فلسطين في القرن الميلادي الأول … الحياة البيئية والسياسية والثقافية مهند إبراهيم أبو لطيفة

391

مهند إبراهيم أبو لطيفة  ( فلسطين ) – الجمعة 18/6/2021 م

منذ فجر التاريخ ، كانت فلسطين كجزء من بلاد الشام مأهولة بالسكان، الذين عرفوا حياة المدينة، فسكنوا البيوت في المدن والقرى، ومارسوا أعمال الزراعة والصناعة والتجارة، وكانوا يمتازون بتقدمهم الثقافي والحضاري مقارنة بغيرهم.  

منذ عهد الكنعانيين ، أول من سكن فلسطين كجماعات كبيرة، أقاماو المدن في كافة أرجاء فلسطين : القدس ، أريحا، أشدود، عكا، حيفا، يافا، غزة، نابلس ، عسقلان، المجدل، حطين، بيسان، مجدو ، حاصور، تل الدوير، وغيرها عشرات من المدن الأخرى.  

أقاموا ممالك المدن  والتي  يبلغ عددها 200 مدينة،  وامتدت حضارتهم على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وصولا إلى حوض البحر المتوسط كله، وقدموا للبشرية  الأبجدية والفنون والمدنية.  

 نتيجة للغزوات الكثيرة التي تعرضت لها فلسطين على مدار التاريخ ( الفراعنة ، الآشوريين ، البابليين ، الفرس ، الإغريق، الرومان، البيزنطيين)، غاب الكثير من تاريخها الحضاري، وتعرض ما تبقى منه للطمس والتشوية والتزوير والسرقة بفعل الإحتلال الإسرائيلي.  

وضمن البحث عن تاريخ فلسطين،  اطلعت على كتاب هام بعنوان ” مجتمع يسوع…تقاليده وعاداته” ، من تأليف الأب سامي حلاق اليسوعي، صدر عن دار الشروق في بيروت ، عام 1999م، يتحدث عن المعالم العامة للحياة الإقتصادية والثقافية والإجتماعية لفلسطين في القرن الميلادي الأول، ويستند على مراجع ووثائق تاريخية ودراسات مترجمة من اللغة الفرنسية،  يقع الكتاب في 200 صفحة ، وأقدم للقاريء، ملخصا إجماليا لأهم ما جاء فيه وبتصرف.  

استولى الرومان على فلسطين ، تقريبا في عام 63 ق.م، تحت قيادة القائد الروماني بومباي. ودام حكمهم لفلسطين حوالي سبع قرون. حكم هيرودس الكبير فلسطين، تحت سيادة الرومان، وعند موته عام 4 م، تم تقسيم المملكة بين أبنائه الثلاثة، فحكم إبنه أنتيباس الجليل وبيرية (الشمال) ، بينما حكم فيلبس إيطورية وتراخونيتس(الشمال الشرقي). أما  المنطقة الوسطى فكانت من نصيب أرخيلاوس. وفي زمن السيد المسيح كان الوالي على المنطقة الوسطى هو بيلاطس البنطي (26-36 م).  

النباتات: تُشير الدراسات والوثائق، إلى أن فلسطين كان يوجد فيها عدد كبير جدا من الغابات، ولكنها إندثرت في فترة الحكم العثماني.  

عرفت فلسطين، زراعة القمح والشعير والعدس والباذنجان والفليفلة الحارة، الخيار والفقوس والبطيخ والخس.  

بالإضااة إلى التوابل كالكمون والقرفة والزنجبيل . بينما أُحضرت شجيرات التين الشوكي من المكسيك، والذرة الصفراء والطماطم والكريفون ، من القارة الأمريكية في مرحلة متأخرة.  

وانتشرت أيضا أشجار الجوز والصنوبر والسرو والسنديان، البلوط والخروب، الفُستق الحلبي، اللوز والزيزفون والأكاسيا، والجُميز على أطراف الطرقات.  

شجر الزيتون: كانت أشجار الزيتون منتشرة بشكل كبير، واستعمل زيتها للزينة والإستطباب، واستخدم في الطقوس الدينية. وكانت أخشاب الزيتون تستخدم في صُنع الإيقونات والتماثيل. ومثلت الشجرة بالنسبة للسكان، رمز الحياة والفرح والسلام.  

شجر التين: كان يتم غرس شجرة التين أمام البيوت ، من أجل  ظلها، والإستفادة من ثمرها مرتين في السنة: في الربيع وأوائل الخريف.  

الكرمة (الدالية، شجر العنب): كانت من الأشجار المحبوبة، ويتم العناية بها بشكل مستمر،  للحصول على أفضل منتوج من الثمر، ولأن صناعة النبيذ كانت منتشرة في فلسطين، وجودته عالية، كان يتم تصديره إلى مصر وروما. وكان يتم مزجه بالماء لأنه يحتوي على نسبة عالية من الكحول. واستُخدم نتاج الكرمة من العصير في بعض الطقوس الدينية.  

الحيوانات: كانت الحيوانات المفترسة منتشرة في ذلك الوقت بشكل كبير ، بسبب  البيئة الطبيعة ، مثل الخنزير البري، الذئاب، الثعالب، الأسود ، الضباع، أبن آوي، الفهد ، الدب، القط الوحشي ، إضافة للغزلان والغنم والماعز.  

كانت بحيرة طبريا، تحتوي على عدد كبير من الأنواع المختلفة من السمك ، ويقال كان فيها 153 نوعا من السمك الكبير. كذلك إنتشرت الحشرات في كل مكان ، خصوصا في فصل الصيف ، مثل الذباب والجراد. كان الناس يخشون على محاصيلهم من هجوم الجراد، وكانوا يأكلونه مشويا أيضا.  

وعرفت فلسطين الجمال والبقر، الدجاج، البط، الأوز، الحمام، والماعز، والحمير. وكانت الحمير تستخدم بشكل واسع كوسيلة للنقل وتحميل البضائع عليها. وكان على باب كل مدينة تقريبا، موقف خاص للحمير التي يمكن إستأجارها للنقل أو السفر، مثل سيارات التاكسي أو الباصات الصغيرة.  

وأعتبرن الحمير عند السكان، رمزا للوداعة والسلام والتواضع، مقارنة بالخيول كرمز للحروب والأبهة والغزو. وكان الناس يعتقدون، أن أي حيوان تم إستخدامه لحمل الأغراض، لا يصلح للإستخدام في الوظائف الدينية المقدسة.  

لم يتعود سكان فلسطين، على تربية الكلاب ، وكانت تعتبر من الحيوانات غير الأليفة، وتتسكع في الشوارع . وانتشرت الفئران والجرذان والأفاعي في الحقول والقرى.  

المأكولات: كان الخبز هو الطعام الرئيسي للسكان، خبز الشعير للفقراء وخبز القمح للأغنياء.إضافة للحوم والأسماك والخضار والفواكه، ومنتجات الغنم والماعز.  

المشروبات: الماء، عصير الفاكهة، والشيشار ( نوع من نقيع القمح يحتوي على نسبة بسيطة من الكحول).كان يتم تناول الطعام جلوسا على الأرص ، وتستحدم طاولات صغيرة يوضع عليها الطعام للمقتدر. ولقي الضيوف معاملة وترحيب خاص.  

السُكان: أنتشرت مجموعات سكانية في المدن والقرى، وفي مختلف البيئات : الساحلية، المنطقة الوسطى، والمناطق ذات الطبيعة الأقرب للصحراوية في الجنوب.وجد الكنعانيون والفينيقيون، خصوصا في الجليل، وتمركز وجود اليهود في المناطق الوسطى، وفي محيط القدس.  

كان السيد المسيح، يُفضل العيش والتنقل في الجليل شمالا، لما عُرف عن أهلها من بشاشتهم وأخلاقهم ومروءتهم.  

تواجد  في تلك المرحلة في فلسطين:  السامريون،  وهم طائفة إسرائيلية، تؤمن بأسفار موسى الخمسة فقط، وبوحدانية الله، ويقيمون في نابلس حاليا، ويقدسون السبت، ويحتفلون بالأعياد السبعة التي نصت عليها التوراة في العهد القديم، ويعترفون بنبوة النبي موسى، ويحافظون على الوصايا العشر، ويعتبرون جل جرزيم قبلتهم الوحيدة ، ومكان هيكلهم المقدس، ويؤمنون بيوم الدينونة والحساب والعقاب .  

يحجون إلى جبل جرزيم  ويقدمون فوقه التقدمات والذبائح، ولا يعترفون بالهيكل اليهودي في القدس. ويعتبرون أنفسهم أصحاب الديانة الحقيقية ، وتاريخ علاقتهم مع اليهود سيئة على الدوام. ويعتبرهم اليهود ” كُفار ” ، ويعيشون إلى وقتنا هذا مع الفلسطينيين من  المسلمين والمسيحيين في سلام وأخوة.  

مارس المكابيون في الفترة ما بين 165 ق.م – 104 ق.م ، سياسة التهويد القصري لبعض المناطق من فلسطين، وخصوصا في المنطقة الوسطى والجنوبية، وكان من نتاج هذه السياسة ، خروج ” هيرودس الكبير ” ، الذي أزاح المكابيين اليهود عن الحكم، وحظي بلقب ” ملك اليهود ” من مجلس الشيوخ في روما.  

المدن اليونانية: منذ القدم ، بنى الكنعانيون عددا كبيرا من المدن ، ووجد في تلك المرحلة مدنا ، قام اليونانيون بترميمها ، أو توسعتها مثل طبرية وقيصرية، أو استحداث أجزاء منها، في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد. سكن هذه المدن حملة بقايا من المستوطنين  اليونانين واهلها من السكان الاصليين، وكانت تتركز في شمال شرقي البلاد، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولم تكن المدن الفلسطينية في المنطقة الوسطى وفي  أية مرحلة من مراحل التاريخ يسكنها اليهود فقط، أما في قطاع غزة فكانت  المدينة مزدهرة في العصر الروماني.  

كان اليهود يتواجدون في الشتات ، ويأتون لزيارة فلسطين ، والقدس بالذات، التي تواجد فيها سكانها الأصليون من الكنعانيين على الدوام ، في فترة الأعياد والمناسبات . فوجدت الفنادق وأماكن الصرافة وبعض المدارس الدينية. وكانوا يأتون من طرسوس، قيليقية، الإسكندرية، قينية، سوريا، آسيا الصغرى، رموا ، مقدونية، العراق. وانتهى وجودهم نهائيا في سنة 70 م.،  بسبب الثورات المتتالية ضد الرومان. فزحفت جيوش الرومان على القدس ودمرت هيكلهم .  

الحياة العائلية: إحتلت العائلة مكانة مركزية في المجتمع، وكان الإهتمام بحفظ النسل كبيرا. اعتبرت كثرة المواليد، وسهولة الولادة دون مساعدة من علامات البركة. بينما العُقم وعسر الولادة من علامات غضب الله. كان الأب يضع المولود على فخذيه فور ولادته ، كإشارة للاعتراف بشرعيته، ويباركه.  

وإذا كان المولود ذكرا، ولإعتبارات حفظ النسل في العائلة، يتم الإحتفاء به بشكل أكبر. عندما يُرزق أحدهم بمولود  ذكر، تكون فرحته عارمة، ويُمنح البكر إمتيازات مادية وعائلية خاصة، فهو المسؤول عن الأسرة ، ويرث ضعف حصة إخوته.  

عُرفت عادة الختان منذ القدم عند شعوب المنطقة ، وخصوصا عند بعض الفينيقيين القدماء ، وعند اليهود. وغالبا تتم عملية الختان في اليوم الثامن من الولادة. ويتم إختيار إسم المولود من قبل الأب والأم بالتوافق.  

 وتُعبر الأسماء عن إمتداد للسلالة، كأسماء الأباء والأجداد، أو تبركا بشخصيات دينية، أو تحمل  أسماء أجنبية يونانية. وكانت تُستخدم البيئة المحيطة لإستنباط أسماء جديدة مثل الحيوانات أو النباتات: دبورة ، ظبيه ، سوسنه ، وردة.  

 يحظى الأطفال بالرعاية والتأهيل للمستقبل في المحيط العائلي ، يتعلم الذكور حرفة الوالد عادة  لمساعدته. وكانت التربية الدينية جزءا من الحياة اليومية، ويتم إرسال بعض الأولاد للمدارس الدينية الخاصة.  

 الزواج: كان الإقتران بزوجة واحده ، هي العادة الغالبة أسوة باليونانيين والرومان. وكان سن الزواج يتراوح ما بين 18 و 24 سنة بالنسبة للذكور ، وسن 12 أو 13 سنة بالنسبة للإناث ، على أساس أنه سن البلوغ.  

كانت تشريعات الزواج تعتمد على المعتفد الديني والشريعة السائدة للسكان ، وغالبا ما تتجنب المجموعات الدينية أو العرقية ، الزواج المختلط أو الزواج بأجنبيات. وكانوا يحرمون زواج الأقارب بالدم: الإبن بأمه  أو زوجة أبيه ، أو أخيه إذا كان على قيد الحياة.  

وعرفوا نفس عادات الخطبة والزواج المعروفة في عصرنا، فالخطبة تتم بطلب يدها من أهلها، ويوجد فترة خطبة ، ثم العرس وليلة الدخلة…الخ. وعُرفوا أيضا المهر والإحتفال بالعرس بالرقص والغناء والأكل ،  وقد يستمر الحقل  لعدة أيام متواصلة، من ثلاثة إلى ثمانية أيام، خصوصا بعد الحصاد. وكانوا يقدمون الهدايا للعروسين.  

كان المجتمع الفلسطيني يرفض ممارسة الدعارة أو الزنا بشدة ، وكان خطيئة الزنا  تعتبر من أشد الخطايا .  

 الحياة السياسية: كان من سياسة الرومان  في الحُكم ، محاولة مراعاة عادات وتقاليد الشعوب التي يحتلون أرضها ، وعدم إستفزاز مشاعرهم الدينية أو ممارساتهم لطقوس عبادتهم. ولكنهم كانوا يمارسون أقصى حالات البطش والقمع، عند حدوث تمرد أو عصيان. كانوا يسمحمون بتطبيق  الشريعة الخاصة للأقليات والجماعات الدينية المختلفة .  

وغالبا يتركونهم ينمتعون بنوع من الحكم الذاتي. لكن في فلسطين في هذه الحقبة التاريخية ، واجه الرومان حركات تمرد وعصيان من جماعات يهودية ، مما دفعهم  لقمعها بقسوة.  

وعندما تتعارض القوانين والأحكام مع القوانين الرومانية ، كان الرومان يفرضون إرادتهم وقوانينهم بالقوة ، مثل أحكام الإعدام ، جني الضراب . وكان بعض الحكام الرومان يسعون للتحكم بالسلطة الدينية مثل (هيرودس). إعتبر اليهود الرومان قوة إحتلال، وبالرغم من تعاون بعضهم وخصوصا قياداتهم الدينية وقبولهم بالحكم الروماني ، قامت مجموعات يهودية متطرفة بالعصيان والتمرد .  

قسم الرومان فلسطين إلى أقاليم إدارية ( شامية ، جنوبية ، وسطى ، شمالية شرقية، أو فلسطين الأولى والثانية والثالثة) ، وعينوا عليها حكام أو أمراء أو ولاة ، لسهولة فرض سيطرتهم على البلاد ، ولأنهم كانوا يهتمون بحساب  الضرائب وإحصاء عدد رعاياهم ، إضافة للتجنيد الإجباري أو خدمة العلم.  

فرض الرومان ضرائب باهظة على السكان ، مما أدى إلى تذمر الشعب. وفرضوا عليهم التجنيد الإجباري، استثنوا السكان اليهود منها.  

إنتشرت المحاكم الدينية والمدنية في عدد من المدن ، ووجدت محاكم محلية للقضايا الثانوية،  ومحاكم عُليا للبت في النزاعات والخلافات. كان يُشرف على هذه المحاكم قضاة ، يعاونهم في عملهم أمناء سر ، جباة وجلادون ومنفذوا أحكام وشرطة. وكانت المحاكم لا تقبل سوى شهادة شهود العيان.  

عُرفت عقوبة الإعدام بأنواعها المختلفة، من الإعدام بالرجم في حفرة ، الحرق ، قطع الرأس والخنق حتى الموت. وفي حالات خاصة ، كانت عملية الصلب، تعتبر أبشع العقوبات ، وقد تستمر من يومين إلى ثلاثة. ولا يُحكم بالصلب إلا على المجرمين الخطيرين، أو العبيد الهاربين من أسيادهم.  

 وكان يكتب على رأس القائم ، أسباب الصلب وحكمه ، أو يُعلق الحكم على رقبة المجرم. كان المحكوم بالصلب ، يتعرض للجلد لإنهاك جسده قبل رفعه على الخشبة ، ويُعطى المصلوب مزيجا من المُر والخل، لتخفيف آلامه!.  

التمييز الطبقي: كان التمييز الطبقي سائدا بشكل واضح في المجتمع الفلسطيني في تلك المرحلة كان المجتمع يتكون من طبقات متععدة: طبقة التجار وكبار ملاكي الأراضي، وطبقة رجال الدين والموظفين والإداريين والمعلمين والكتبة. وطبقة الفقراء من الفلاحين وصغار الحرفيين وعمال المياومة.  

 وفي قاع المجتمع ، وُجد عدد من المرضى بأمراض معدية ، أو المشردين ، والمرضى النفسيين . وكان سكان المدن يتجنبوا أي احتكاك معهم ، بل يصفوا المشردين والمرضى النفسيين ، بأن الشياطين تسكنهم ، وأن أمراضهم نتيجة الغضب الإلهي.  

عادة ما كان المتسولون والمشردون ، يجوبون الشوارع أو يجلسون على أبواب المدن والمعابد، طلبا للمساعدة، ونادرا ما تتم معاملتهم بشكل ودي. بل كان الناس يخافون منهم.  

كانت العبودية ونظام الرق موجوده ، ولكن بشكل محدود. وهي أقل منها في فلسطين عن باقي المقاطعات التي خضعت للحكم الروماني.  

الحياة الدينية: كان المجتمع الفلسطيني متدينا بشكل عام، وجدت المعتقدات الكنعانية والفينيقية، وبقايا المعتفدات اليونانية والرومانية، واليهودية والسامرية (الإسرائلية) . وإحتل الدين المكانة المركزية في الحياة اليومية، وكانت العادات والطقوس الدينية،  تُمارس بشكل منظم وفق شرائع محددة مثل:  

الصلاة والتسبيح وتقديم الأضاحي والتقمات المختلفة، والإحتفالات بالمواسم والأعياد. إنتشرت المعابد وبيوت الصلاة والهياكل.  

مارست بعض الجماعات الدينية حياة العزلة الطوعية ، والرهبنة. وطورت نظاما خاصا لإستقبال  أو قبول أعضاء جدد. وكانوا يمضون يومهم بالصلاة والتسبيح والقراءة أو الكتابة الدينية، وبعض الأعمال اليديوية (جماعة قمرن على سبيل المثال).  

البيوت: عرفت فلسطين منذ أقدم العصور ، حياة المدينة وسًكنى البيوت، وفي تلك المرحلة وجدت بيوت كبيرة  للأغنياء وقصورا للحكام. ولكنها كانت قليلة نسبيا. كانت غالبيية بيوت الناس ، تُبنى باللبن الطيني الممزوج بالقش والمحروق قلبلا بالفرن. أما بيوت الميسورين فكانت تُبنى بالحجارة، وتشبه هندسة البيوت الشامية القديمة،  التي ما زالت قائمة غلى الآن.  

الصناعات الحرفية: كمجتمع ريفي زراعي ، كانت الزراعة والرعي والصيد هي أهم النشاطات الإقتصادية، إضافة لصناعة الخبز ، الحياكة بالنسبة للنساء ، النجارة وصناعة الخزف ، صناعة العطور والزيوت.  

التجارة: عرف المجتمع الفلسطيني التجارة الداخلية المحلية، والتجارة الخارجية. كانت التجارة المحلية تتم في الأسواق ، وعن طريق الباعة المتجولين بين القرى ، وأمام مداخل المدن الكبيرة. كان البيع يتم عن طريق المقايضة أو بالدفع بالنقد.  

مارس سكان فلسطين الإستيراد والتصدير ، وكانوا يستوردون الخشب والحرير والتوابل والبخور من اليمن وتحديدا من حضرموت، ويصدرون القمح والزيت واللحوم والأسماك المجففة المملحة، إضافة للعطور التي كان يتم تصديرها لمصر وروما.  

السنة والشهور: إستعملت حضارات الشعوب القديمة السنة القمرية، بإستثناء الفراعنة الذين أستعملوا السنة الشمشية. وظل الأمر على ذلك النحو حتى سنة 46 ق.م ، حين قام يوليوس قيصر بتعديل حساب التقويم، وحمل التعديل إسمه إلى يومنا ، وهو ما نسميه التقويم ” اليولياني “. كان الرومان في فلسطين يحسبون كما في روما ، والسامريون حسب تقويمهم الخاص ، والمدن التي تخضع للثقافة اليونانية حسب التقويم المقدوني.  

المقاييس والأوزان: أستغلوا أعضاء الجسم  لقياس الأطوال الصغيرة: مثل الذراع والشبر والكتف، وتقاس الأطوال الكبيرة بواسطة نشاطات الحياة اليومية: كأن يقال مسيرة سبت ، أو الخطوة أو الغلوة ( الغلوة مقياس يوناني). ولقياس العُمق استخدموا ” الباع “، و كانت المساحات تقاس بالقصبة والحبل.  

باالنسبة للأوزان ، استخدموا  ” الحقة ” ، وهي حوالي 327,5 غرام، و” الوزنة ” حوالي 34 كغم. استخدموا الميزان  الذي يُحمل باليد ، ويتكون من قدرين، توضع البضاعة في جانب وثقل في جانب آخر للوزن. وتقاس ألأوزان بالحجارة أو المعادن ، وانتشر في الأسواق المحلية.  

العملات: إنتشرت في فلسطين العملات المختلفة ، منها ما صُنع من الذهب والفضة ، ومنها ما تم سكه من المعادن كالبرونز والنحاس. كانت قيمة العملة ترتبط بوزنها ، وسميت بأسماء مختلفة :  

 الدينار ، الدرهم ، الإستار. واعتاد الحكام نقش صورهم على العملة ، أو رموز ورسومات من الطبيعة كالنباتات والأشجارأو الموروث الديني. بينما كانت تدفع الضرائب لروما بعملة قيصر التي تحمل صورهم.  

الآداب والعلوم والفنون: كانت اللغة الأرامية هي اللغة المنتشرة بشكل كبير في المنطقة ، وبعد أن كانت لغة الأرستقراطية ، اصبحت مع مرور الوقت هي لغة التجارة وعامة الناس ، إضافة إلى اللغة اليونانية.  

ساد التعليم الشفهي أكثر من الكتابة بشكل عام ، ولكن الحياة الدينية والإقتصادية، كانت تستلزم وجود كتابات. فاستخدموا الكتابة على الألواح الخشبية بواسطة آلات كتابة خاصة مصنوعة من العظم أو البرونز ، واستخدموا جلود الحيوانات وعادة جلود الغنم والماعز أو الغزلان ، لكتابة النصوص الدينية. إضافة إلى ورق البردى الذي كان يأتي من مصر وكان غالي الثمن.  

كانت الكتابات الدينية ، هي مستودع الأداب والفنون من الكتابات التوثيقية والتاريخية والأخلاقية والأدبية والجغرافية ، إضافة إلى أحتوائها على التصوف والملاحم والأساطير والأناشيد الروحية والعاطفية، والأدب القصصي والشعر.  

أحتلت الموسيقى مكانة كبيرة، استخدمت في العبادات والشعائر الدينية ،  والأفراح والمناسبات المختلفة، وفي الكثير من المناسبات الخاصة. استخدم الفلسطينيون المزمار، الطبل ، الغيثارة ، وآلات صوتية أخرى.  

اهتم الفلسطينيون بالجغرافيا ، وكانوا ينظرون لفلسطين على أنها مركز العالم. وكانت الرياضيات بدائية ، استخدموا النظام العشري في الحساب.  

الحياة الصحية: لم تكن الحياة بالسهولة التي يمكن أن نتصورها في ذلك الوقت ، ولكن المجتمع الفلسطيني ، عرف الطبابة والأطباء ، واهتم بالنظافة وطهارة الجسد ، والوقاية الصحية. وكانوا يتبعون نظاما صارما لمواجهة الأمراض المعدية. كانوا يستخدمون الكثير من الطبابة عن طريق الأعشاب والزيوت الطبيعية. وكان لديهم طقوس خاصة متقدمة  في دفن الموتى ، وتجهيز المقابر وزيارتها.  

بعد نقل أهم ما جاء في الكتاب، أجد لزاما علي التأكيد على بعض الحقائق:  

أولا: مثل باقي بلاد الشرق الأدنى القديم ، شهدت فلسطين حركة إستيطان يونانية واسعة ، بعد حملة الأسكندر ، وضمت مزارعين وحرفيين وإداريين وجنود وتجار وفنيين ومثقفين ، نقلوا معهم جزءا من الثقافة الهيلينية إلى فلسطين. لكنهم  لم يبنوا  مدنا جديدة في فلسطين ، كما روج بعض المسترقين  وسموها ” المدن اليونانية ” ، ولكنهم سكنوا مدنا كنعانية وفينيقية ، كانت قائمة وقديمة، وقاموا فقط باعادة أو استكمال بنائها مثل:  

 عكا ( بطوليمايس) ، جبع، التي تقع على منحدر جبل الكرمل ومدخل مرج بن عامر، دورا ( الطنطورة)، وهي مدينة فينيقية على الساحل، جنوب جبل الكرمل، أرسوف ( أبولونيا) شمال يافا، حصن ستراتون، أنشأه الفينيقيون ، يافا (يوبي) ، يبنى( يمنيا) جنوب يافا ، أسدود ( أزوتس)  التي بناها الفينيقيون، عسقلان وغزة وهي مدن كنعانية قديمة.  

 السامرة( سماريا) قام هيرودتس فقط باعادة بنائها وسماها سبسطيا، وكانت مدينة كبيرة تم هدمها على يد الحاكم اليوناني  بريدكاس وجعلها أول مستعمرة يونانية لجنوده، وهي قديمة أيضا ، صفورية (سبورس)، تم إعادة بنائها فقط. رفح ، وقاموا بتوسيعها فقط . بيسان ( سكيتوبولس) وهي أقدم من الوجود اليوناني بكثير.  

ثانيا: كان الرومان مشبعين بالثقافة اليونانية ، وعلى العكس من اليونان، لم يقوموا بحركة إستيطان  في فلسطين، واكتفوا بحكمها عسكريا. وعندما احتلوا القدس عام 63 ق.م – وتكرر الأمر في عام 70م ، حيث فرض تيطس حصارا على القدس إستمر خمسة أشهر ، شاركت فيه أربعة فيالق ، رومانية، وعندما سقطت المدينة ، هدمت أسوارها ، وتم إستباحتها بالكامل وتخريبها-  أقام الرومان عدة مدن، أيضا بالترميم أو التوسعة، على أساس مدن كنعانية مثل عمواس (نيكوبولس)، نابلس (نيابولس)، القدس ( إيليا كابيتولينا ). وغيرها من المدن ، وبالرغم من أنها حملت أسماء رومانية أو يوناية، إلا أنها مدن كنعانية عربية فلسطينية على مدار التاريخ.  

كما تجد الإشارة ، أنه كان من عادة من يقوم بالبناء في تلك المراحل التاريحية وبسبب محدودية الإمكانيات وتعاقب الحضارات ، أن يقوم بالإستفادة من الحجارة الموجودة  للمباني المهدمة ، في إعادة البناء والترميم، أو بناء مبانى جديدة فوق القديم. ويمكن لعلم الآثار أن يُميز الفوارق بشكل دقيق .  

مرجع:  

إلياس شوفاني: الموجز في تاريخ فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت ، 1996.