سوريا – الأهداف الخَفِيّة للولايات المتحدة / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 17/12/2024 م …
مكانة النفط والغاز في عملية تدمير سوريا
وقّعت سوريا وإيران والعراق – قبل اشتداد الهجمات الإرهابية – اتفاقاً خلال شهر تموز/يوليو 2011 بشأن خط أنابيب ينقل الغاز من حقل ” فارس الجنوبي” الإيراني، وهو الأكبر في العالم، إلى سوريا ثم إلى أوروبا، عبر البحر الأبيض المتوسط، كبديل لخطوط نقل الطاقة التي تسيطر عليها الشركات الأمريكية والأوروبية والتي تمر عبر تركيا، وكان هذا المشروع – الذي بدأت المحادثات بشأنه، قبل سنوات – أحد أسباب الإسْراع في تخريب سوريا، لأنه يُنافس مشروعًا قَطَرِيًّا – تُرْكِيًّا يحظى بمُباركة الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي…
تُمثّل ممَرّات المحروقات وخطوط أنابيب النفط والغاز هدفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة التي عرقلت المشروع الإيراني وفرضت عقوبات، ودعمت المشروع القطري، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، لأن المشروع القَطَرِي ينقل الغاز الطبيعي من قطر إلى البحر الأبيض المتوسط، ثم إلى الأسواق الأوروبية بإشراف شركات النفط “الغربية”، ويباع بالدولار الأمريكي ويستخدم للحفاظ على هيمنة أمريكا على السياسة الأوروبية، ويُشكّل تدمير الإستخبارات الأمريكية – سواء مباشرةً أو بالوكالة – خط السّيْل الشمالي ( نورد ستريم) لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا وأوروبا، مثال صارخ على تمسّك الولايات المتحدة بالهيمنة على سوق المحروقات وإتمام عمليات البيع والشّراء بالدّولار…
لا يدرك معظم الناس مدى تأثير سياسة خط أنابيب الغاز على الأحداث في سوريا، مما جعل ذلك البلد هدفاً للعدوان الأمريكي. لكن منذ عام 1949 وحتى الوقت الحاضر، حاولت أجهزة المخابرات الأمريكية مراراً وتكراراً الإطاحة برئيس الحكومة السورية من أجل الإشراف والسيطرة على خط أنابيب عبر العرب “يهدف إلى ربط حقول النفط السعودية بموانئ لبنان عبر سوريا”. . وقد
لخص روبرت ف. كينيدي اهتمام الولايات المتحدة بنفط “الشرق الأوسط” (بلاد العرب وإيران) منذ عُقُود، في مقال بعنوان “لماذا يرفض العرب وجودنا في سوريا؟” ونشرته مجلة بوليتيكو ( شباط/فبراير 2016 ):
“بدأت وكالة المخابرات المركزية تدخلها النّشط في سوريا سنة 1949، أي بعد مرور عام بالكاد على إنشاء الوكالة، وكان الوطنيون السوريون قد أعلنوا الحرب على النازيين، وطردوا الاستعمار الفرنسي وأنشأوا ديمقراطية علمانية هشة على أساس النموذج الأميركي، ولمَّا تَرَدَّدَ الرئيس السوري المنتخب ديمقراطياً، شُكْرِي الْقُوَتْلِي، خلال شهر آذار/مارس 1949، في الموافقة على خط الأنابيب العابر للدّول العربية، وهو مشروع أمريكي يهدف إلى ربط حقول النفط السعودية بالموانئ اللبنانية عبر سوريا، أصْبَحَ النظام السُّوري الناشئ هذفًا للإستخبارات الأمريكية التي حاولت مِرارًا الإطاحة به وبمن جاء بعده، من أجل الإشراف والسيطرة على خط أنابيب نفط العرب…”، ويَرْوي “تيم وينز”، مُؤَرِّخ وكالة الإستخبارات المركزية، في كتابه “إِرْث الرّماد” إن ردّ وكالة المخابرات المركزية على عدم حماس لبرئيس شُكْرِي القُوتْلِي لمشروع خط الأنابيب الأمريكي، تمثل في تنظيم الوكالة انقلابًا لاستبداله بدكتاتور اختارته المخابرات الأمريكية، وهو محتال مُدان في قضية احتيال، يُدعى حُسْنِي الزَّعِيم، ولكن المواطنين السُّورِيِّين عزلوه بعد أربعة أشهر ونصف من تولّيه الحكم، ولم يجد حسني الزعيم الوقت الكافي لحل البرلمان والموافقة على خط الأنابيب الأميركي…”
هذه عَيِّنات من الدور المهم لسوريا في الخطط الجيوسياسية الأمريكية الحالية للسيطرة على الموارد الحيوية للحفاظ على هيمنة الدولار ولاحتواء النمو الاقتصادي الهائل في الصين، لأن الولايات المتحدة عازمة على السيطرة على الموارد الهائلة للطاقة في الشرق الأوسط للحفاظ على هيمنتها على النظام العالمي، ولما وافق بشّار الأسد على “خط أنابيب الغاز الإسلامي” الذي أقرته روسيا لِيَرْبطَ الجزء الإيراني من حقل الغاز الذي تتقاسمه مع قَطَر، بالموانئ السورية واللبنانية، كبديل للمشروع القَطَرِي لإيصال الغاز إلى السّوق الأوروبية، اتّفقت دُوَيْلات الخليج على الرّد والإستعانة بالولايات المتحدة، وحتى بالكيان الصهيوني، للإطاحة ببشّار الأسد، ومَنْعِ إيران من زيادة نفوذها في المنطقة، وبذلك التَقَتْ مصالح الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والكيان الصّهيوني ومَشْيَخات الخليج، ضدّ إيران وسوريا، وتُشير الوثائق ( برقيات وتقارير سِرِّيّة ) التي تم تسريبها أو تم الإفراج عنها والصادرة عن وكالات الاستخبارات الأمريكية والسعودية والصّهيونية إلى أنه بمجرد أن رفض الأسد خط أنابيب الغاز القطري، تَوَصَّلَ المُخَطِّطُون العَسْكَرِيُّون والاستخباراتيون بسرعة إلى إجماع على إثارة “انتفاضة سُنّية” في سوريا للإطاحة ببشار الأسد الذي رفَضَ التعاون مع الولايات المتحدة وحُلفائها، ووفقا لموقع ويكيليكس، بدأت وكالة المخابرات المركزية في تمويل “جماعات المعارضة” في سوريا، منذ 2009، كوسيلة لتحقيق الهدف المشترك المتمثل في إنجاز خط نقل الغاز من قطر إلى أوروبا، مرورًا بتركيا، وأوْرَد روبرت كينيدي هذه المعلومات في مقاله المذكور ( بوليتيكو شباط/فبراير 2016 ) لتفسي بعض أسباب الحقد الأمريكي والخليجي والتّركي الدّفين ضد بشّار الأسد الذي لم يكن نظامه ثوريا أو حتى تقدّميًّا، ولكنه متمسّك ببعض مقومات السيادة الوطنية، ومتمسّك باستعادة الأراضي السّورية المحتلة…
أثناء العدوان على سوريا، أشرفت الولايات المتحدة على توقيع “اتفاقيات أبراهام” بين أنظمة الخليج والكيان الصهيوني، وهي جزء من المشروع الأمريكي للسيطرة على موارد المنطقة لتتمكّن من المُحافظة على هيمنتها على العالم، ويتضمّن هذا المشروع تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والسعودية ودُوَيْلات الخليج الأُخرى، ومحاصرة إيران، واحتواء الصّين، من خلال إنشاء ممر اقتصادي لِنَقْلِ المنتجات المصنعة من الهند إلى أوروبا، عبر ميناء دُبَي وميناء أشدود وحيفا وخلق التكامل الاقتصادي الذي يدعم التّفوق الأمريكي، من خلال التّحالف مع الهند، ويُحقّق الطموحات الصّهيونية للسيطرة على منطقة تتجاوز ما بين النّيل والفرات…
مُخطّط دولي ضدّ سوريا
كانت قيادة العمليات موجودة بمَقَرّ القيادة العسكرية الأمريكية في قاعدة العديد القطرية، وعلى متن سفن حلف شمال الأطلسي ( ناتو ) في ميناء الإسكندرونة – الذي اقتطعته فرنسا من سوريا ومنحته إلى تركيا – وشاركت قوات النخبة البريطانية SAS في العدوان على سوريا، إلى جانب الوحدات الأمريكية والفرنسية، وتكفلت تركيا ( عضو حلف شمال الأطلسي) بتدريب وتأهيل مجموعات الإرهابيين القادمين من أفغانستان والبوسنة والشيشان وليبيا ودول عربية أخرى، وأقامت الإستخبارات الأمريكية قاعدة للإستعلامات ولتدريب الإرهابيين .
أما الأسلحة فكان يصل معظمها من أوروبا الوسطى ويوغسلافيا السابقة، عبر شبكة دولية بإشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وبتمويل سعودي وخليجي، وتمكن هذا التحالف من إنهاك الدّولة السورية واحتلال حوالي ثُلُثَيْ البلاد، قبل أن تستجيب روسيا، سنة 2015، لطلب النظام السوري بالتدخل بشكل مباشر لدعم الجيش السوري، بينما كانت الولايات المتحدة تتعلّل بمحاربة تنظيم “داعش” لاحتلال مواقع حقول المحروقات والأراضي الخصبة في سوريا، ولدَعْم المليشيات الإنفصالية الكُرْدِيّة، وتمكن تحالف الجَيْشَيْن الروسي والسوري، بدعم من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، من تحرير حوالي ثلاثة أرباع الأراضي السُّورية، التي كانت تحتلها داعش والحركات الإرهابية الأخرى المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية التي عملت بمعية حلفائها – رغم بعض الإختلاف مع تركيا – على إعادة ترتيب صفوف المنظمات الإرهابية، منذ سنة 2016، وأشرفت تركيا على إعداد هيئة تحرير الشام ( التي أصبحت القوة المُهيْمنة في إدلب ) لقيادة الهجوم الواسع الذي انتهى بانهيار النظام والدّولة في سوريا، وتم إعداد هذا الهجوم لمدة فاقت العام، وتم تسليح ميليشيا هيئة تحرير الشام عبر قنوات سرية وتدريبها من قبل قوات خيميك الخاصة التابعة للمخابرات الأوكرانية...
أكّدت الولايات المتحدة إنها ” على اتصال مع المتمردين” عبر تركيا، فيما كان الجيش الصهيوني جاهزًا للإستيلاء على أراضي سورية، وتنفيذ مئات الهجمات الجوية ضد الموانئ والمطارات السورية والقواعد العسكرية ومراكز التدريب ومؤسسات البحث العلمي، فيما أصبحت إيران وروسيا وحركات المقاومة – فضلا عن الشعب السوري – من الخاسرين وقد تفقد روسيا التسهيلات التي كان يحصل عليها أسطولها التجاري والعسكري في ميناء طرطوس، فيما قد تُصبح إيران في مواجهة مباشرة مع الكيان الصّهيوني والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقد تحرمها الولايات المتحدة – التي لا تزال تُسيطر على العراق عسكريا وماليا وسياسيا – من علاقاتها التجارية القوية مع العراق، شريكها الإقتصادي الرئيسي، في حين عزّزت تركيا هيمنتها على شمال سوريا في تكامل مع هيمنة الكيان الصهيوني على جنوب سوريا وعلى منطقة الحدود بين سوريا وفلسطين ولبنان والأردن، بعد القصف المُكثّف المستمر منذ أَسْهُرٍ والذي أدّى إلى شَلَلِ، بل تدمير القدرة العسكرية السورية وإلى احتلال أجزاء من البلاد بُغْيَة ضَمِّهَا في النهاية، وقد تتجاوز تداعيات انهيار النظام في سوريا منطقة “الشرق الأوسط” و “غربي آسيا” لتصل إلى جنوب منطقة القوقاز، حيث عززت تركيا والكيان الصهيوني نفوذهما في أذربيجان التي لها حدود مع إيران ( حيث تُقيم الأقلية الأذرية الإيرانية)، وهي من أكبر مُزَوِّدِي الكيان الصهيوني بالنّفط، وتستخدم الولايات المتحدة والكيان الصهيوني قواعدهما في أذربيجان، وكذلك في إقليم كردستان العراق، للتجسس ولتنفيذ عمليات عسكرية عدوانية داخل أراضي إيران التي قد تزداد المخاطر على حدودها الشمالية بعد الإنتصار الأمريكي التركي الصهيوني في سوريا…
مستقبل ضبابي
ما المُتَوَقّع بعد انهيار النظام وفرار بشار الأسد وأُسْرَتِهِ؟
نجحت الإمبريالية الأمريكية وتركيا والكيان الصهيوني في تحقيق الهدف الأول المتمثل في الإطاحة بالنظام، وإحلال الفوضى مكانه، في سيناريو شبيه بما حصل في بلدان أخرى تم تدمِير جهاز دَوْلتها وتقسيمها على أُسُسٍ طائفية أو أثنية، وتريد الولايات المتحدة تشكيل حكومة ترعى مصالح واشنطن، ولكن البلاد مُدَمّرة واقتصادها مُنهار بعد 13 سنة من الحرب والحصار، وأظهرت تجربة العراق وليبيا والصّومال إن الولايات المتحدة – كما الكيان الصهيوني – تُشرف على التّدمير وتمنع البناء، فيما تحتاج البلاد إلى حكومة وجهاز يُدير شؤون البلاد والمواطنين وإصلاح المباني والطرقات والمرافق وإعادة بناء ما خرّبته الحرب، وتسديد رواتب الموظفين وتوفير الغذاء والدّواء والطّاقة، وتُشير التجارب إن هذا السيناريو يبدو مستبعدا للغاية، لأن مهندسي الفوضى ( بقيادة الولايات المتحدة) خططوا لإغراق البلاد واقتصادها المتعثر، وتكثيف معاناة المواطنين العاديين الذي لم تتم تلبية احتياجاتهم في الدّول النّفطية الغنية التي خربتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ونَصّبت بها “حكومات فاشلة” ( ليبيا والعراق، على سبيل المثال ) وما هذا النظام “الجديد” سوى مجرد أداة لتحقيق المصالح الأجنبية من خلال الاستيلاء على ثروات سوريا الطبيعية، وتوفير ظُرُوف التّوسّع للمشروع الصّهيوني، وتحجيم نفوذ إيران والإلتفاف على الصين…