لكن المشروع.. لم يَمُتْ! / د. زيد حمزة

0 282
لكن المشروع.. لم يَمُتْ!

د. زيد حمزة* ( الأردن ) – الجمعة 1/11/2024 م …
* وزير الصحة الأردني الأسبق …

قبل توضيح العنوان أذكّرُ بأننا توهمنا ذات يوم ان قضية تعريب التعليم الطبي قد حُسمت رسمياً على صعيد الوطن كله منذ كانون الأول ١٩٨٨ في مؤتمر تاريخي عقد في دمشق برعاية جامعة الدول العربية وحضور رؤساء مجلس وزراء الصحة العرب ومجلس وزراء التعليم العالي العرب واتحاد الجامعات العربية واتحاد الاطباء العرب ومدير المكتب الإقليمي لمنطقة شرق البحر المتوسط في منظمة الصحة العالمية، وأُقرّت فيه الخطة الشاملة التي تستغرق عشر سنوات وتبدأ العام التالي ويصاحبها منهاج إلزامي موازٍ طوال السنوات الجامعية بتعليم اللغة الأجنبية ال?اصة بالطب (انجليزية أو فرنسية) لضمان استمرار الاطلاع على الأبحاث الجديدة وما ينشر تباعا في المجلات والدوريات والكتب، لكن ذاك القرار العظيم الذي استقر عميقاً في القلوب بقي حبرا على ورق وكأنه صدر في المريخ!

لقد شرفني بلدي يومئذ بتمثيله في المؤتمر بصحبة استاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي آنذاك، وكنت اول المتحدثين في حفل الافتتاح بصفتي رئيسا لمجلس وزراء الصحة العرب بدورته الثانية عشرة، وقد شرحتُ الاهمية القصوى لاستكمال المشروع بتعليم اللغة الأجنبية «الخاصة» بالطب لأنها تقوّي لدى طلابنا اللغة الإنجليزية التي تعلموها في المدرسة وتوفر لهم إلماما كافيا باللغة اللاتينية لفهم المصطلحات الطبية بدل حفظها صمّاً! وبذلك يُفحَم معارضو التعريب الزاعمون بأنه يؤدي الى عزل أطبائنا عن مصادر المعرفة العالمية.

اما عودتي للكتابة عن هذه القضية التعليمية الوطنية البالغة الأهمية فالفضل فيها للمحاضرة التذكارية القيمة التي القاها الدكتور عزمي محافظة وزير التعليم العالي في حفل افتتاح المؤتمر الدولي التاسع عشر لطب الأطفال قبل أسبوعين، ودعا فيها بقوة لاستخدام العربية في تدريس الطب وقدم سرداً تاريخياً موثقاً عن اول كلية طبية حديثة في الوطن العربي أنشأها في مصر الخديوي محمد علي عام ١٨٤٢، وكانت تدرّس بالعربية بإصرار من عميدها «الفرنسي» كلوت (بيك) اعتماداً على مبدأ تربوي أكاديمي كان بديهياً حتى في ذلك الزمان الغابر، ومفاده ا? استيعاب الطلاب للعلوم يكون باللغة الوطنية أيسر وأجدى وأكثر رسوخا ًفي عقولهم، واستمرت العربية إلى أن ابتليت مصر عام ١٨٨٢ بالاحتلال البريطاني فتحوّل التعليم للإنجليزية، وبالتواطؤ لا بالصدفة تحولت بالمثل الجامعة الاميركية في بيروت إلى تدريس الطب بالإنجليزيّة بعدما كانت كدمشق تدرِّسه منذ تأسيسها بالعربية! ومن ثم سارت على طريق الإذعان للمستعمرين باستخدام لغاتهم جميعُ كليات الطب التي أُنشئت تباعاً في البلاد العربية الاخرى، إلا دمشق التي بقيت على مدى المائة عام المنصرمة صامدة ومصرّة على استعمال اللغة العربية، وا?جدير بالذكر ان وزيرنا الاردني المحاضر تخرج منها طبيبا في عام ١٩٧٧ واستطاع أن يواصل دراسته العليا باللغة الانجليزية في الجامعة الاميركية في بيروت فحصل على الدكتوراه في علم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة عام ١٩٨٤، ولعل محاضرته هذه تكون نقطة انطلاق لمرحلة اخرى من العمل الرسمي الجاد لتحقيق هدف تعريب التعليم الطبي وباقي التخصصات العلمية في جامعات الوطن العربي كلها، سيما وان معظم دول العالم اليوم تفعل ذلك فتدرِّس بلغاتها الوطنية الى جانب لغة اجنبية خاصة، حتى إسرائيل لملمت بقايا العبرية واستخدمتها، وفي إسبانيا التي?تدرس بالإسبانية طبعا يُسمح للمقاطعات باستخدام لغاتها المحلية من اجل تفاهمٍ أفضل مع المرضى، كل هذا وما يزال بعض اطبائنا باستعلاءٍ مؤسف، يتنكرون للغتهم ويتشدقون بإنجليزية عرجاء ربما على قاعدة ابن خلدون (تقليد المغلوب للغالب) او بلغة اليوم نفاقٌ وخنوع للمستعمر الغربي!

ترى، ماذا جرى في مجال التعريب قبل محاضرة عالمنا الفاضل وطوال ثلاثة عقود ونيف بعد مؤتمر دمشق ١٩٨٨؟ لا شيءَ ذا بال في حدود معرفتي مع اني من ناحيتي كأضعف الايمان كنت أتحيًن اي فرصة لأكتب او أحاضر او أتحدث في أي وسيلة إعلامية ليبقى أمل التعريب حياً في الوجدان العربي، إلى أن تأسست في نقابة الاطباء الأردنيين منذ شهور جمعية الاطباء الكتّاب التي كرّمتني برئاستها ووضعتْ على رأس أولوياتها إحياء مشروع التعريب، وتمهيدا لذلك تطوّع النقيب الدكتور زياد الزعبي، وهو كروائي اردني عضوٌ مؤسس فيها، بإجراء اتصالاتِه الرسمية وال?خصية للحصول على وثيقة التعريب التاريخية المغيَبة منذ 1988، وتجاوبت معه الدكتورة هيفاء ابو غزالة الامينة العامة المساعدة في جامعة الدول العربية، ومن أرشيفي الخاص استلَلْتُ وثيقتين اولاهما ((مجلس وزراء الصحة العرب (الجامعة العربية)/ المسيرة والإنجازات ١٩٧٦/ ١٩٨٦)) وثانيتهما ((مجلس وزراء الصحة العرب/ ندوة تعريب التعليم الصحي في الوطن العربي/ الجمهورية العربية السورية-دمشق ٥–٧ كانون الأول١٩٨٨)).

وبعد.. يستحق الأردن شرف بعث المشروع التعريبي من جديد، وكلنا ثقه بان وزيره عزمي المحافظة قادرُ على هذا الإنجاز التاريخي الكبير.. ونحن معه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

17 − اثنان =