من “متلازمة فيتنام” الى “متلازمة غزة”: “اسرائيل” صغرى منزوعة السلاح! / الياس فاخوري

الياس فاخوري ( الأردن ) – الجمعة 2/5/2025 م …

في منتصف التسعينات من القرن المنصرم، التقيت برجل الاعمال رئيس (احدى) كبريات الشركات الاميركية العالمية (لعلها كانت، حينها، كبري الشركات الاميركية العالمية بالمطلق) .. يهودي الديانة غير صهيوني .. وكان بصحبته أمريكيان اثنان من رؤساء شركات تابعة للمجموعة .. بعد ان فرغنا من مناقشة اعمال المجموعة في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، قادنا الحديث الى الوضع السياسي في المنطقة و”اسرائيل” واتفاقية أوسلو بمضاهاتها كامب ديفيد تحديداً .. كانت نصيحتي ان تقوم “اسرائيل” بتنفيذ القرارين الأمميين 181 و194 (وهما شرط قبول عضوية “اسرائيل” في الأمم المتحدة أصلاً) بصرف النظر عن أوسلو وكامب ديفيد .. ولتُقِم دولتها على مساحة لا تتعدى 54% من مجموع مساحة فلسطين البالغة 27027 كم2 — لا اسرائيل التوراتية، ولا اسرائيل الكبرى او الكبيرة، ولا اسرائيل العظمى او العظيمة، ولا “يهودا والسامرة”، ولا “اسرائيل” المقدسة ولا امريكا المقدسة .. ولِتُعلن إعترافها ب“الجمهورية العربية الفلسطينية” المستقلة على 46 % من مساحة فلسطين التاريخية بعاصمتها القدس الشريف على أساس حل الدولتين والعودة الواحدة (عودة الفلسطينيين المهجرين الى أراضيهم وديارهم) تنفيذاً للقرارين الأمميين 181 و194، ولتبادر لنزع السلاح — وإلّا فالحل بالعودتين والدولة الواحدة!
واليوم اكرر ما قلته حينها من غير خشية او خوف من “تكشيرة يهوه” بكرة النار التي يمسكها من خلال ترسانته النووية والايديولوجيا التي تتقيأ الدم، كضرورة وجودية لبقاء “اسرائيل” .. وبصرف النظر عن
الإصابة بالعمى الايديولوجي والعمى التاريخي، والعمى الاستراتيجي، فقد جاء رد فعل المقاومة ورجال الله في الميدان ليعلن فشل الحروب “الإسرائيلية” كما أكد ذلك طوفان الأقصى على ساعة السابع من اكتوبر/تشرين الاول 2023 .. سقطت الثقة بقدرة الجيش “الاسرائيلي” على الحماية وقد عجز عن التقدم في الحرب البرية ولم يتمكن من الوصول الى الليطاني، وانهارت القبة الحديدية بازدياد عدد صواريخ المقاومة وتوسع دائرتها .. فشل جيش الاحتلال في استعادة الأسرى، وفشل في اعادة مستوطني الشمال وغلاف غزة .. فشل في سحق المقاومة كما في الرهان على التهحير (غزة ولبنان) .. وهكذا يتوقف مستقبل/بقاء “اسرائيل” على تحقيق النصر الحاسم ومشروع المقاومة يتمثل في منع “اسرائيل” من تحقيق النصر الحاسم .. وفي هذا السياق انبعث طوفان الأقصى؛ لم يكن حرب تحرير او استنزاف، بل كان اقرب الى انفجار كبير قَلَبَ الطاولة الإقليمية والدولية واجهض البدء بتنفيذ مشروع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أُعلن في قمّة العشرين (نيودلهي) تحت شعار طريق الهند إلى أوروبا مروراً ببعض دول المنطقة و”إسرائيل” وكان من متطلباته القضاء على المقاومة في غزة ولبنان بحرب مفاجأة استبقتها ساعة السابع من اكتوبر/تشرين الاول 2023!
نعم، “إسرائيل” تخسر حرباً تملك كل الدعم والأدوات اللازمة لربحها! من لا يُدرك أن اسرائيل لا شيء دون أميركا كما أكّد جدعون ليفي على صفحات “هاآرتس”!؟ .. لولا الامدادات الأميركية (وتضاف اليها الامدادات الأوروبية) “لكان علينا أن نقاتل الفلسطينيين بالعصي والحجارة” .. دعم أميركي عسكريّ غير محدود (وصلت قيمته ما يقارب ال100 مليار دولار في الحرب الدائرة على غزة حالياً)، وهذه 5 طائرات ضخمة تصل مؤخراً إلى قاعدة “نيفاتيم” الصهيونية تَغُصُّ بأحدث الأسلحة والذخائر! ولا يخفى ان الإدارة الأميركية – ديموقراطية كانت او جمهورية – تعمل على إنقاذ الكيان، والتشويش على الهزائم المشار اليها اعلاه، بفتح الملف السوري، في محاولة لإشغال الجميع به، إلى حين إنقاذ الكيان من السقوط والانهيار .. ولنعد الان الى ما سبق ان قاله الجنرال أنتوني زيني: مثلما “اسرائيل” هي نقطة قوة أميركية هي نقطة ضعف .. ولا يمكن التغاضي عن تفاقم التدهور الالسرائيلي: الرأي العام، المحاكم والقضاء (على الصعيدين الدولي والداخلي)، المسار الأميركي الاسرائيلي (تكلفة الحرب مع اليمن تساوي تكلفة الحرب مع دولة عظمى)، البنية العسكرية وتداعياتها (الجيش الصهيونيّ، الذي يتعرّض للتفكك في الداخل، والعصيان على الاستمرار في الخدمة، ورفض التجنيد)، وهذه “هاآرتس” تقول ان نتنياهو يتربع على قنبلة موقوتة قد تنفجر فيه في أي لحظة حيث بدأت تُسمع أصوات الاعتراض من ضباط وطياري الاحتياط وتجد صداها وبقوة، داخل المؤسسة العسكرية .. وهذا توماس فريدمان يصفه بـ”الرجل الأكثر بشاعة في التاريخ اليهودي”، كونه يجمع بين الغباء الاستراتيجي والعمى الاستراتيجي .. كما تتحدث التعليقات عن “متلازمة غزة” Ghaza syndrome ، على شاكلة “متلازمة فيتنام” Vietnam syndrome التي اصابت آلاف العسكريين الأميركيين وهي، لا شك، نتاج جيش منهك، وصدمات سيكولوجية .. عداك عن التظاهرات اليومية التي يعتبر المشاركون فيها، أن رئيس الحكومة يربط بقاءه في السلطة ببقاء الرهائن، ولو موتى، في قبضة حماس.
وبعد، الم تبلغ “اسرائيل” و”الليكود” قمة التألق في عهد الثنائي مناحيم بيغن وآرييل شارون!؟ اما الأول فقد انتهى داخل بطانية الصوف بسبب التجربة المريرة في لبنان .. وأما الثاني فقد دخل في غيبوبة ما لبثت أن تحولت الى غيبويبة ابدية. فماذا عن نهاية نتنياهو وقد اغرق وربما غرق في لعبة النار وفي لعبة الدم، دون أن يكون لديه أي تصور لليوم التالي حيث بدا أن العملية العسكرية التي جعلت غزة تتعدى “هيروشيما القرن”، تدور في حلقة مفرغة!؟
اذن من الأفضل “لإسرائيل” وأمريكا (حيث تبيّن أن “اسرائيل” أصبحت عبئاً على الاستعمار الأميركي لا سيما في ظلّ معادلات قوة وقوى عالمية وإقليمية تتشكل الآن) ان تقبل المشروع المقترح في الفقرة الاولى اعلاه [“اسرائيل” صغرى منزوعة السلاح، جنباً الى جنب مع “الجمهورية العربية الفلسطينية” المستقلة على 46 % من مساحة فلسطين التاريخية بعاصمتها القدس الشريف (منزوعة السلاح ايضاً) على أساس حل الدولتين والعودة الواحدة (عودة الفلسطينيين المهجرين الى أراضيهم وديارهم) تنفيذاً للقرارين الأمميين 181 و194].
نعم، “اسرائيل الى زوال” على المستوى الاستراتيجي وقد خَبِرت دولة الكيان أيدي رجال الله وبناته في الميدان وألسِنَةِ ابي عبيدة وابي حمزة وديانا والرفاق .. وهي الان في حال تَرَنُّحٍ تتعثّر من استقرار نسبي مؤقت الى اضطراب مطلق مستدام .. وها هي ساعة السابع من أكتوبر/تشرين الاول 2023 – تُشير لحل العودتين والدولة الواحدة، لا حل الدولتين: لا اغتصاب، لا تهجير، لا لجوء .. ليعد أهل فلسطين – حملة المفاتيح، زُرٌاع التين والزيتون – الى ديارهم، وليعد المغتصبون الى حيث تحدّروا وآباؤهم .. ليعد ميلكوفسكي (نتنياهو) الى بولندا، و”سموتريتش” الى اوكرانيا و”يسرائيل كاتس” الى رومانيا .. حِلّوا عن فلسطين فالسَّاعَةُ مَوْعِدُكمْ “وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ” .. وهذه هي الجنسيات الأصلية الحقيقية لرؤساء وزراء الكيان: ديفيد بن جوريون بولندي، موشيه شاريت أوكراني، إيجال آلون من أصول روسية، جولدا مائير أوكرانية، إسحق رابين من أصول أوكرانية، مناحم بيجين من روسيا البيضاء، إسحاق شامير بولندي، شيمون بيريز بولندي، بنيامين نتنياهو من أصول بولندية، إيهود باراك من ليتوانيا، إيريل شارون بولندي، إيهود أولمرت من أصول روسية ..
ليعد ميلكوفسكي (نتنياهو) لتربية الارانب في بولندا وفقاً لما اوحت به المؤرخة الأميركية آفيفا تشومسكي: “لولانا لعاد زعيم الليكود الى بولندا لتربية الأرانب”!، وليُوَدِّع أستاذه الروحي والسياسي “زئيف جابوتنسكي” في قبره الثاني – وزئيف جابوتنسكي هو رجل “الصهيونية التصحيحية” الذي قال باقتلاع العرب مثلما تقتلع الأرواح الشريرة – ليُودِعَهُ سر الاعتراف المقدس ان “لنهر الأردن حقّاً ضفتين، هذه لنا (نحن العرب فلسطينيين واردنيين)، وتلك أيضاً لنا (نحن العرب اردنيين وفلسطينيين)! انها ساعة السابع من أكتوبر/تشرين الاول 2023 وما بشَّرت به فعلاً تنفيذياً هي التي تدفع ميلكوفسكي (نتنياهو) لنبش قبر تيودور هرتزل، وإلقاءِ عظامه في العراء!
ولتُهْلِك المقاومةُ “القوم المجرمين” الظالمين ليروا حتفهم بشديد بأسها او يهبّوا رْاكضينَ الى حيث اتوا ف”يحى” أهل الأرض المظلومون ويعودوا الى ارضهم مسرورين رافعين أفراحهم وانتصاراتهم عالياً وقد هزموا الاحتلال، وغلبوا الظلم، والقهر .. وقد تجسّد ذلك، كما رأى العالم بأسره، في رحلات الحج الى الديار والدور رغم الدمار في غزة وجنوب لبنان مقابل حوالي مليون صهيوني فَرّوا هرباً عبر مطار بن غوريون، عداك عن الصهيونيين من مستوطني شمال فلسطين الذين مازالوا يراوحون في مهربهم وهم لا يقدمون! وهذه دراسة إسرائيلية جديدة (الجمعة Feb14) تؤكد أن حوالي ربع الإسرائيليين فكروا في مغادرة البلاد خلال العام 2024 نظراً لتردي الأوضاع الأمنية في البلاد اذ باتوا يدركون انه لولا كثافة الامدادات العسكرية الاميركية لانحصرت مهمة اسرائيل في دفن قتلاهم!
باختصار، هو حل الدولتين والعودة الواحدة (تكتيكياً)، وحل العودتين والدولة الواحدة (استراتيجياً)!
الدائم هو الله، ودائم هو الأردن العربي، ودائمة هي فلسطين ..نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون ..
الياس فاخوري
كاتب عربي أردني