الحمار الفلسطيني / راشد عيسى

0 221

راشد عيسى ( فلسطين ) – الثلاثاء 3/6/2025 م …

لن يكون مفاجئاً لأي متابعٍ للحرب الوحشية على غزة أن يجد بين يديه مرثية حزينة لحميرها، لحمار يحتضر، يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون أن يتمكّن أحدٌ من مدّ يد العون له، فقلما تخلو صورة آتية من القطاع من هذا الكائن الوديع، الذي «لم يرفع عينيه قطُّ عن الطريق»، على ما يقول الكاتب الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش في رثائيته الحزينة الجميلة.
في إمكان هذا الـ «كائن الذي لا يتكلم» أن ينطق مرة إذن، ليقول بدوره، وبحق: «أنا للطريق»، هو مَلِكُ الطريق الملتصق أبداً بدروب البلاد، الذي «لم يرفع رأسه يوماً إلى السماء»، ولِمَ يفعل؟ «فليس له ذنوب كي يطلب غفرانها»، حسب الكاتب الفلسطيني.

انخرطت الحمير على الفور بكامل مسؤولياتها؛ تجرّ خزانات المياه، وأصبحت وسيلة النقل بالأجرة… لقد ساهمت بإنقاذ أرواح، وولادة أجيال جديدة عندما حملت النساء إلى أماكن الولادة الآمنة

«تلفظ أنفاسك هنا على قارعة الطريق
محاطًا بشهود نقلتَ جرحاهم إلى المستشفيات المتبقية
وحملتَ قتلاهم إلى المشارح المكتظّة والمقابر المرتجلة
رجال وأولاد صلّبوا أذرعهم على صدورهم مستسلمين ليأسهم
مثلما تستسلم الآن لاحتضارك الصامت
فلا مستشفى لك
ولا سرير لموتك».
صور الحمير ليست طارئة على المشهد الغزي. فقط في الحرب الأخيرة، بدتْ معذبة، هزيلة، تعاني كسائر البشر في هذه البقعة المنكوبة من الأرض، أكثر مما يستحق أي كائن، إذ يصف كاتب فرنسي سَكَنَ المدينة لعامين، قبيل الدخول في الألفية الجديدة، عدداً من المفارقات فيها (على رأسها الفقر المدقع وعزّة النفس في آن)، ومن بينها «مشاهد الحياة اليومية المليئة بالمتعة والبهاء: العربات التي تجرّها الحمير، والمكتظة بأحمال الفواكه والخضروات، أو كتل الإسمنت. أسواق تضج بالحياة والحركة وحوانيت الصناع التقليديين. أصوات المؤذنين المختلطة بصياح الديكة وزمامير السيارات. مواكب أعراس لا نهاية لها، أو جلسات سمر حول كأس شاي أو فنجان قهوة في منزل أحد الأصدقاء».
منذ ذلك الوقت ستَرِدُ تقاريرُ صحافية عديدة، وصورٌ أكثر، تتناول أحوال رفيق درب الفلسطينيين، الذي عانى مصاعب الحصار مثلهم تماماً.
في البدء كانت الحمير في كل مكان، وكانت تُستخدَم كما الحال في أي منطقة ريفية، لكن الحظر الإسرائيلي، الذي حَدَّ من دخول الشاحنات والوقود، دفع الغزيين إلى العربات التي تجرّها الحمير لنقل المنتجات ومواد البناء والنفايات وسواها. ووُصِفَ مركز مدينة غزة، مع وجود هذا الكم من العربات، بأنه أضاف «حسّاً من القرن التاسع عشر إلى حركة المرور الفوضوية».

في مرمى النيران

بدأ التغيّر في كانون الأول/ ديسمبر 2021 عندما قررت إسرائيل منع استيراد الحمير، متذرعة بـ»جماعات الرفق بالحيوان، بعد تقارير عن انتشار معاملة سيئة للحمير في غزة، بما في ذلك نقلها في حاويات مزدحمة والعمل الشاق وسوء التغذية».
انخرطت الحمير على الفور بكامل مسؤولياتها؛ تجرّ خزانات المياه، وأصبحت وسيلة النقل بالأجرة، وتحمل الخردة من كل الأنواع. كما أنها تسلّم الخشب لمواقد الفحم والمنتجات، إلى أن وصلنا إلى الحرب الأخيرة فباتت هي سيارات الإسعاف تنقل الجرحى إلى المشافي، والشهداء إلى مثاويهم الأخيرة، لقد ساهمت بإنقاذ أرواح، وولادة أجيال جديدة عندما حملت النساء إلى أماكن الولادة الآمنة.
هذا ما يفسّر استهدافها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، هو الذي تعمد استهداف المشافي وفرق الإغاثة والصحافيين وآبار المياه وسيارات الإسعاف ومخازن الأغذية. للاحتلال أسبقيات في جريمة استهداف الحيوانات، نتذكر تلك التجربة بقرات بيت ساحور الـ 18، عندما حاولت هذه البلدة الفلسطينية دعم عصيانها أثناء الانتفاضة الأولى باستقلالية اقتصادية. لكن الاحتلال لم يتحمّل الفكرة، لاحق البقرات واحدة إثر واحدة، إذ حاول أبناء البلدة إخفاءها عن الأنظار هنا وهناك، تماماً كما يخبئون ويحرسون مقاوماً عزيزاً.

تعذّب طويلاً حمارُ المسيح مع الغزيين المحاصرين، المطرودين أبداً، والذي زُجّ في مواجهة الميركافا والمسيّرات الإسرائيلية

لكن حمير غزة لعبت دوراً أكبر، مع كل التقدير لبقرات بيت ساحور، ولم يتردد الاحتلال في قصفها مباشرة.
كل هذا من دون أن تشكو الحمير أو تنق، ليس هذا من طبعها على أي حال: «أنت الذي لم تجْأَرْ بالشكوى من البشر الذين أثقلوا أحمالك، وألهبوا ظهرك بالسياط»، على ما يقول أبو هشهش، ولكن لم يستطع بعضها، على ما ورد أيضاً في تقارير صحافية، أن لا يصاب بالذعر عند القصف الإسرائيلي الوحشي، فهذا يصيب حتى الله بالرعب، أما إنْ بدا عليها التعب فليس باليد حيلة، فالأعلاف قلّت، خصوصاً أن الغزيين الجائعين استخدموها، من بين بدائل عديدة، للخبز العزيز والغائب كلياً عن موائدهم. انظر إليها (الحمير) في الصور الآتية من غزة كل يوم، معاناتها لا تخفى، قوائمها، هزالها، الأعباء الملقاة على كاهلها، من أين يأتي أبو صابر بكل هذا الصبر! إذا كانت هذه الكائنات العنيدة، الجبارة، المثابرة، قد ضعفت إلى هذا الحد، فكيف هو حال الغزيين المتبقين على قيد التنفس!

حمار المسيح

 رغم هذه الأحوال القيامية ستجد أن هناك من بين الغزيين من يبتكر فريقاً حمل اسم «ملاذ آمن للحمير» في غزة أنشأ «عيادات على جانب الطريق، لتوفير الإغاثة للحمير والخيول التي تعاني من جروح مروّعة بسبب اللجام، بالإضافة إلى الإصابات الناجمة عن الصواريخ والقنابل».  بل إن الفريق أطلق نداءات للتبرع لإنقاذ حياة وحماية حمير غزة، وليس في ذلك أي ترف أو ادعاء، فهم يؤكدون أن «هذه الحمير هي الخيط الأخير الذي يربط الناس بالخدمات الأساسية التي يحتاجون إليها بشدة»، و»عندما نساعدهم، فإننا لا ننقذ حياةً فحسب، بل نحافظ على رابطٍ مقدسٍ بين البشر والحيوانات. نحن نبقي الأمل حيًا».
هذا هو الرابط الذي أنشأه السيد المسيح عندما أصرّ على ركوب حمار في دخوله إلى القدس. أراده رمز تواضع وسلام، في مواجهة خيول المحاربين والملوك.

انظر إليها في الصور الآتية من غزة كل يوم، معاناتها لا تخفى، قوائمها، هزالها، الأعباء الملقاة على كاهلها، من أين يأتي أبو صابر بكل هذا الصبر!

تعذّب طويلاً حمارُ المسيح في غزة، مع الغزيين المحاصرين، والمطرودين أبداً، والذي زُجّ في مواجهة الميركافا والمسيّرات الإسرائيلية. مواجهة عسيرة وغير متكافئة من الأساس.
لقد آن لها حقاً أن تستريح، أن تعود إلى وظيفتها الأولى؛ نقل الماء والحطب في الدروب الجبلية على مهل، والفلاحة برفقة أغان ريفية حلوة، والنوم في ظلال جدار طيني سميك، وأن تموت، إذا لا بدّ، «كما يموت الميّتون». من دون أن يطالبها أحد بخوض معركة، وكان الراحل الفلسطيني إميل حبيبي، الباقي أبداً في حيفا، قد جعل منها في «المتشائل» رمزاً للبقاء في البلاد بعد نكبة العام 1948، حمير وادي النسناس، ومن الطيرة والطنطورة وعين غزال وإجزم وعين حوض وأم الزينات.. «التي ظلّت سائبة أكثر من سنة.. صينت من العقل، فلم تهاجر».
يطلب أبو هشهش، في مرثيته، الغفران:

«نحن الذين نطلب منك الغفران، فاغفر لنا شقاءك.
واترك لنا نحن أن نحصي قتلانا:
ثلاثة وخمسون ألفاً وستمئة وأربعون رجلاً وامرأة وطفلاً
لا رقم لك بينهم».
لكن غداً، حين تذهب الحرب، لن ينسى الغزيون رفاق الدرب، ربما يفرشون لهم العشب وسعف النخيل. قد يسمّون ساحة باسمهم. ربما يشيدون تمثالاً، وربما أكثر:

«ستُحْسِنُ صُنعاً لو اخترتَ، ياشعبي الحيّ، رمز الحمار البسيط»

على ما يقول شاعرهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثمانية عشر + 14 =