من غزة إلى بيروت 2023/2024 / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 2/10/2024 م …
لم تنقطع المناوشات وإطلاق النار واغتيال مسؤولي المنظمات الفلسطينية في لبنان ومسؤولي حزب الله، منذ انطلاق العدوان الصهيوني الأخير (تشرين الأول/اكتوبر 2023)، بل شكّلت الإغتيالات رُكْنًا من أركان الإيديولوجيا الإستعمارية الصّهيونية، غير إن تفخيخ وتفجير أجهزة الاستدعاء والاتصال اللاسلكي كانت بمثابة المؤشِّر على التّصعيد والقصف الجنوني للمباني السّكنية والمحلات التجارية والمستشفيات والمدارس والجسور والطرقات وقَتْل الآلاف وتهجير عشرات أو مئات الآلاف من أحيائهم وقُراهم، في مشاهد تُذَكِّرُنا بالنّكبة، وبما يحدث في غزة منذ حوالي 12 شهرًا، وقبل تكثيف العدوان على الشعب اللبناني والأراضي اللبنانية، ظل حزب الله – على مدى حوالي العام – يقوم بعمليات محدودة ضدّ أهداف عسكرية صهيونية، مُطالبًا بوقف العدوان على غزة، لكن الكيان الصهيوني بادر بالسّعْيِ إلى التّصْعِيد، وقتل ما لا يقل عن سبعمائة مواطن لبناني، معظمهم من النساء والأطفال، وجرح الآلاف خلال أسبوع واحد…
تُعدّ الفقرات الموالية محاولة لتّأكيد اندماج العدو الصهيوني في المشاريع الإمبريالية، مما يُعَلِّلُ الدّعم المُطلق الذي يحظى به من قِبَل الإمبريالية – بزعامة الولايات المتحدة – والأنظمة العربية، أو معظمها، في ظل ضُعْف ردّ الفعل الجماهيري العربي والأجنبي، وتخلِّي إيران عن حُلفائها الرئيسيين في المشرق العربي، حفاظًا على الأمن القومي الإيراني.
التخريب والإغتيالات جزء من هوية الكيان الصهيوني
تَعلّل الكيان الصهيوني، في بداية تكثيف عمليات الدّمار والإبادة ب”القضاء على حماس وإطلاق سراح الرهائن”، وقَتَلَ أكثر من خمسين ألف شخص ، من بينهم حوالي عشرين ألف طفل، وأكثر من مائة ألف جريح، توفي معظمهم بسبب تدمير المستشفيات واستهداف الأطباء والعاملين بمحال الرعاية الصّحّية، وحَظْر دخول الأدوية والغذاء، فضلا عن عدم توفر المياه النّقِيّة، وعمل العدو على استهداف الصحافيين الذين ينقلون للعالم صورةً – ولو جُزْئِيّةً – عن حجم وفداحة الإبادة والدّمار، ثم توسّع العدوان ليشمل تكثيف القتل في الضّفّة الغربية ( حوالي ألف ضحية، وستة آلاف جريح، حتى نهاية آب/أغسطس 2024) والإعتقالات وتجريف الأراضي والإستيلاء عليها وتهجير الفلسطينيين لإعادة هيكلة الضفة الغربية وتكثيف الإستيطان بها، لأن الهدف الرئيسي للحركة الصهيونية، منذ القرن التاسع عشر هو طرد الفلسطينيين من بلادهم واستبدالهم بمستوطنين يهود من مائة جنسية، وارتفعت حدّة التّصعيد لتشمل اغتيال دبلوماسيين وعناصر الحرس الثوري الإيراني في قنصلية إيران بدمشق، واغتيال إسماعيل هنية في طهران، فضلا عن الإنفجار الغامض لطائرة الرئيس الإيراني ومساعديه وقصف ميناء الحدَيْدَة باليمن، قبل التّصعيد غير المسبوق في لبنان…
أظْهر العدوان الحالي بشكل جَلِي لجيل من الشباب الأمريكي والأوروبي، طبيعة الكيان الصهيوني، الذي تُشكّل الجريمة أساسًا لمشروعه الإستعماري الإستيطاني، وتتمثل هذه الجريمة (أو الجرائم) في الإبادة الجماعية المنهجية والإستيلاء على الأرض وتهجير النّاجين من القَتْل، وإلقاء الفوسفور الأبيض واستخدام الأسلحة الأشد فَتْكًا، كما أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة (خلافًا لمجلس الأمن) والمحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدّولية التابعة للأمم المتحدة هذه الجرائم، وأمرت باعتقال بعض رُمُوز الحكومة الصهيونية، لكن الكيان الصهيوني يتمتع بالدّعم الأمريكي والأوروبي، مما يمكّنه من الإفلات من العقاب، بل تتهم السلطات الأوروبية والأمريكية من ينتقد الجرائم الصهيونية ب”معاداة السامية”، ولذلك تمكّن رئيس حكومة العدو من السفر ولقاء الزعماء السياسيين الأمريكيين و”الغربيين”، وإلقاء خطاب بالأمم المتحدة، للدفاع عن جرائم الإبادة التي مَيّزت المشروع الصهيوني منذ أكثر من قَرْن، فالكيان الصهيوني يحظى بالدعم السياسي والعسكري والإعلامي والمالي من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مما شجّعَه على توسيع العدوان وتفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة الاتصال اللاسلكي يومي 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024، ثم الهواتف المحمولة وبعض التجهيزات الأخرى التي تحولت من رمز للتطور التقني إلى أدوات قَتل عشوائي لأكثر من سبعمائة مواطن لبناني (وبعض المواطنين الأجانب) خلال أربعة أيام، وإصابة الآلاف بجروح خطيرة، ممن كانوا في مكان قريب، ولا علاقة لبعضهم أو لجميعهم بحزب الله ولا بحماس، ثم تمادى التّصعيد بدعم صريح ومباشر وقوِي من الولايات المتحدة ومن الإتحاد الأوروبي (بدرجة أقَلَّ وضوحًا) ومن المنظمات الصهيونية في العالم، لتدمير المجموعات السّكنية في بيروت والمُدُن اللبنانية، واغتيال الأمين العام لحزب الله (حسن نصر الله) والعديد من العناصر القيادية، وبذلك يُصِرُّ الكيان الصّهيوني على تذكيرنا بإيديولوجيته الإستعمارية القائمة على القتل والتّدمير الشّامل كتكتيك مفضل، يَرْمي ترهيبَ القاصي والدّاني…
استهداف القاعدة الشّعبية للمقاومة
تهدف كافة القوى الإستعمارية إلى إقناع النّاس بأن النضال أو المقاومة السّلمية منها (كالإضراب) أو المُسلّحة تنعكس وبالاً عليهم، من خلال الرّد العنيف لأرباب العمل الذين تدعمهم الشرطة والمليشيات المُسلّحة أو الرّدّ الأشدّ عُنْفًا لأي قوة احتلال – استعمار تقليدي أو استعمار استيطاني – بهدف “تجفيف الدّعم” وإرهاب القاعدة الشعبية التي تدعم المُقاومة ( أي من لم يُمارسوا العُنف ) وحصل ذلك في الجزائر وفي فيتنام وفي مدغشقر (1947) وفي كل البلدان التي خضعت للإستعمار، كما حصل ذلك القمع الوحشي ضد قواعد النقابات والأحزاب ( إندونيسيا وماليزيا سنة 1965 وتشيلي سنة 1973 وبوليفيا سنة 2019… ) وهو ما يريد الكيان الصهيوني تحقيقه للقضاء على الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية أو اللُّبْنانية، وتهجير أكبر عدد ممكن من المواطنين، من خلال التّدمير الشّامل لكافة مُقوّمات الحياة وللمساكن وللبنية التحتية والمستشفيات والمدارس والأسواق، وبعد تدمير غزة وتشريد أهْلِها وبعد إنهاك المقاومة في الضّفّة الغربية، بدعم من سلطة أُوسلو، فَتَحَ الكيان الصّهيوني جبهة لبنان لاستكمال عملية التّدمير وإخلاء الأرض في جنوب لبنان، لأن الكيان الصهيوني (أو فرنسا في الجزائر أو الولايات المتحدة في فيتنام) يُدْرِكُ عدم قُدْرَتِهِ على خلق قاعدة شعبية تُؤَيِّدُهُ في فلسطين أو في لبنان، وبذلك يستكمل الإحتلال إنجاز ما مَنَعَتْهُ المُقاوَمَة اللبنانية من تحقيقه سنة 2006، ويمكن اعتبار كل هذه الخطوات استكمالاً لأحداث النّكبة، سنة 1948، ويكمن الفارق في وجود مُقاومة مُسلّحة مُنظّمة حاليا، خلافًا للوضع خلال النّكبة، لذا يريد الكيان الصّهيوني التّخلّص من هذه المقاومة، اعتمادًا على السّلاح الأمريكي وكذلك على التكنولوجيا التي تطوّرت كثيرًا بين 1948 و 2024 وتَطَوَّر استخدامها في الحُرُوب لتتَحول التقنية من أداة لتحسين ظروف عيش البشر إلى سلاح مُدَمِّر، لا يُفَرِّقُ بين مُقاتل ومُتَسَوِّق ومريض وطالب، بين صغير أو كبير الخ، وهو ما جرّبه الكيان الصّهيوني على نطاق واسع في لبنان، بدعم مُطلق من الإمبريالية ومن العديد من الأنظمة العربية، بزعامة السعودية والإمارات…
يمكن اعتبار العدوان الحالي على لبنان ( 2024) بمثابة استكمال لعدوان 1982 وعدوان 2006، بهدف تهجير من يدعم المقاومة والشباب وترهيب من لا يُهاجر، من خلال تهجيره داخليا عدّة مرات لكي لا يتمكّن من الإستقرار، ولو في ظروف سيئة، وهو ما تمت تجربته كذلك في غزة، حيث يتم تهجير النّاس ثم قصفهم في أي ملجَأ جديد…
الذّرائع
استخدم الإستعمار التقليدي ذرائع واهية لتبرير احتلال البلدان، مثل إهانة سفير أو رَفْع الصّوت بحضور ممثل حكومة أوروبية وغير ذلك، في حين يُعتبر الإستعمار جزءًا من مخطّطات التّوسّع التجاري أو غزو أسواق جديدة بعد السيطرة على السوق الدّاخلية، أو السّطو على الموارد، وتُشير الوقائع التاريخية إلى وجود مخطّطات قومية أو متعدّدة الأطراف، مثل مؤتمر برلين لتقاسم المُستعمَرات وإعادة توزيع مناطق الهيمنة – ومنها المشرق العربي، وخصوصًا الشّام – بين بريطانيا وفرنسا، بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدّولة العُثْمانية وألمانيا، وتعلّلت الولايات المتحدة بتفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001 لتحتل أفغانستان، دون أي حجة تُبَرهن ضلوع أي طرف أفغاني في هذه التفجيرات، ثم احتلت العراق بذريعة وجود أسلحة دمار شامل، لم يتم إثبات وجودها، وتذرع الكيان الصهيوني، سنة 1982، بمحاولة اغتيال سفيره في لندن لاحتلال لبنان، إلى أن أصبح الهدف حاليا “اجتثاث حماس” أو حزب الله، دون أن يتردّد الجيش الصهيوني في قتل آلاف المواطنين وتدمير كافة مقومات الحياة، وتفتخر حكومة العدو وإعلامه بتدمير العمارات السّكنية بمن فيها من أجل اغتيال شخص واحد أو بضعة أشخاص، ويعتَبِر الإعلام الأوروبي والأمريكي أعمال التخريب والقتل من مؤشرات الحضارة والدّيمقراطية التي يريد المستوطنون الصهاينة تركيزها فأسّسُوا ما اعتبره الإستعمار “الديمقراطية الوحيدة” في منطقة العرب الهمج المتخلفين، إذ تعتبر القوى الإمبرياليةُ، الكيانَ الصهيونيَّ جُزْءًا منها، وهي مُحِقّةٌ في ذلك، فلا علاقة للكيان الصهيوني ومستوطنيه بفلسطين أو بالمشرق العربي أو بالبحر الأبيض المتوسط…
سياسة الإغتيالات الفردية والقتل الجماعي
لم تنطلق عمليات الإغتيال – وهي عمليات إجرامية – بإسماعيل هنِيّة أو حسن نصر الله، بل اغتالت الحركة الصهيونية – سنة تأسيس دولة الإحتلال – مبعوث الأمم المتحدة الكونت “فولك برنادوت” ( 1895 – 1948) والعشرات من الفلسطينيين والعرب في لبنان وتونس وسوريا، وبالأخص في البلدان الأوروبية بتواطؤ من مخابرات فرنسا وألمانيا وبريطانيا والإستخبارات الأمريكية وغيرها، ونَفّذ العديد من رؤساء حكومات كيان الإحتلال هذه الجرائم، مثل ميناحيم بيغن وإيهود باراك، وجَرّبت المخابرات الصهيونية تفخيخ وسائل الإتصال، منذ سنة 1996، حيث تم اغتيال يحي عَيّاش عبر تفجير هاتفه المحمول، واقتفت المخابرات الصهيونية أَثَرَ العديد من قادة المقاومة من خلال قَرْصَنَة هواتفهم أو حواسيبهم…
لم يستهدف الإرهاب الصهيوني قادة وعناصر حركات المقاومة فقط، لأن الدّمار والقتل يستهدف الأراضي العربية والمواطنين العرب (فلسطينيين ولبنانيين وسوريين ويمنيين وتونسيين وعراقيين…) من غير المُنْتَمِين لحزب الله أو حماس أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو أنصار الله أو غيرها من حركات المقاومة، ويُشكل العُزّل، من غير حاملي السّلاح، النسبة الأكبر من ضحايا العدوان الصهيوني الذي قتل في لبنان مئات الأشخاص وأَصابَ ثلاثة أو أربعة أضعافهم خلال حوالي 24 ساعة، وقُتِلَ حوالي سبعمائة خلال أسبوع واحد، خلال غارات جوية ليلية على العديد من المباني والجسور والطرقات في مناطق عديدة، منها العاصمة بيروت، لأن العنف العشوائي يُعتَبَرُ من التكتيكات المفضلة لمُصَمِّمِي الإرهاب الصهيوني، وأدّت الغارات الجوية إلى نزوح حوالي مليون شخص، ويدّعي الكيان الصهيوني، ويدّعي معه حُكّام الولايات المتحدة وأوروبا وإعلامها إن الغارات استهدفت مقرات ومخازن الأسلحة التابعة لحزب الله، وأظْهرت بعض الوثائق الصهيونية القديمة والجديدة، إن الإرهاب جزء من المشروع الصهيوني، بشهادة رئيس حكومته موشيه شتريت التي وردت في كتاب بعنوان “الإرهاب المقدس في إسرائيل: دراسة مبنية على مذكرات موشيه شاريت الشخصية ووثائق أخرى”، من تأليف ليفيا روكاتش، ابنة وزير الداخلية الأسبق “إسرائيل روكاتش”، وصدرت النسخة الإنغليزية من الكتاب سنة 1980، وتعلّم موشيه شتريت مبادئ الإرهاب من سَلَفِهِ ديفيد بن غوريون، أحد مؤسسي الكيان وأول رئيس وزراء، مباشرة قبل شتريت الذي كتب مذكراته سنة 1955… وإمعانًا في الإستفزاز ودعم سياسة الإغتيالات والقتل العشوائي، أعلن كافة المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين (باستثناء قلة قليلة التزمت الصّمت) تأييد “حق إسرائيل في الدّفاع عن النّفس” لتبرير إرسال عشرات المليارات من الدولارات والأسلحة المتطورة فضلا عن الدّعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي…
الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني – مصالح وأهداف مشتركة
كان هذا العدوان فرصة لارتقاء وعي عشرات الآلاف من الشباب والنقابيين والمناضلين الأمريكيين والأوروبيين الذين أدِرَكُوا طبيعة (أو بعض جوانب ) الكيان الصهيوني وما يُسمّى “المجتمع الدولي” والمنظمات غير الحكومية التي يعلو صراخها عندما يتعلق الأمر بكوبا أو فنزويلا أو الصين أو روسيا، ويغيب صوتها وبياناتها تمامًا عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصّهيوني، أو بقادة الدّول الإمبريالية الذي باركوا المجازر في فلسطين ولبنان، بل عبّر العديد من مُحرِّري الصحف الأوروبية والأمريكية عن إعجابهم ب”الإنجاز التكنولوجي” الذي حققه الكيان الصهيوني ( تفجير الأجهزة الإلكترونية ذات الإستخدام الواسع)، متجاهلين – أو مؤيدين – دعم الولايات المتحدة التي ضَخّت عشرات المليارات من الدّولارات وسلّمت الجيش الصّهيوني أطنانًا من الأسلحة لتنفيذ عمليات الإبادة المُستمرة منذ عام كامل، ضدّ الفلسطينيين المُحاصَرِين منذ 18 سنة، وسخّرت الولايات المتحدة إمكانياتها العسكرية والسياسية والإعلامية والدّبلوماسية لتيْسِير تنفيذ المجازر ولتبرير قتل النساء والأطفال ( الذين يُشكلون الأغلبية الساحقة للضحايا في فلسطين ولبنان) بغطاء “الدّفاع عن النفس”، ضد شعوب مُحاصَرة، لا تمتلك المال والسّلاح الذي تتبرع به الولايات المتحدة أو ألمانيا والإتحاد الأوروبي، دون إغْفال السلاح الإعلامي، حيث لم تُخْفِ معظم الصّحف الأمريكية والأوروبية والأسترالية ( وكذلك القنوات الإعلامية الخليجية) دعمها للكيان الصهيوني، وتجاهلت عدد وطبيعة الضحايا المدنيين والأطفال والنساء، وأكّدَت افتتاحية الصحيفة السُّوَيْديّة اليومية “سفينسكا داغبلاديت”: “حرب إسرائيل هي حربنا أيضاً”، ويُبَرِّرُ مُحَرّر الإفتتاحية عدم اهتمام الكيان الصهيوني بالقانون الدّولي وبقواعد الحرب، لأنها قد تعيق تنفيذ عمليات التّدمير والمذابح التي استهدفت أجهزة الإتصال والحواسيب والأجهزة المنزلية والألواح الشّمسية والعاملين في قطاع الصّحّة والإغاثة، والعاملين والمَرْضى في المستشفيات والبائعين والمتسوقين في المتاجر والأسواق والمُدرِّسين والطلاب في مؤسسات التعليم وغيرهم من أفراد الشعب اللبناني واللاجئين الفلسطينيين والسّوريين، فيما يدّعي الإعلام الإمبريالي: إنها حرب بين “إسرائيل وحماس”، أو بين “إسرائيل وحزب الله”، لأن الكيان الصهيوني اغتصب الأرض وهجَّر أصحابها من السّكّان الأصليين، تمامًا مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويحاول هذا الإعلام بث الرسالة الإستعمارية التقليدية، فالكيان الصهيوني – حسب هذه الرواية الإستعمارية – “لا يشن حربًا ضد السكان، بل دائمًا ضد الإرهاب والجماعات المسلحة، مثل حماس وحزب الله”.
إن ما عاشه اللبنانيون – وقَبْلَهُم الفلسطينيّون- منذ عُقُود، وخصوصًا منذ يَوْمَيْ 17 و18 أيلول/سبتمبر 2024، هو إرهاب دولة وإرهاب سياسي وعسكري بدعمٍ من الحكومات الأمريكية والأوروبية ومعظم الأنظمة العربية، ويكمن الخطر في استخدام الأنظمة السياسية أو الحكوماتُ واستخباراتُها هواتفَ وحواسيبَ المُعارضين لها لاغتيالهم، بدعم مِمّن يَدّعُون الدّفاع عن، بل وفَرْض “سيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان”، فيما يرفُضُ “حُماة الدّيمقراطية” من أعضاء حلف شمال الأطلسي ومجموعة السّبع وغيرهم نتائج تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن اللاجئين أو بشأن رفع الحصار عن كوبا أو “إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في غضون اثني عشر شهرا” (وإن كانت عبارة “الأراضي الفلسطينية” لا تعني سوى جزء من فلسطين) وترفض تطبيق قرار محكمة العدل الدولية (التي قضت، خلال شهر تموز/يوليو 2024، بأن “الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني”)، وأمرت نفس المحكمة “الدول الأعضاء من الآن فصاعدا بالتوقف عن توريد الأسلحة إلى إسرائيل واستيراد المنتجات من مستعمراتها.” أما وسائل الإعلام الغربية ( وكذلك بعض محطات التلفزيون المَمْلُوكة للسعودية والإمارات) فيمكن اعتبارها مُشارِكَة وبالتالي مسؤولة عن دورها في تبرير، بل تمجيد الإبادة الجماعية للعرب، عمومًا والفلسطينيين واللبنانيين والسّوريين بشكل أدَقّ…
منذ عدوان حزيران/يونيو 1967 وفي ذروة العدوان الأمريكي على فيتنام (إن لم يكن قبل ذلك)، اتّضحت معالم الشراكة الإستراتيجية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة التي أصبحت المُزَوِّد الرئيسي للأسلحة لقوات الاحتلال، والحليف الدبلوماسي الرئيسي في المنظمات الدّولية، والداعم الرئيسي لاقتصاد الإحتلال، ومكنت الولايات المتحدة حلفاءها الصهاينة من التّغلغل في أمريكا الجنوبية، وتدريب شرطة وجيوش العديد من البلدان الواقعة تحت هيمنة الإمبريالية الأمريكية، وتبادل الخبرات في قمع الشّعوب الأصلية والحركات الشعبية، فضلا عن التعاون الوثيق وتبادل المعلومات والخبرات والخَدَمات بين وكالات الإستخبارات الأمريكية والصهيونية.
يُمثل الكيان الصهيوني قوة إسناد وهجوم لدعم مصالح الولايات المتحدة التي تهيمن على منابع النفط وعلى المَمَرّات المائية والتجارية في المشرق العربي، من خلال القواعد العسكرية وكذلك من خلال احتكار الشركات الأمريكية لبعض القطاعات ومن خلال ربط سعر النفط بالدّولار، وتُراعي الإمبريالية الأمريكية، وتدعم المصالح الخاصة للكيان الصهيوني، فيما يُؤدّي الجيش الصهيوني (المُسَلَّح أمريكيا) دور الحليف المُستعد لقمع أي حركة تحرير أو أي دولة تحاول بسط السيادة على أراضيها وثرواتها (مثل إيران)، وفي ظل هذا الوضع تُصبح أي حركة للتحرر من الهيمنة الإمبريالية تُمثّل تهديدًا للمصالح الأمريكية كما للمشروع الصّهيوني، ونظرًا لما سَبَقَ ذكْرُهُ فإن الكيان الصهيوني يستشير أو يستأذن الولايات المتحدة قبل القيام بأي عملية مهمة في المنطقة، رغم بعض المناوشات والخلافات الثانوية…
في المجال العسكري، يُطبّق زعماء الكيان الصّهيوني عقيدة الهجوم المستمر وكذلك بعض “أحكام” العقيدة العسكرية الأمريكية لتبرير العدوان المُستمر على الشعب الفلسطيني، كما على سوريا وعلى أرض وشعب لبنان، وتتمثل هذه العقيدة في ادّعاء الحاجة إلى “التّصعيد من أجل التّهْدِئَة” أي إشعال فتيل “الحرب الإستباقية” أو المبادرة بالهجوم “لخَفْض التّصعيد من خلال زيادة التّصعيد”، لدَرْءِ خَطَرٍ مُحتَمَل، أي غير مُؤَكّد، وهي نظرية وممارسة امبريالية أمريكية لتبرير الحُرُوب العدوانية وقصف المناطق الحَضَرِية المأهولة بالسّكّان بذريعة “ملاحقة المنظمات الإرهابية بشكل وقائي”، ويعني “خفض التّصعيد” في لغة الدّبلوماسية الأمريكية (والصهيونية) “تكثيف الصراع من خلال التهديدات القسرية، بما في ذلك التهديد بالإستخدام النووي المحدود ( أو استخدام قنابل نووية صغيرة)، بطريقة تجبر الجانب الآخر على الإستسلام أو على إنهاء الصّراع بشروط مواتية للطرف المبادِر بالتصعيد”، ويتم بذلك تحويل مسؤولية التّصعيد إلى الخصم الذي يجب أن يتنازل، وفق ما ورد في وثيقة تُلخّص محتوى جلسات استماع لمناقشة السياسة الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي بين سني 2015 و 2017، ويُشكّل العدوان الصهيوني المُستمر – بدعم امبريالي غير مسبوق – منذ سنة كاملة تكتيكا جديدًا “لإدارة الصّراع” وتوسيع نطاق الحرب الإقليمية بفتح عدّة جبهات في نفس الوقت ( وهو ما تتردّد الإمبريالية الأمريكية في الإقدام عليه بخصوص فتح جبهة ضد روسيا بواسطة أوكرانيا وجبهة أخرى ضد الصين بواسطة تايوان)، ولذا فإن العدوان الصهيوني يُعتَبَرُ مُختبرًا لأشكال جديدة من الحروب العدوانية التي تهدف تحقيق الإستسلام الكامل وغير المَشْرُوط للخصوم تحت التّهديد بتشديد التّصعيد وقتل السُّكّان المدنيين وتدمير البُنْيَة التحتية والمنازل والمُستشفيات والمدارس والأسواق والمحلات التجارية، وجميع مُقوّمات الحياة…
تُشارك الإمبريالية في العدوان بشكل مُباشر، بالدّعم السياسي والدّبلوماسي ( الإعتراض في مجلس الأمن على أي قرار يُدِين الكيان الصهيوني ) والإعلامي والعسكري بالأسلحة الأكثر فَتْكًا وتجلَّى الدّعم الأمريكي في حجم الدّعم المالي والعسكري، وفي إرسال المزيد من السفن الحربية والطائرات المقاتلة إلى مُحيط فلسطين ( البحر الأبيض المتوسّط والبحر الأحمر) وتأكيد الرئيس الأمريكي ونائبَتِه – مُرشحة الحزب الديمقراطي لانتخابات 2024 – وَوُزَرائه على “حق إسرائيل في الدّفاع عن نفسها”، فيما اعتبر “فولكر تورك”، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان “إن تفجير آلاف الأجهزة الإلكترونية عن بُعْد عملٌ يَهْدفُ إثارة أثار الخوف والذعر والرعب على نطاق واسع بين الناس في لبنان”، وحصلت هذه التفجيرات في ذكرى مذبحة مُخَيَّمَيْ صبرا وشاتيلا للاّجئين الفلسطينيين (مع فقراء لبنانيين) في بيروت، (16 و 17 أيلول/سبتمبر 1982) حيث غزا الجيش الصهيوني المُخيّمَيْن وحاصرهما لتتمكّن مليشيات “الكتائب” و “الجبهة اللّبنانية” بزعامة سمير جعجع وبشير جميل وإيلي حبيقة من ذبح الآلاف، معظمهم من النساء والأطفال، بإشراف الجيش الصهيوني الذي اكتسب خبرةً كبيرة في تدمير الأحياء وملاجئ الأمم المتحدة ( قصف “قانا” مَرّتَيْن في جنوب لبنان) والقُرى وارتكاب المجازر والإغتيالات بما فيها اغتيال ممثلي الأمم المتحدة، بتغطية امبريالية تحت ستار ” الدّفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب”…
انْتَهَكَ الكيان الصهيوني، منذ منحته الأمم المتحدة حق احتلال فلسطين، وحتى قبل تأسيس دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين، كافة القواعد – ولا غرابة في ذلك فهو مَبْنِيٌّ على التّدمير والقَتْل – ومنها اغتيال المُثقّفين والفنّانين والزّعماء السّياسيين، الفلسطينيين والعرب، والمُتضامنين مع الشعب الفلسطيني، وإن كانوا أمريكيي الجنسية (مثل راشيل كوري) ونفّذ الكيان الصّهيوني عددًا لا يُحْصَى من “الإعدامات خارج إطار القضاء” – بلغة حقوق الإنسان والقانون الدّولي – وآخرها اغتيال الزعيم السياسي لحركة حماس على أرض دولة مستقلة، ذات سيادة، وعدد من قيادات حزب الله والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانتهاك سيادة الدّول من تونس إلى العراق، وحتى إيران (حيث تم اغتيال إسماعيل هنية)، فيما يستهدف حزب الله الثكنات والمواقع العسكرية الصهيونية ويتجنب استهداف التّجمّعات السّكنية والمستشفيات والمدارس في فلسطين المحتلة…
خاتمة
قاد حزب الله، إلى جانب حركة أنصار الله في اليمن، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2024، جبهة الدّعم لفلسطِينِيِّي غزّة، عبر تنفيذ عمليات عسكرية استهدفت المواقع العسكرية شمال فلسطين، وأظْهر العدو إنه طَوَّر قدراته اللوجيستية والإستخباراتية واستخدام التكنولوجيا، وأصبح يتعمّد توسيع مجال الحرب وقتل أكبر عدد ممكن من العرب: الفلسطينيين واللبنانيين واليمنِيِّين والسُّوِيِّين، وخصوصًا قادة المقاومة، بدعم من الولايات المتحدة وأوروبا ومعظم الأنظمة العربية، وأدّت هذه العوامل ( تطوّر قدرات العدو والدّعم المُطلق ) إلى تغيير في موازين القوى، مما جَعَل إيران تمتنع عن الرّدّ الجدِّي إثر قصف قنصليتها في سوريا وإثر اغتيال إسماعيل هنية في عاصمتها، لأن لإيران مخطّطاتها وأهدافها الخاصّة كدولة قومية لها مطامح إقليمية، تواجه الإمبريالية الأمريكية، ليس لأسباب مَبْدَئِيّة وإنما لأن الولايات المتحدة تريد أن يكون الكيان الصهيوني وأن يبقى القوة الإقليمية المُهَيْمِنَة في المنطقة، على حساب تركيا – عضو حلف شمال الأطلسي – وإيران، ولذلك لن تدعم إيران أي دولة أو أي حركة أو منظمة لا تخدم طموحها الإقليمي، بل يمكنها التّخلِّي عن حُلفائها إذا تحققت مصالحها القومية، ولا يمكن لأحد غير الفلسطينيين والعرب تحرير فلسطين وإعادة اللاجئين إلى وطنهم ووضع حدّ للإحتلال، وليس مطلوبا من إيران، ولا من غيرها، تحرير سوريا أو لبنان أو اليمن أو فلسطين، فهي مهمتنا كعرب، في المقام الأول، ويَنْحَصِرُ دَوْرُ “الأصدقاء” و “الحُلفاء” في الدّعم بمختلف أشكاله…
يُمثّل حسن نصر الله قائدًا استثنائيًّا، وتمكّن حزب الله، تحت قيادته، من توسيع قاعدة الدّعم إلى غير الشيعة وغير المسلمين وإلى غير اللبنانيين، وتمكّن من إرغام العدو على الإنسحاب من لبنان (أيار/مايو 2000)، وهي المرة الأولى التي ينسحب فيها العدو من منطقة كان يحتلها لأكثر من 15 سنة، بدون مفاوضات ولا شُرُوط أو تنازلات من الطرف المُقابل، لكن الظروف الحالية تختلف عن ظروف سنة 2000 أو 2006 حيث أصبحت المقاومة اللبنانية والفلسطينية تواجه تحديات غير مسبوقة، في ظل انخرام ميزان القوى على الصّعيد الدّولي، وتزايد عدد الخونة بَيْننا، إذْ لعبت الأنظمة الرّجعية العربية، وخصوصًا السعودية والإمارات دورًا مهمًا في مساعدة الكيان الصهيوني، من خلال تبادل المعلومات معه ومع الولايات المتحدة، وتسمح حكومات السعودية والعراق للطائرات العسكرية الأمريكية بالتزود بالوقود وبالبقاء في مجالها الجوي لجَمْع المعلومات ولتنفيذ عمليات التجسس ودعم الدوريات الأمريكية والهجمات الصهيونية…
اختارت إيران الرّدّ الرّمزي، وغير الحازم، على اغتيال قائد الحرس الثوري قاسم سليماني ( 1957 – 2020 ) أو على استهداف قنصليتها في دمشق واغتيال ما لا يقل عن سبعة جنود من الحرس الثوري، وردّت إيران بواسطة طائرات بدون طيار، تم التّعرّف عليها وإسقاطها قبل وصولها، بفعل المسافة الطويلة الفاصلة بين إيران وفلسطين المحتلة، وهي مساحة تضم عشرات القواعد العسكرية الأمريكية، ولم تطلب إيران من حزب الله أو أنصار الله أو حماس أو من حلفائها في العراق، الانضمام إلى هجومها الرّمزي وغير الجِدِّي الذي تم تصميمه لمجرد “إنقاذ ماء الوَجْه”، وكان بمثابة المُقدّمةً لإعلان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: “أصبح الأمر منتهيا ولا يوجد حاليًا أي تخطيط لعمل عسكري آخر”، في إشارة إلى رغبة النظام الإيراني في تَجَنُّب حرب مع الكيان الصهيوني (الذي لا يشن حربًا بدون موافقة ومساعدة الإمبريالية الأمريكية) لأن الهدف الرئيسي لإيران يتمثل في تعزيز نفوذها في المنطقة، لتكون في وضع يسمح لها بضمان مصالحها الإقليمية في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة، الملتزمة على مدى طويل بدعم الكيان الصّهيوني من خلال تزويده بالمعلومات والسلاح والمعدات العسكرية لتنفيذ التدمير والإبادة الجماعية وقصف اليمن ولبنان وسوريا، وتنفيذ الاغتيالات في جميع أنحاء المنطقة، وتصعيد الإستفزازات والعمليات العسكرية ضد إيران…
أقامت الولايات المتحدة جسرًا جويا لإرسال الأسلحة والعتاد إلى الكيان الصهيوني لإنقاذه من الهزيمة خلال حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973، لبضعة أسابيع، ولكن العدوان الحالي مستمر منذ سنة، وتوسّع خارج فلسطين ليشمل عدة بلدان، من إيران إلى لبنان، بدعم من الولايات المتحدة التي أرسلت خلال عشرة أشهر ( من منتصف تشرين الأول/اكتوبر 2023 إلى منتصف آب/أغسطس 2024 ) نحو خمسمائة طائرة و 120 سفينة شحن وخمسين ألف طنًّا من الأسلحة وخمسين ألف قذيفة مدفعية ومعدّات أخرى وذخائر وصواريخ، لكي يستمر العدوان ويتوسّع خدمةً للأهداف الأمريكية والصهيونية المُشتركة، ولمنع انهيار اقتصاد الكيان الصهيوني، رغم توقف 46 ألف شركة صهيونية (خصوصًا الشركات الصغيرة) عن العمل، خلال تسعة أشهر ( من تشرين الأول/اكتوبر 2023 إلى نهاية حزيران/يونيو 2024)، وهجرة ما لا يقل عن نصف مليون مستوطن صهيوني، بشكل مُؤقّت أو دائم، وفق صحيفة معاريف بتاريخ العاشر من تموز/يوليو 2024 .
لا نمتلك تَرَفَ طرح أي تساؤل حول وجوب أو عدم وجوب المقاومة في الوضع الراهن، بذريعة “ارتفاع الثّمن”، كما يقول أعداء الدّاخل، بل وجب طرح التساؤلات حول وسائل وأساليب المقاومة الملائمة للوضع والتّكَيُّف مع الأوضاع الجديدة لتصعيد المقاومة، والتخطيط على مدى بعيد، دون إهمال الوضع المعيشي اليومي للكادحين والفقراء في كل بلد عربي، وتفعيل دور الشعوب والجماهير العربية كحاضنة شعبية لمقاومة الإمبريالية والصّهيونية والأنظمة العربية المُتَواطئة، ومضاعفة الجهود لكَسْب وتجنيد الأصدقاء في كل مكان من العالم…