل”، وذلك بعد خمسة انتخابات مبكرة خلال ثلاث سنوات فقط. ولأن اليمين الديني المتطرف شكّل محور الثقل الرئيسي في هذا الائتلاف، فقد تبنّى سياسة تسعى لتحقيق هدفين:

الأول: إحداث تغييرات واسعة النطاق على النظام السياسي والاجتماعي في “إسرائيل”، من خلال “إصلاحات قضائية” تقلّص من دور المحكمة العليا، وتوسّع من دور السلطة التنفيذية، وتمكّن التيارات الصهيونية الدينية على حساب التيارات العلمانية.

وقد أشعلت “الإصلاحات” التي اقترحتها الحكومة على هذا الصعيد حركة احتجاجية واسعة النطاق، وأحدثت شروخاً عميقة في المجتمع الإسرائيلي وصلت إلى حد إعلان قطاعات واسعة من ضباط وجنود الاحتياط رفض العمل في “الجيش”، بل وأثّرت بالسلب على سمعة النظام السياسي الإسرائيلي في مرآة الغرب. 

الثاني: تصفية القضية الفلسطينية بكلّ السبل المتاحة، من خلال تضييق الخناق على الفلسطينيين وطردهم من بيوتهم أو هدمها، وتسريع معدلات الاستيطان، وتسليح المستوطنين، والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية.

وقد أدت هذه السياسة إلى فقدان الثقة تماماً بالعملية السياسية، وإلى إضعاف السلطة الفلسطينية التي ظلت تواصل تمسّكها باتفاقيات أوسلو وبالتنسيق الأمني مع “إسرائيل”، وإلى تعميق الخلافات بين الفصائل الفلسطينية التي استحال في ظلها توحيد صفوف الحركة الوطنية، وبدأت تظهر أشكال جديدة من المقاومة المسلحة، لكنها لم تشكّل تهديداً جدياً لأمن “إسرائيل”.

على صعيد آخر، كانت معظم النظم العربية الحاكمة مشغولة قبل عملية “طوفان الأقصى” بأوضاعها الداخلية المضطربة، وبالتالي تراجع اهتمامها تماماً بالقضية الفلسطينية ولم تحتلّ مكانة تذكر على أيّ من جداول أعمالها، بل وبدأ بعضها يتخلّى عن المبادرة العربية التي اعتمدتها قمة بيروت عام 2002، والتي كانت تشترط إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 قبل الشروع في تطبيع العلاقة مع “إسرائيل”، ولم يتردّد في إبرام ما يسمّى “اتفاقيات أبراهام”. 

حتى السعودية نفسها، صاحبة المبادرة العربية، كانت قد قطعت شوطاً طويلاً في المفاوضات الرامية إلى تطبيع العلاقة مع “إسرائيل”، في إشارة لا تخطئها العين على أنّ النظام الإقليمي الرسمي العربي بات مهيّأ نفسياً للتعايش مع “إسرائيل” والقبول بما هو أدنى بكثير من إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 67. 

فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنّ العالم كله بدا في ذلك الوقت مشغولاً بالحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، وبالصراع الأميركي الصيني المتصاعد حول قضية تايوان، وبقضايا أخرى كثيرة لم تكن القضية الفلسطينية من بينها، لتبيّن لنا بوضوح تامّ أن القضية الفلسطينية كانت في حاجة إلى زلزال ضخم كي تنفض التراب عن نفسها وتتقدّم الصفوف من جديد لتحتلّ الموقع الذي يليق بها في صدارة جدول أعمال جميع الأطراف: “إسرائيل” والدول العربية والإسلامية والنظامين الإقليمي والعالمي. وهذا هو بالضبط ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي، في مفاجأة كبرى لم يكن بمقدور أحد أن يتوقّع حدوثها على الإطلاق. 

لا أظن أنني أبالغ إن قلت إنّ ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي كان إنجازاً فلسطينياً يصل إلى حد الإعجاز، لكنه لم يكن الإنجاز الوحيد وإنما أضيفت إليه خلال الأشهر الثلاثة الماضية إنجازات أخرى لا تقلّ إبهاراً، منها:

1- صمود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة طوال هذه المدة في مواجهة “جيش” إسرائيلي مستنفر بكامل طاقته. فإضافة إلى “جيش” نظامي عامل تعداده نحو 170000 مقاتل، تمّ استدعاء قوات احتياط تجاوز عددها 360000 مقاتل، وهرع لنجدة “إسرائيل” آلاف العسكريين الأجانب، من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها، للعمل كمستشارين أو مدرّبين.

ومع ذلك كله تمكّنت فصائل المقاومة ولا يزال بمقدورها تكبيده خسائر فادحة لن يكون بمقدوره تحمّلها لفترة طويلة. فقد بلغت خسائر “إسرائيل” حتى يوم 27 كانون الأول/ديسمبر الماضي، وفقاً لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، 1300 قتيل، من بينهم 498 ضابطاً وجندياً، و11594 جريحاً، و129 أسيراً، و217921 نازحاً من 76 مدينة إسرائيلية تمّ إخلاؤها بسبب تعرّضها لقصف صارخي وصل حتى الآن إلى 12500 صاروخ. 

2- صمود الشعب الفلسطيني في غزة، رغم وحشية المجازر الإسرائيلية التي تسبّبت في قتل وجرح ما يقرب من مئة ألف مدني حتى الآن، وتدمير معظم مساكن ومباني القطاع، وحرمان جميع سكانه البالغ تعدادهم 2.3 مليون نسمة من كلّ مقوّمات الحياة من ماء وكهرباء ووسائل اتصال، وإجبار ما يقرب من 2 مليون شخص على النزوح والترحال المستمر.

فما زال هذا الشعب البطل يصرّ على التمسّك بالأرض ويفضّل الاستشهاد داخل الوطن على النزوح القسري أو الطوعي خارجه.

3- دخول محور المقاومة في عمليات دعم وإسناد للفصائل الفلسطينية المقاتلة، خاصة من جانب حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي في العراق.

فقد ترتّب على هذه المنجزات مجتمعة تغيير المعادلات القائمة كافة قبل يوم 7 أكتوبر وقلب معطياتها رأساً على عقب. ففي يوم 7 أكتوبر وحده تمكّنت حماس من إذلال “جيش” اشتهر بأنه “لا يقهر”، وأطاحت في الوقت نفسه بالسمعة الأسطورية التي وسمت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية نفسها بها. كما ترسّخت خلال الأشهر الثلاثة التالية جملة من الحقائق، أهمها: 

1- سقوط الأقنعة الأخلاقية والقانونية والإنسانية عن “الجيش” الإسرائيلي الذي ارتكب في حقّ الشعب الفلسطيني في غزة خلال هذه الفترة جرائم أبشع بكثير من تلك التي ارتكبها النظام النازي في حقّ اليهود أنفسهم إبان الحرب العالمية الثانية. 

2- اكتشاف حرفية المقاتل الفلسطيني الذي ثبت أن إيمانه بعدالة قضيته واستعداده الدائم للاستشهاد في سبيلها أهم بكثير من كل ما يملكه “الجيش” الإسرائيلي من عناصر التفوّق التسليحي أو العلمي والتكنولوجي.

3- انكشاف الادعاءات المتعلّقة بالتفوّق الأخلاقي للغرب وحرصه على الدفاع عن حقوق الإنسان واحترامه للقوانين والأعراف الدولية. فقد ثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن الدول الغربية لا تقيم لهذه القيم النبيلة أي وزن أو اعتبار حين تتعارض مع مصالحها. 

4- انهيار قوة الردع الأميركية وفشل محاولات استعراض القوة في إخافة أو ردع أي من الفصائل أو القوى المساندة للمقاومة الفلسطينية في المنطقة، خصوصاً جماعة أنصار الله اليمنية التي أثبتت أن عروبتها فوق أي اعتبار آخر.

والواقع أننا إذا تأمّلنا ما يجري حالياً في المنطقة فسوف يسهل علينا أن نكتشف أن “طوفان الأقصى” ما زال يمارس تأثيراته على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية. 

فعلى الصعيد الفلسطيني لا تزال المقاومة الفلسطينية تمسك بأقوى وأهم أوراق الضغط، وفي مقدمتها القدرة على الصمود العسكري، من ناحية، وبالتالي الاستمرار في تكبيد “الجيش” الإسرائيلي خسائر فادحة إن أصرّ على مواصلة عدوانه واحتلاله للأراضي الفلسطينية، والقدرة في الوقت نفسه على الإمساك، من ناحية أخرى، بورقة الأسرى التي أثبتت قدرة فائقة على إدارتها بمهارة وحنكة، ما يؤكد استحالة عودة القضية الفلسطينية إلى طي النسيان من جديد. 

وعلى الصعيد الإسرائيلي، فقد أدت التفاعلات الناجمة عن “طوفان الأقصى” إلى حشر نتنياهو في الزاوية، وسوف تنتهي حتماً بإسقاط حكومته المتطرفة واستبدالها بحكومة وسطية سوف تضطر إلى تبنّي مواقف أكثر انفتاحاً تجاه حلّ القضية الفلسطينية.

صحيح أنه لن يستسلم بسهولة، والأرجح أن يحاول توسيع نطاق المواجهة لتصفية حساباته مع محور المقاومة كله، وعلى رأسه حزب الله ومن ورائه إيران، وهو ما يبدو واضحاً من إقدامه على اغتيال شخصية بوزن صالح العروري في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، لكن الأرجح أنه لن ينجح في تحقيق هذا الهدف، خصوصاً في وقت تتجه فيه الولايات نحو الدخول في مرحلة صعبة تفرضها الانتخابات الرئاسية. 

وعلى الصعيد العربي، فالأرجح أن تعصف التفاعلات الناجمة عن “طوفان الأقصى” بكل محاولات التطبيع مع “إسرائيل”، وبالتالي إعادة ربط قضية التطبيع بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. 

أما على الصعيد الدولي فلا شك أن طوفان الأقصى أظهر مرة أخرى مدى الحاجة إلى نظام دولي جديد متعدد القطبية، وساعد بطريقته الخاصة على دفع الرياح في شراع القوى المطالبة بإسقاط نظام القطبية الأحادية واستبداله بنظام متعدد الأقطاب.

لم تنتهِ الحرب التي أشعل “طوفان الأقصى” فتيلها، وما زال الطريق طويلاً قبل أن تضع أوزارها تماماً، غير أن تباشير النصر الفلسطيني بدأت تلوح في الأفق.

 

التعليقات مغلقة.