تعرفهم بسيماهم…عن أنظمة التطبيع نتحدث / إحسان الفقيه
بين الـ«لا» والـ»نعم» تضاد، لا يجتمعان، وإذا قدر لأحدهما التحول إلى الآخر فيستلزم اقتناع الناس به زمنا يطول ويقصر، بحسب قوة هذا التضاد، ولكن من المؤكد أن بضعة عقود من الصراع العربي الإسرائيلي، كانت فترة وجيزة جدا ليتحول العرب من رفض التطبيع إلى القبول به.
النتيجة الطبيعة لذلك هي سخرية العدو، الذي أعيد تعريفه ليصبح في خندق الأصدقاء، رغم عداوته الظاهرة، فبعد أن دخل السودان تحت مظلة التطبيع، تهللت أسارير نتنياهو وغرد بما تفوح منه رائحة السخرية والتهكم:»في العاصمة السودانية الخرطوم تبنّت الجامعة العربية في عام 1967 ثلاث لاءات: لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل، ولكن اليوم الخرطوم تقول: نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للاعتراف بإسرائيل، نعم للتطبيع مع إسرائيل».
قافلة التطبيع مع الكيان الصهيوني بدأت بمسيرة مصرية وأردنية، استجلبت بها حكومة الدولتين سخط جماهير الأمة، باعتبار ذلك الشطط السياسي طعنة لمركزية القضية الفلسطينية، على الصعيدين الإسلامي والقومي، مع أن التطبيع كانت فعالياته تمارس على استحياء، وتحت غطاء من التدليس مدّته الأنظمة اتقاء سخط الشعوب. لكننا نشهد في هذه الآونة تسابقا محموما للأنظمة العربية تجاه التطبيع، من دون الحاجة لهذا الغطاء، وعلى الرغم من أن إيران بالفعل لها مشروعها الذي يمثل خطورة بالغة على المنطقة العربية، إلا أن هذه الأنظمة اصطفت لتملأ الدنيا صراخا وطنطنة حول الخطر الإيراني، لا لشيء إلا لصرف الوعي الجماهيري عن العدو الصهيوني، وإلا فدولة مثل الإمارات، التي تحتل إيران جزرها الثلاث كيف تتمتع بعلاقات اقتصادية من الدرجة الأولى مع حكومة طهران؟!
التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس مجرد عقد صفقات تجارية وتفاهمات سياسية ونحوه، بل هو سطو على وعي الشعوب بمحو ما يتعلق بالعدوان الصهيوني من الذاكرة الإسلامية العربية، والاستسلام غير المشروط لسياسة الأمر الواقع، التي فرضتها علينا إسرائيل ورعاتها، وإعادة توصيف المغتصب الباغي الجائر، ليكون الجار الحليف الصديق.
للتطبيع دلالات ترشد إلى قواسم مشتركة لدى كل المطبعين، فالتطبيع معطيات واحدة تؤدي إلى نتيجة واحدة.
ازدادت الديكتاتوريات رسوخا، وأصبح التطبيع سياسة ككل السياسات الخارجية التي تُبنى بمعزل عن الإرادة الشعبية
يدل التطبيع على الاستبداد الذي تمارسه تلك الأنظمة على شعوبها، ذلك أن التطبيع يكشف الهوة السحيقة بين الحكومات المهرولة تجاه التطبيع، والشعوب الرافضة له، تلك الحكومات تسير عكس اتجاه الجماهير، ولا تعبر عن تطلعاتها وتوجهاتها نحو القضية الفلسطينية، وتنفرد بسلوك هذا الاتجاه بمعزل عن إرادة الشعوب الرافضة للتطبيع، وتنكل بمن ينتقدها في هذه القضية أو يسعى لتوعية المجتمع بخطورة التطبيع، وأقل هذه الحكومات تعسفا من تسمح للجماهير ببعض الفعاليات السلمية التي يعبرون من خلالها عن رفضهم للتطبيع بغرض امتصاص الغضب الشعبي، من دون أن يترتب عليها أي تغيير في سياسات النظام تجاه التطبيع.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن استطلاع المؤشر العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة، والذي نشر في أكتوبر 2020، أظهر أن 88% من العرب يرفضون التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، و6% منهم فقط يرون غير ذلك. وفي تقرير أعدته وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية في أكتوبر من العام نفسه، تبين أن 90% من الخطاب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي حول التطبيع مع إسرائيل سلبي. وليس أدل على رفض الشعوب للتطبيع خلافا للحكومات، من أن الإمارات التي يقوم نظامها بدور عراب التطبيع، يرفض شعبها سياسة النظام، وأُسست الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع، ووفقا لاستطلاع أجراه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فإن حوالي 80% من الإماراتيين يرفضون التطبيع مع إسرائيل، وإقامة أي علاقات عمل أو حتى روابط رياضية مع الكيان الإسرائيلي، لكن النظام الإماراتي استطاع من خلال إجراءات تعسفية قمعية بحق الشعب، فرض حالة من الخوف تحول بينهم وبين التعبير الظاهر عن رفض التطبيع.
في الماضي كان الحكام يعملون ألف حساب للضغط الشعبي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بل دخلت دول عربية حرب فلسطين مضطرة بسبب هذا الضغط، وكانوا يجعلون القضية الفلسطينية صلب خطابهم العاطفي للشعوب، ويتاجرون بشعارات تحرير فلسطين، كما كان أحدهم يهدد دائما بإلقاء إسرائيل في البحر. أما اليوم، وقد ازدادت الديكتاتوريات رسوخا، فلم يعد الحكام يكترثون للسخط الشعبي، وأصبح التطبيع سياسة ككل السياسات الخارجية التي تُبنى بمعزل عن الإرادة الشعبية. التطبيع دلالة قاطعة بحق الأنظمة على تبعيتها لأمريكا، الراعي الرسمي للكيان الإسرائيلي، هو تذكرة العبور لنيل الرضا الأمريكي الذي تراهن عليه تلك الأنظمة في بقائها في السلطة. التطبيع ثمن لتمرير الانقلابات، والتغطية على الملفات الحقوقية السوداء للأنظمة الحاكمة، وإعادة إنتاج رموز الدولة العميقة التي ثارت في وجهها ثورات الربيع العربي، ولذا ينبغي أن لا تصيبنا الدهشة عندما يطلب أحد مرشحي الرئاسة في إحدى دول الربيع الدعم من الكيان الإسرائيلي، ويعد بتطبيع العلاقات معها حال وصوله للحكم. التطبيع يعبر عن عن تدجين الحكومات العربية لكي يبقى مسارها أمريكيا صهيونيا، برضى تام مقابل الحفاظ على العرش من ثورات الشعوب والأخطار الإقليمية، ذلك الخنوع هو الضريبة، لا بد من أن يبقى النظام مُدجنا حتى لا يرى الوجه الآخر للكيان الصهيوأمريكي، وحول ذلك يقول عبد الوهاب المسيري في موسوعته: «إن غاب العربي، وإن قنع وخنع، ولم يتحدَّ الشرعية الصهيونية، فبوسع الصهيوني أن يتخذ موقفاً معتدلاً تجاه دجاج عربي مستأنس تم تطبيعه، أما إن تحوَّل العربي إلى صقر ذي هوية يهاجم دفاعاً عنها فإن الاعتدال يختفي ويتخلى العدو عن ديمقراطيته الغريبة المزعومة، ويضرب بيد من حديد». التطبيع دلالة قاطعة على أن الأنظمة العربية المطبعة بلا هوية، تخلت عن هويتها الإسلامية ولفظت فكرة التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية إسلامية، تتعلق بالمقدسات وبالدفاع عن أرض إسلامية ضد مغتصب صائل متعد، وذلك بعد أن تعلقت بمشروع قومي عروبي، باعتبار القدس أرضا عربية، لكنها مع ذلك لم تحافظ على دائرتها القومية، وانفرد كل نظام منهم في التعامل مع القضية الفلسطينية وسائر قضايا الأمة، بل انخرطت الأنظمة في صراعات عربية عربية، في حين يتجه العالم للتكتلات، وحتى الوحدة الخليجية التي هي الأقرب والأدعى للتحالف والتكتل، لم تصل حتى الآن إلى شكلٍ مرضٍ في التعامل، بل هي غارقة في صراعات النفوذ، وبلغ التناحر إلى حد القطيعة وفرض الحصار.
هذه النزاعات بين الحكومات العربية واستقواؤها بالأعداء لمواجهة الأصدقاء والجيران، جعلتهم جزءا من المشروع الصهيوني، ومن قبل صرح اليهودي هركابي الذي يعد الأب الروحي لإسحاق رابين، بأنه «لا بد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب، لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب، وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية». يكشف التطبيع تجرد هذه الأنظمة من العمل تحت مظلة الإنسانية الرافضة للظلم والاعتداء على الآخرين، فاحتلال الصهاينة للأراضي الفلسطينية أمر تأباه كل القيم الإنسانية، حتى إن الدستور الإندونيسي يشتمل على عبارة نصّها: «إن الاستقلال حق لكل شعب، ولهذا يجب أن يُزال كل استعمار من على وجه الأرض، لأنه مخالف لمعاني الإنسانية والعدالة». وليس هناك أشد قدحا في معاني الإنسانية، من وجود تجمع استيطاني يمنح كل يهود العالم الحق في العودة إلى أرض قاموا باحتلالها – باعتبارها وطن الأجداد وهم الذين تركوها منذ ألفي عام وسكنها العرب قبلهم – بينما يمنع الفلسطينيون الذين تركوا بلادهم منذ أعوام من العودة إلى الوطن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
التعليقات مغلقة.