ماريوبول تُسقط كييف / ليليان معروف

624

ليليان معروف ( سورية ) – الثلاثاء 24/5/2022 م …

لا يُمكننا النّظر إلى سقوط مدينة ماريوبول الأوكرانيّة “سابقاً” بيدِ القوّات الرّوسية حاليّاً من ناحية الأهميّة السّياسيّة والاقتصاديّة لكييف فقط أو إلى أوكرانيا كأوكرانيا فحسب، وإنّما لسقوط المدينة أبعادٌ جيوسياسيّة أُخرى، خاصةً أنّ البلدة ساقطةٌ عسكرياً منذ حوالي شهر، فما الّذي عجّل سقوطها الآن؟ وما هي أهميّتها لكلّ من أوكرانيا وروسيا والمحيط الدّولي؟ وتركيا؟ ودول الناتو؟

مدينة ماريوبول “الرّوسيّة” ترحّب بكم

لا نستطيع الحديث عن أهميّة هذه المدينة وموقعها دون النّظر إلى الخريطة، فهي تقع في جنوب شرق أوكرانيا مُطلّةً على بحر أزوف الاستراتيجي بالنّسبة لأوكرانيا، تضمُّ حوالي 475 ألف نسمة موزّعين بالتّساوي بين سكانٍ إثنييّن روس وأوكرانيين, وتعتبر نقطةَ وصلٍ بين إقليم دونباس وشبه جزيرة القَرم الرّوسية، تحتوي المدينة على مجمع أزوفستال الاستراتيجي الذي تعرّض لتدميرٍ عام 1943 عند دخول القوات النازية إليه، وأُعيد بناؤُه عام 1947، ويضم 41 مصنعاً و 80 مبنى، إضافة إلى شبكةٍ من الأنفاق تمتدُّ لعشرات الكيلومترات وتُعرف بسراديب الموت فضلاً عن شبكةِ طرقٍ سريعةٍ وسكك حديد.

تأتي أهمية المدينة اقتصادياً من حيث أنّها تطل على بحر أزوف والبحر الأسود، إضافة إلى احتوائها على أكبر مصنع للحديد والفولاذ في أوكرانيا “مصنع أزوفستال” وبالسّيطرة عليه سينعكس سلباً على الاقتصاد الأوكراني, كما أنّ المدينة تضمُّ أكبر ميناء حيث تصدّر منه أكثر من 80% من المنتجات الاقتصادية خاصة الحديد والحبوب والمعدّات الكبرى.

أما سياسيّاً تأتي الأهميّة كما ذكرنا أن المدينة تصل بين شبه جزيرة القرم الرّوسية وإقليم دونباس ممّا يُعطي روسيا ممرّاً بريّاً كبيراً بأراضٍ تمتد من جنوب شرق أوكرانيا إلى البحر الأسود، إضافةً إلى إحكام السّيطرة على بحر أزوف ليصبحَ بحيرة روسية كاملاً، وتسمح تلك السيطرة بقطع أكثر من تسعين بالمئة من طرق الإمداد البحرية عن أوكرانيا، أي؛ إغلاق أي منفذ دعم بحري لها، وقطع أي طريق دعم عسكري بحري عن كييف “أوكرانيا”، وهذا يعني حصارها بحرياً ومن الجنوب، حيث أن القسم البحري المتبقي لأوكرانيا والذي يطل على البحر الأسود ساقطٌ بمعظمه والذي يضم خيرسون والتي تمكنت روسيا من السيطرة عليها، ويبقى ميناء أوديسا المطل على البحر الأسود بمساحته الصغيرة تحت سيطرة أوكرانيا، والتي احتجزت فيه الأخير أمس إحدى وعشرين سفينة تركية كي تمنع روسيا من احكام سيطرتها على جميع المنافذ البحرية وتشكيلها طوقاً جنوبياً كاملاً.

ماريوبول سيناريو بديل عن كييف:

ولم تأتِ هذه الخطّة عبثاً، واستبدال تحرير العاصمة كييف مسبقاً بتحرير ماريوبول حالياً إلّا لهدفٍ أكبر وأهميةٍ أعظم, فلو فرضنا أنّ خطّة تحرير كييف دون تحرير الجنوب الأوكراني قد سَرت،فإنّ طرق الإمداد البحري لأوكرانيا سوف تستمر ويمكن محاصرة روسيا في أوكرانيا، إضافةً إلى تسهيل إعادة السّيطرة من قبل القوّات الأوكرانية على شبه جزيرة القرم، وبالتّالي خسارة روسيا مزيد من الأراضي والضّغط عليها من قبل تركيا جنوباً والناتو عبر استمرار دعم أوكرانياً بحريّاً.

توقيت السّقوط وأهميّته:

كما نعلم أنّ ماريوبول ساقطةٌ عسكرياً منذ أكثر من شهر وكان بالإمكان سقوطها كاملاً بيد القوّات الرّوسية منذ شهر أيضاً، إلّا أنّ إعلان السّيطرة على أهمّ مصنع بها منذ يومين يعني إعلان سقوطها تماماً، لماذا الآن؟

أوّلاً: لاستنزاف الغرب اقتصادياً مع طول مدّة السّيطرة ولمزيدٍ من التّضييق المعيشي عليه، بالتوازي مع تحسّن العملة الرّوسية وتراجع الدّولار، فكأنّه موت سريري للغرب ومزيد من الخسائر.

 ثانياً: سعَتْ فنلندا والسّويد مؤخّراً للانضمام إلى حلف النّاتو، وهذا ما عارضته روسيا حيث أعلنت أنّ انضمام أي دولة إلى النّاتو ستصبح هدفاً للرّوس مثل أوكرانيا، وهذا يُبشّر بفتح جبهةٍ أُخرى وتشتيت القوّات الرّوسية، وهذا هو السّبب في استعجال القوّات الرّوسية بحسم معركة الجنوب الأوكراني، ما يشكل ضغطاً على الناتو عسكرياً لا العكس، وضغطاً اقتصادياً أكبر على الدّول الغربيّة بسبب توقّف التّصدير من أوكرانيا هذا من جهة، كما أنّ روسيا تسعى من جهة أُخرى إلى الضّغط على تركيا التي لم تُمانع في قطع الطّريق سابقاً أمام مرور السّفن الرّوسية، ولم تُمانع انضمام السّويد وفنلندا إلى الناتو حُبّاً بروسيا ،بل محاولةً للضغط على الدّول الغربية لكي يسمحوا لتركيا بإنشاء منطقة عازلة شمال سوريا والعراق وهذا ما عارضته الدّول الغربية في وقتٍ سابق وهذا ما تعلمه روسيا جيداً.

إضافةً إلى كلّ ما سبق تعمل جميع الدّول بالتّنسيق أو من غير تنسيق للضّغط على روسيا حيث أنّ الضّربة الإسرائيلية لسوريا منذ يومين تصبّ في ذات السّياق، فإسرائيل التي لم تنأَ بنفسها عن الحرب الرّوسية الأوكرانية ووقفت إلى جانب أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً، تستغل انشغال روسيا بالحرب وتقوم باستهداف سوريا لتشكّل ضغطاً شعبيّاً سوريّاً على روسيا من خلال مطالبة السّوريين بالانتفاض أكثر بوجه روسيا وتكرار السّؤال لماذا سوريا وروسيا لا يردّون على الضّربات؟ خاصةً أنّ الضّربات اليوم باتت أكثر وضوحاً بأنّها تستهدف السّوريين ومنشآتهم ولا تستهدف إيران ونقاط تواجدها، وهذا أحد أهمّ الأسباب للتّنسيق الرّوسي مع سوريا قبيل الحرب الرّوسية الأوكرانية وهو أنّ على دمشق أن تتحملَ مزيداً من الضّربات بانتظار حسم المعركة لصالح روسيا والعودة بقوّة إلى الأرض السّورية وحسم المعركة مستقبلاً لصالح سوريا.

ومع تقدّم الوقت نجد أنّ الضّغط يزداد على روسيا من جهة وسوريا من جهة أُخرى، وفي الوقت الذي تستمر فيه روسيا في تقدّمها العسكري وحربها الاقتصادية على الغرب الذي اجتمع ضدّها، يستمرّ الضغط على دمشق عسكرياً واقتصادياً كما رأينا من خطوةٍ أمريكيةٍ في استثناء المناطق المحتلة من قبل الانفصاليين شرق سوريا من عقوبات قيصر كي يتسنّى حصار دمشق وتجويع السّكان في مناطق سيطرة الدّولة السّورية أكثر، وهذا كله في حساب البلدين سوريا وروسيا، فنحن في حالة حربٍ مفتوحةٍ، جميع الأسلحة فيها مُتاحة حتى النووية. وعليه نجد أنّ معركة عضّ الأصابع مستمرةٌ بين روسيا والغرب، ليأتي السّؤال هنا في الوقت الذي لا يوجد فيه بديلٍ حالي للنّفط الرّوسي رُغم إعلان الغرب عن بديلٍ سيدخل حيّز التّنفيذ بعد عشر سنوات، هل الغرب مستعد أن يضحي بأمنه الغذائي وشعبه على الأقل في السنوات المقبلة؟ وهل الغرب مستعد اذا ما ضحى وانتظر لثورة شعبية ضده؟ أم سيعلن استسلاماً مرحلياً ويؤجّل معركته ريثما يجد بديلاً عن كل ما هو روسي نفطاً وقمحاً؟ اليوم نحن في هذه اللّعبة ومن ينتصر أوّلاً يحسم موقعاً له في المستقبل القادم وفي كل منطقة مُتنازعٌ عليها لصالحه.

التعليقات مغلقة.