هل كتب غسان كنفاني مستقبل غزة؟ / عزة مختار
يظل بعضهم حاضرا بكلمته وأدبه، ممثلا ضمير القضية، وناطقا باسمها، ومرآة لوصفها بدقة. وقد كانت كلماته رصاصا، ارتد يوما إلى صدره وهو في السابعة والثلاثين من عمره ليرحل شابا، في حين تظل كلماته حية رغم الموت الذي يُصب على أهل غزة كالمطر الثائر. إنه الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي سجل الماضي، ووصف المستقبل كأنه يراه.
ملحمة غزة في كتابات غسان كنفاني
يشهد العالم اليوم ملحمة قد تكون غير مسبوقة في التاريخ بهذا السيناريو غير الإنساني، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن، وما تبعها من كشف سوأة الأنظمة العالمية الحاكمة بانحيازها السافر إلى جانب العدوان الإسرائيلي. هذه الملحمة التقطها قلم كنفاني ليبدو الأمر كأنه كتب رواياته في زماننا هذا بكل دقة، إذ تقدّم روايته “عائد إلى حيفا” صورة استباقية لما يدور اليوم، ورسم آلاف الحكايات لآلاف الأسر المهجَّرة من الشمال إلى الجنوب والعكس تحت القصف المنتظم، تحمل أطفالها وخيامها، ثم يسقط الأطفال شهداء، ثم تسقط الخيام حرقا، ثم يسقط الرجال جثثا محترقة، لينتقل من تبقى منهم إلى العراء، غير مبال بهم.
أما اللاجئ في روايته “رجال في الشمس” فقد تغيَّر فقط شكله، وتبدلت حالته، ليصير طفلا يبحث عن أبيه متمنيا أن يكون بين الركام حيّا، أو أمّا تصرخ بأن أطفالها ماتوا “جياعا”. هي لا تعترض على موتهم، بل تنفطر ألما، وتصرخ مرارا أنها لم تستطع إطعامهم، ليموتوا وبطونهم ملأى، أو ثكلى تنبش بيدين داميتين التراب، علّها تجد بقايا أبنائها، وعيون لا تملك سوى الغضب والدعاء. مات أبطال الرواية صامتين، وها هم أهل غزة جميعا يُقتلون على مرأى ومسمع من العالم، في صمت مخزٍ. رسم غسان الصورة بالأمس وكأنه رآها اليوم، وترك لخيال العدو الصهيوني عنان التنفيذ، ليقتل في براعة منقطعة النظير، ليصير الرجل ضمير الشهداء الناطق بآلامهم.
الرواية الفلسطينية قادرة على كسر الصمت
لقد ظلت الرواية الإسرائيلية لعشرات السنوات هي الرواية الوحيدة المسموعة للعالم، تحت كثير من الدعاوى التي انتبه العالم اليوم إلى كذبها. كتب كنفاني رواياته منتظرا اليوم الذي تُقرأ فيه بدورها، وأتى السابع من أكتوبر لتُفتح الصفحات الفلسطينية على مصراعيها، وتتحول الروايات الهامسة إلى حقائق صارخة استطاعت أن تكسر الصمت وتُسمع العالم رواية أخرى، تلقتها الشعوب سريعا فانتفضت في الجامعات والشوارع وحول السفارات الإسرائيلية والأمريكية، بل ورددها أخيرا الشاب الأمريكي “إلياس رودريغيز” الذي أغضبه القتل، وآمن بالحق الفلسطيني، وصدَّق روايته التي ظلت محجوبة طويلا، وترجم غضبه إلى فعل سوف يؤثر لسنوات في حالة الأمن الكاذب لسفارات الصهاينة بأنحاء العالم.
إنها معركة الوعي التي قال عنها كنفاني “إن المعركة ليست فقط على الأرض بل في الوعي، وإن الهزيمة الحقيقية ليست فقدان الأرض بل قبول الرواية الصهيونية عن أنفسنا”. لقد استطاع الفلسطيني، بعد هذا الصمود الأسطوري، أن يثبت أن الرواية الفلسطينية تكتسب كل يوم أرضا جديدة، ومؤيدين جددا، وقراء وعيونا، وأن الحكاية الصادقة حين تُروى بالدم فلا بد أن تنتصر.
ضرورة العودة إلى قراءة المشهد من بدايته
ولأن القضية الفلسطينية ليست وليدة اليوم، وإنما هي قضية الصراع التاريخي بين الحق والباطل، قضية إثبات الذات للإنسان على الأرض بحفاظه على المقدسات أو تفريطه فيها، قضية التمكين الحضاري لحضارة السماء، أو حضارة الهمجية كما وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي وهو يبدل الحقائق ويزيف المفاهيم ليصورها حربا بين الحضارة والهمجية، بينما تابع العالم كله همجيته على الأراضي المقدسة وعداءه لصاحب الأرض الحقيقي.
لزم أن نقرأ فصول الرواية منذ جذورها عبر العصور، قراءة تاريخها النضالي الذي ينتهي دوما بعودة الحق، وأن تاريخ الاحتلال المتكرر جد قصير، وسرعان ما ينتهي. لقد قالها كنفاني يوما معبّرا عن فشلنا في إبلاغ الحقيقة “إننا إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّر القضية”. لقد كتب كنفاني القضية التي كانت قبله، وقرأنا نحن كتاباته التي بقيت بعده، وبلغت الآفاق حين سطرها أهالي غزة بلغة قديمة جديدة، لغة الصمود والمجد والكرامة، لتظل كلمات كنفاني بوصلة، وليست مجرد كلمات أدبية تُقرأ.