هل يبدو طرح إسميك بسيطاً وواقعياً؟ / أحمد الدخيل

480

أحمد الدخيل ( الأردن ) – الخميس 21/10/2021 م …

نشرت مجلة “Foreign Policy” مقالاً بعنوان “وحدوا الأردن وفلسطين.. مرة أخرى” لكاتبه حسن اسميك، افترض فيه أنه بموت كل الحلول لمعالجة القضية الفلسطينية فإنه يجب التفكير في ضم الأردن للضفة الغربية ومنح الجنسية لكل فلسطيني، معتبراً أن هذا الحل يجمع بين “البساطة والمنطقية والواقعية” للمسألة الفلسطينية.

وفي الواقع هذا الحل يبدو بعيداً عن البساطة والمنطقية والواقعية، فحتى الأساس التاريخي الذي قام عليه المقال – ضم الأردن الضفةَ الغربية عام 1950- لا يمكن القياس عليه للضم القادم المفترض، خاصة بعد قرار فك الارتباط القانوني والإداري بين المملكة الأردنية الهاشمية والضفة الغربية سنة 1988، ثم إعلان استقلال “دولة فلسطين” على أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة في نفس السنة من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. فالآن تعد منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أي هنالك هوية سياسية للدولة الفلسطينية المعترف بها في الأمم المتحدة كدولة مراقب غير عضو، وفي 1950 لم تكن هنالك هذه الهوية، وبالتالي فإنّ أي عملية ضم قادمة تعني نسف كل قرارات الشرعية الدولية السابقة، لأنها مستندة على فكرة “تمثيل منظمة التحرير”، مما يتطلب بناء قرارات دولية جديدة، وهو ما يوفر لإسرائيل ثغرات قانونية لإدامة احتلالها وبحثها عن ثغرات قانونية بناءً على تفسيراتها لهذا القرار أو ذاك.

كما أن ضم 1950 لم يكن سلساً كما جاء في المقال وإنما جوبه بالرفض من منطلقات فلسطينية وطنية ومن اعتبارات قومية، وامتلأت الصحافة العربية بمقالات تتهم الموقف الأردني بالتماهي مع خطط تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما أدى إلى اغتيال الملك عبد الله الأول على عتبات المسجد الأقصى في يوليو 1951 على يد خيّاط فلسطيني مشحون بالرفض لقرار الضم الأردني.

ووقع المقال في مغالطة أخرى تتمثل في حسم تهديد الوطن البديل عبر الضم القادم، فالمقال يبني مفارقة على الادعاء اليميني الإسرائيلي بأنّ “الأردن هو فلسطين” ذلك أن ضم الأردن للضفة الغربية يتماشى مع هذا الطرح، وبالتالي يجب ألا يرفضه اليمين الإسرائيلي كونه سيقيم دولة للفلسطينيين في “الأردن الموحد”.

وهذا الطرح يتنافى مع منطق “الوطن البديل” الهادف إلى إفراغ الجغرافيا الفلسطينية من سكانها الأصليين وسيطرة الاحتلال على هذه الأراضي، فـ”الوطن البديل” ليس هدفه التخلص من الديمغرافيا الفلسطينية بقدر ما هو فرض السيادة الإسرائيلية على كامل فلسطين التاريخية.

ولفهم السياسة الإسرائيلية، لا بد من التسليم بالتحولات المجتمعية الجانحة نحو اليمين الإقصائي الذي لا يقبل بالآخر، سواء أكان عربياً فلسطينياً أو إسرائيلياً يسارياً يقبل إقامة الدولة الفلسطينية. وهذا التواجد اليميني في المستوطنات لن يقبل ببساطة الانسحاب نحو الأراضي التابعة لإسرائيل حسب القانون الدولي، وهو أيضاً لن يقبل بالجنسية الأردنية.

ولم يقدم المقال حلولاً لمعالجة التطرف في البنية الرسمية والاجتماعية في إسرائيل، فجوهر الرفض الإسرائيلي الجمعي لإقامة الدولة الفلسطينية ينبع من اعتبارات تتصل بأساس الفكر الصهيوني القائم على توظيف مقولات التوراة والتلمود في المشروع الاستيطاني وإقامة دولة اليهود على “أرض إسرائيل” الكاملة، والوعد الإلهي بأحقية اليهود في أرض الميعاد، وتفوق اليهود على “الأغيار”، وغيرها من المقولات، لتغدو فلسطين في نظرهم أرضاً مقدسة، وتغدو الضفة الغربية قلب تلك الأرض بوصفها أرض مملكتي “إسرائيل ويهوذا” في التاريخ الإسرائيلي المتخيّل: مملكة “إسرائيل” في شمال فلسطين وجزء من الأردن وسوريا وعاصمتها في السامرة في منطقة نابلس، ومملكة “يهوذا” في جنوب الضفة الغربية وعاصمتها “أورشليم” القدس.

بالطبع لا يريد هذا المقال الدخول في جدال ديني والإشارة إلى الطوائف اليهودية – كـ”ناطوري كارتا” أي حارس المدينة – التي ترفض إقامة دولة آخر الزمان قبل أوانها، ولكن هذا التصور بقداسة “يهودا والسامرة” (التسمية العبرية للضفة الغربية) يعني أن منطلقات السيطرة على الأراضي الفلسطينية هي أيديولوجية بقدر ما هي سياسية وأمنية. فحتى لو عالج الضم الأردني المخاوف الأمنية الإسرائيلية فإنه لا يمكن أن يعالج الرغبات الدينية الآخذة بالسيطرة على المشهد العام الإسرائيلي مدفوعةً بقوة تكنولوجية وعسكرية تسندها.

ولم يكتف مقال الـ”Foreign Policy” بتقديم ما يراه حلولاً لعقبات على طريق الضم، وإنما قدم مزايا لهذا المشروع أبرزها إنهاء الاحتلال، ولكن إنهاء الاحتلال يأتي عبر إقامة الدولة الفلسطينية وليس عبر إنهاء مشروعيتها السياسية وتحويلها إلى محافظات أردنية.

كما أكدّ المقال – في استعراضه للمزايا – أنّ الضم سينعكس إيجاباً على المؤشرات الاقتصادية الأردنية، وفي الواقع إنّ كُلَف إدارة الأراضي الفلسطينية وتوفير المتطلبات المعيشية للأردنيين الجدد، ستفوق أي عوائد مالية، فيكفي القول أنّ الدولة الأردنية سترث جهازاً بيروقراطياً مترهلاً ممثلاً بالسلطة الوطنية الفلسطينية لنسف أي ادعاءات بوجود مكاسب اقتصادية جرّاء الضم، ناهيك عن تضاعف مخصصات الأمن في الموازنة الأردنية لتغطية التهديدات المرتبة جراء الضم.

كما اعتبر المقال أنّ “من مزايا أن تصبح الأرض جزءاً من الأردن أنّ ذلك سيفنّد الجدل المُثار حول سبب قيام الحكومة الأردنية، بشكل تعسفي ودون سابق إنذار، بسحب الجنسية الأردنية من مواطنيها من أصل فلسطيني”. وهذا الطرح فيه تجنٍّ على الدولة الأردنية وتماهٍ مع تيار “الحقوق المنقوصة للأردنيين من أصل فلسطيني” والذي يضّخم “سحب الجنسيات” دون تقديم أي إحصائية حول حالات سحب الجنسية والتي وإن وقعت فإنها تظل فردية وليست ظاهرة يمكن البناء عليها لادعاء أنّ الدولة الأردنية تهمش مواطنيها من أصل فلسطيني.

وهذه الجزئية لا يمكن فصلها عمّا أكد عليه المقال من ضرورة أن يضمن “الترتيب الجديد عدم تهديد هوية الفلسطينيين والأردنيين. يجب أن يشعر الجميع أنهم يقيمون في دولتهم الدستورية والمؤسسية القائمة على مبادئ المواطنة الحديثة. والأهم من ذلك، يجب أن تتضمن أي صيغة للتوحيد منح الفلسطينيين المواطنة الأردنية الكاملة والمساواة التامة أمام القانون” مقترحاً تسمية الكيان الجديد بـ”المملكة الأردنية الفلسطينية الهاشمية”.

وهنا وقع المقال في فخ اعتبار الهوية مفهوم قانوني يرتبط بمعادلة الحقوق والواجبات، وغاب عنه أنّ الهوية في الدرجة الأولى هي مفهوم ثقافي اجتماعي يتصل بالموروث وبالذاكرة الجمعية المحكية، ومن هذا الجانب الهوية الفلسطينية ذات بعد ثقافي أكثر مما هي ذات بعد سياسي أو قانوني، وهذه الهوية ليست محكومة قدراً بالبقاء مشتتة تبحث عن وعاء حاضن، بل هي موجودة ومستقلة إلى حدٍ ما عن المؤثرات الخارجية، وتدعم التماسك المجتمعي في إطار الدولة الفلسطينية. لذلك كان الأجدى بالمقال الدعوة إلى إقامة الدولة الفلسطينية لصون الهوية الفلسطينية وليس البحث عن حلول لما يعتبره قضية ديمغرافية على حساب الأردن وفلسطين.

وبالإضافة إلى فخ الهوية، كانت معالجته لبعض الأرقام غير دقيقة وذلك يظهر في موضعين: الأول تقدير نسبة قاطني الأردن من أصول فلسطينية بـ(50-70)٪ معتبراً أن ذلك يدعم الاستيعاب الثقافي للوحدة، وبعيداً عن كون النسبة تقدم 20٪ هامش دقة مما يضعفها، إلا أن لا أحد يتطرق إلى تباينات ثقافية في علاقة الأردني والفلسطيني، فالغالبية العظمى من الشعبين هم عرب سنة يتشاركون نفس العادات والتقاليد وأيضاً نفس الموقف من قضايا مثل القضية الفلسطينية.

والموضع الثاني هو الاستطلاعات الشعبية في فلسطين التي استند عليها المقال لتسويق قبول شعبي في فلسطين للضم، فقد جاء في المقال “أظهر استطلاع للرأي نشرته جامعة النجاح الوطنية في أيار/مايو 2016 أن 42% من الفلسطينيين يؤيدون الاتحاد مع الأردن، في حين أظهر استطلاع آخر أجرته صحيفة الحدث الفلسطينية على الإنترنت في نفس العام أن 76% يؤيدون الكونفدرالية مع المملكة”.

وهنا ينبغي التأكيد على الفرق بين الفيدرالية والضم من جهة، والكونفدرالية والاتحاد من جهة أخرى، فالأول تختفي معه مظاهر الهوية القانونية للدولة الفلسطينية وتذوب في الإطار الأردني، أما الثاني فيتم باتحاد جسمين أردني وفلسطيني في معاهدة معينة تحافظ على حدود سياسية فاصلة بين الأردن وفلسطين، ولا يقصد بالحدود تلك الفاصلة بين البلدان وإنما حدود سيادية وبيروقراطية، أي في الكونفدرالية لا تختفي مظاهر الدولة الفلسطينية، وبالتالي لا يمكن الاستناد على هذه الاستطلاعات لتسويق الضم.

ويلاحظ أن المقال فيه كثير من “حرق المراحل”، فكان الأجدى الحديث عن وحدة فلسطينية بين الضفة وغزة ومعالجة القضايا الشائكة بينهما قبل الانتقال للحديث عن الضم الأردني. كما أن المقال اعتبر أنه يمكن لجهد أردني إسرائيلي وعربي نزع سلاح الجماعات المسلحة غير الرسمية لأن الضم سيلغي غاية وجودها المرتبطة بإنهاء الاحتلال، ولكنها قد تنشط في مواجهة ما تراه احتلالاً أردنيا لأنها لن تقبل مصادرة حق تقرير المصير الثابت في القانون الدولي، وحق التمثيل الشرعي الممنوح حصراً لمنظمة التحرير الفلسطينية.

بناء على ما سبق، إنّ غياب القدرة على فرض حل ينسجم مع الحق الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، يتطلب منا وضع كل السيناريوهات المطروحة، والمفاضلة بينها، مع الإبقاء على استمرارية حشد الجهود الدولية وتنسيق المواقف العربية في إطار قرارات الشرعية الدولية، ويجب أيضاً تهيئة البيئة الفلسطينية المحلية وإنهاء الانقسام متعدد المستويات في سبيل تقوية الموقف التفاوضي الفلسطيني، فمن حق الأجيال الفلسطينية القادمة أن تجد أساساً شرعياً تناضل من أجله.

التعليقات مغلقة.