مرايا الفكر (11) / د. عدنان عويّد

410

د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الجمعة 1/4/2022 م

* مفكر وباحث …

مرايا فكرية – الحلقة (11)

     مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد.

خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

 المحور الأول: قضايا الفكر والهويّة والتراث:

س12: ا. مراد غريبي: التراث مستويات وكل مستوى متوقف على مدى تأثيره في الراهن، كما أننا في قبال الحداثة والتجديد والعلمانيّة يبرز عنوان التقليد والرجعيّة وما هنالك، فأي تراث نستهدف قراءته وتصحيحه وتمحيصه وماهي المستويات الأخطر فيه؟ وهل يمكن التعامل مع التراث بنظم التثاقف؟

ج12: د. عدنان عويد: نعم للتراث مستوياته المعرفيّة  (الأبستمولوجيّة)، التي اختزلها الجابري على سبيل المثال لا الحصر في كتابه (بنية العقل العربيّ)، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا بطبيعة الحال، ما بين عقل بيانيّ، وآخر عرفانيّ، وآخر برهانيّ، وأخيراً العقل السياسيّ.

فالتراث العربيّ في سياقة العام هو هذه الأنساق المعرفيّة. فإذا كان العقل البيان قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبية واستعارة وتمثيل وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تأويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة في قراءتهم وتأويلهم للنص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، وفقاً لمواقف وجوديّة مثاليّة من الأرض والسماء معاً، وأهم ما في هذا المواقف الصوفيّة الوجوديّة هو أكراه المتصوف الجسد واقصائه عن عالمه الماديّ, أي الحياتيّ، ليتفرغ للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيش، والارتقاء بها إلى المصاف المطلق (الله)، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة الكبار أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخهم يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة. اما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل النقدي ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربيّ الإسلاميّ أيضاً على إعادة قراءة وتأويل النص المقدس ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ (المنطق الأرسطيّ) بشكل خاص، أي بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقيّة، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل البرهانيّ، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع تفسير النص وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، الأمر الذي جعل الحكام ومشايخهم يقفون لهم بالمرصاد دائماً، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتل بعضهم وتاريخنا المعاصر يشهد على ذلك, فالذي جرى لغيلان الدمشقي ولابن المقفع وابن رشد في العصور الوسطى مثلاً, جرى لفرج فوده ولحامد أبي زيد وجلال العظم في تاريخنا الحديث والمعاصر.  أما العقل السياسيّ فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفيّة وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك “الماوردي” في كتابه (الأحكام السلطانيّة)، و”بدر الدين بن جماعة” في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). و”ابو يعلى الفراء” في كتابه (الأحكام السلطانيّة).

هذا وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ اشتغل على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.

هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ لمئات السنين ولم يزل حتى تاريخ، هذه البنية الفكريّة المفوّتة حضاريّاً، لم تزل تخلق في عالمنا العربيّ المعاصر (أسرى الوهم)، هذا الوهم الذي تحول بدوره بفعل القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة ومشايخها وبعض تيارات الإسلام السياسي صاحبة مشروع الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكريّاً وسلوكيّاً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.

     إذا إن أسرى الوهم، أي أسرى الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، قد أسرتهم حقائق العقائد الدينيّة وشروحاتها وطقوسها ورمزها، ووعودها بتعويضهم عن ما عانوه من حرمان في واقهم المعيش، بالفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي بينته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها التي قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى، كمإ أن هذا الأسر ارتبط أيضاً في المستقبل الذي رسمته لهم هذه الكتب ذاتها حيث اُعتبر الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك رغبة بما تشي به أحلام المستقبل.. الجنة. مبتعدين حقيقة عن مقاصد الدين السياسيّة التي تركز على الأرض واعمارها وعلى عيش الحياة بسعادة كما يريدها النص المقدس ذاته.

     إذن، إن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ تكمن فيه معرفة طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضر يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما يدعي من جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر أولاً، ثم عذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد ثانياً.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانية وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.

     على العموم إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة،   وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

     أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة، يأتي الشق الآخر من السؤل وهو أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟

     نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكريّ المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد كل البعد في معظمه عن المناهج العقلانيّة الحديثة، نحن بأمس الحاجة لقوى اجتماعيّة منسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة، قوى اجتماعيّة مؤمنة بأوطانها وبالمواطنة ذاتها، تعمل على محاربة واقصاء المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب، ومؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويريّ الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). ففي حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعول كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها. 

كاتب وباحث من سوريّة

 [email protected]

https://www.almothaqaf.com/c/d5/960517

التعليقات مغلقة.