حدائق البشر الأوروبية والنكبة الفلسطينية / مهند إبراهيم أبو لطيفة

624

مهند إبراهيم أبو لطيفة ( فلسطين ) – السبت 12/11/2022 م …

من الصفحات المظلمة للتاريخ ألأوروبي المعاصر(في توازي مع التنوير والثورة الصناعية والتقدم العلمي) ظاهرة من أبشع المظاهر التي إنتشرت في العديد من المدن والعواصم الأوروبية  في الفترة ما بين عام 1870 ولغاية عام 1940 ، وهي إختطاف مجموعات بشرية من إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية لعرضها في حدائق الحيوان للجمهور الأوروبي .

قرابة 300 مجموعة بشرية من رجال ونساء وأطفال من خارج القارة الأوروبية، تم خداعها وإستدراجها إلى أوروبا لدوافع تجارية وسياسية عنصرية إستعمارية من قبل تجار البشر والحيوانات ، واقيم لها عروضا خاصة ملحقة غالبا بحدائق الحيوان، زارها ملايين من المواطنين الاوروبيين في تلك المرحلة وكانت للأسف تحظى بشعبيىة كبيرة.

أجبر من تم إختطافهم وخداعم بوعود كاذبة، على عرض أنفسهم لساعات طويلة شبه عراة، وفي لباسهم الشعبي أو التقليدي، والقيام بسلوكيات وحركات أو إصدار أصوات من أجل إثارة الجمهور، وتصوير بعضهم على أنهم همج ومتخلفين بل ومن أكلة لحوم البشر!، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل تجاوزه لاستغلال بعضهم لإجراء التجارب عليهم وأحيانا تشريح جثثهم من قبل أطباء.

إنتشرت هذه الظاهرة اللاإنسانية والبشعة في العديد من المدن منها: لندن، باريس، برلين، وارسو، مارسيليا ومدن أخرى في اوروبا وأمريكا الشمالية. ففي عام 1928 مثلا، أقيم عرض كبير جدا سُمي ب ” معرض الشعوب” في برلين، وفي عام 1931 في مدينة ميونخ جنوب ألمانيا ضمن فعاليات إحتفال اكتوبر السنوي، وللمفارقة كان الزعيم النازي هتلر هو من أمر بوقف هذه العروض عام 1940. وشهدت مدينة بروسل آخر هذه العروض على المستوى الأوروبي عام 1958، حيث اقيم معرض بروسل على شكل قرية كاملة مع سكانها.

تعرض أغلب من تم استدراجهم لمثل هذه العروض لعملية خداع كبيرة، على أساس أن الهدف هو التعريف بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وعندما وصلوا إلى المصيدة ، تم إحتجازهم لفترات طويلة كالعبيد في ظروف غير آدمية، بدون عقود عمل أو رعاية صحية، وبلا أدنى مراعاة لآدميتهم، ومنهم من الصومال ومصر، والمهين أن عرض المصريين كان يتم أمام جدارية كبيرة جدا تظهر آثار فرعونية لأقدم حضارة في التاريخ.

من أوائل من تسبب في بروز هذه الظاهرة، كريستوفر كولمبس المعتبر من أول مكتشفي القارة الأمريكية، والذي قام بجلب عدد كبير من سكان أمريكا الأصليين من ” الهنود الحمر” إلى إسبانيا لتأكيد إنجازه والحصول على تمويل لرحلاته الإستكشافية. وعلى الصعيد الألماني، كان تاجر الأسماك والحيوانات : هاجن بيك ، صاحب شركة ” هاجن بيك” من أكبر المتورطين في إستغلال البشر للعروض في حدائق الحيوان وإنتشارها على المستوى الأوروبي.

الغريب في الأمر، أن عقلية الخداع ( القديمة- الجديدة كسياسات الإنتداب البريطاني) مورست على بعض هؤلاء الضحايا، حيث تم إقناع بعض زعاماتهم بأنهم سيقابلون بكل ترحاب ولمدة وجيزة من قبل سياسيين ومسؤولين أوروبيين للتعريف بثقافتهم كعمل وطني (كما حدث وقتها في العاصمة باريس مثلا)، وهو ما لم يتم أبدا، فقد تم إستعبادهم وإحتجازهم لفترات طويلة بمجرد قدومهم ونقلهم من مدينة لأخرى لتحقيق أكبر عائد مادي لمنظمي العروض، ولم يتوفر مترجمين لهم للتواصل مع محيطهم وعاشوا في عزلة تامة في أقفاص أو اماكن مخصصة للحيوانات، وما زال الإرشيف الصحفي يحتفظ بعدد من الشواهد عن تلك المرحلة : افلام وثائقية قصيرة، صور، بوسترات دعائية وغيرها.

هل علينا أن نستغرب ، أن يكون شعبنا الفلسطيني (سليل المجد والتاريخ والحضارة) ضحية السياسات والعقلية الإستعمارية العنصرية التي تسببت في قيام هذا الكيان الصهيوني، وطريقة التعاطي مع حقوق شعبنا منذ الإحتلال البريطاني وما رافقها من دعاية صهيونية حول الأرض  بلا شعب، ونشر التمدن وسط الهمجية،وما تبعها من دعايات الديموقراطية وسط الرجعية والأنظمة الشمولية؟.

كان مصير كل من توهم صدق  وعود تجار البشر من مختلف المجموعات العرقية ، الوقوف يوميا ولساعات في حديقة الحيوانات لإشباع فضول الجمهور، وملئ جيوب التجار. وكان غياب الوعي والضعف من أهم الأسباب التي جعلت من بشر- لهم كامل الأدمية – يقعوا ضحية للممارسات العنصرية والإستغلال التجاري، وبالرغم من حالة التمدن الفريدة وتوسع حقوق الإنسان في هذه الدول ، إلا أن النكبة الفلسطينية ما زالت  مستمرة ، وما زالت حقوق الشعب الفلسطيني مهدورة في دهاليز السياسات وبين أيدي الوكلاء السماسرة المحليين والإقليميين.

لا يكفي التعاطف من قبل بعض الشخصيات أو الفئات الأوروبية التقدمية على أهميته، ولا التعاطف العربي الإسلامي الآخذ بالتراجع تدريجيا، ولا بعض الإنجازات الشكلية لتحقيق مطالب الشعب في الحرية والعودة والإستقلال، والرهان على الموقف الدولي في ظل النظام العالمي وهم خاسر، وحده المخزون الإستراتيجي هو الضمان الأكبر على الأقل لاستمرار الصمود والحفاظ على ما تبقى وهو : إرادة ووحدة ووعي شعب فلسطين الحر الأصيل. الأسد الأسير خير ممن يتوهم الحرية وهو ذليل.