غزة والكذب والتدليس الأمريكي!! / سماك العبوشي
سماك العبوشي ( العراق ) – الخميس 12/9/2024 م …
“الكذب والتدليس” هذا لعمري أقل ما يمكن أن توصَف به ما يصدر عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وعلى رأسها رئيسها جو بايدن، فالخداع والتدليس والكذب أمست من سمات السياسة الأمريكية بامتياز وبلا منازع!!
لطالما صدّع مسؤولو الحكومة الأميركية رؤوسنا ببياناتهم وتصريحاتهم، عن سعيهم الحثيث والجاد لإنهاء العدوان على غزة وتبنيهم لفكرة إقامة الدولتين، في وقت نراهم يمدون العدو الإسرائيلي بشتى أنواع أسلحة الفتك والتدمير والإبادة، حتى فاق عدد شهداء غزة أكثر من 41000 شهيد نصفهم أو أكثر من النساء والأطفال والكهول، عدا عن عدد الجرحى والمصابين الذي فاق 100000 مصاب وجريح، ولطالما ادعت الحكومة الأمريكية إنها ضد ما يجري في غزة من موت مدنيين وتجويعهم، وتدمير مستشفيات غزة ومدارسها، وأنها تعارض إلقاء الأسلحة الفتاكة الشيطانية العشوائية على رؤوس أبناء غزة، لكنها وللأسف الشديد تعاني من أزمة أخلاقية مع قصر نظر وسوء تدبر، فهي لا ترى تعارضاً بين قيامها بإمداد الكيان الإسرائيلي بكل ما يسمح له بارتكاب جرائمه، ومنعها العالم من جانب آخر من إيقاف الحرب، وبين مجازر الابادة الجماعية الجارية في غزة منذ أكثر من أحد عشر شهرا!!.
وصدق من قال فأصاب: “إن لم تستح فاصنع ما شئت”، وأضيف إلى قوله هذا، بل وصرح بما شئت ولو كذبا وتدليسا ورياءً!!
إنها الانتقائية في السياسة الامريكية، يقابله ويصاحبه انتفاء التفوق الأخلاقي الأمريكي الذي تدعيه على الدوام، وسأضرب لكم مثالين يتناقض بينهما الموقف الأمريكي بشكل صارخ ومؤسف، يتمثلان بما يحدث في أوكرانيا وما يحدث في غزة وكالتالي:
أولا …ففي المثال الاوكراني، نرى الولايات المتحدة الامريكية وهي تروج وتدعو الى احترام قوانين الحرب هناك، وشجبها للفضائع التي تجري في المشهد الاوكراني على يد القوات الروسية!!
ثانيا …أما في المثال الفلسطيني وتحديدا فيما يخص غزة، فإننا رأينا ولمسنا تجنب الإدارة الأمريكية انتقاد واقع الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، كما ولم نر تطبيقها لقواعد وضوابط المساعدة الامريكية العسكرية الممنوحة للدول، بل وتظاهرت بأن لا رأي لها بشأن الفظائع التي ترتكبها حكومة إسرائيل هناك!!
والحديث عن الانتقائية في السياسة الأمريكية حديث ذو شجون، والأنكى والأسوأ ما في هذا الحديث من شجون، ذاك الذي يتعلق بالأنظمة والقوانين التي يشرعونها بأنفسهم، ثم يتم تطبيقها وفق أمزجتهم ومصالحهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فـ “قانون ليهي” هو قانون يلزم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بعدم تمويل أي قوات أجنبية يتم التأكد من تورطها في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، والقانون عبارة عن بندين أحدهما ينطبق على وزارة الخارجية والآخر على وزارة الدفاع (البنتاغون)، والذي صدر رسميا لأول مرة عام 1997 باعتباره حَكَمًا قانونيا في الخارجية الأميركية، وأدرج الكونغرس الأمريكي عام 1999 البند المتعلق بوزارة الدفاع ضمن قانون المخصصات السنوية الخاص به، علما أن هذا القانون قد سمي على اسم السيناتور المتقاعد (باتريك ليهي) من ولاية فيرمونت.
يهدف “قانون ليهي” للتحقق من أن أي دولة أجنبية يقع عليها خيار الحصول على المساعدات الأميركية بما فيها العسكرية واللوجستية والأسلحة القتالية التي تُصَدّرُها البلاد للخارج عن طريق سفارات الولايات المتحدة في العالم، لا تنتهك حقوق الإنسان ولا تخالف القانون الدولي، ولا ترتكب جرائم يعاقب عليها القانون الدولي، كما ويتطلب من المسؤولين الأمريكان تقييم ما يفعله متلقي المساعدات العسكرية الأمريكية بالأسلحة المقدمة إليه وكيف وأين وطريقة استخدامها لها، علما أن ما يسمى بـ “قانون ليهي” كان قد حظر توجيه المساعدات العسكرية الامريكية إلى وحدات محددة ارتكبت انتهاكات حقوقية جسيمة، ومنعت توجيه تلك المساعدات العسكرية الى قوات الامن المنتهكة في هندوراس، والنيبال، ونيجريا!!!
ولكن…!!
ماذا عن “قانون ليهي” الأمريكي والانتهاكات الجسيمة التي تجري في غزة!!
ذاك سؤال أجاب عنه (جوش بول)، الذي عمل في “مكتب الشؤون السياسية والعسكرية” في وزارة الخارجية لأكثر من 11 عاما حتى استقالته احتجاجا على الحرب في غزة الخريف الماضي، فقد أوضح بأن قانون ليهي “معطل” عندما يتعلق الأمر بإسرائيل تحديدا، وبرغم أن موظفي المكتب حددوا “عديدا” من الانتهاكات من جانب إسرائيل، إلا أن بول أكد في مقابلة في برنامج “ساعة الأخبار من بي بي إس” أنهم لا يستطيعون الحصول على “موافقة رفيعة المستوى!!” على تلك القرارات، حيث تنظر مجموعة عمل شُكلت في وزارة الخارجية وأطلق عليها اسم “منتدى التدقيق في احترام قوانين ليهي من قبل إسرائيل” في مزاعم الانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، وأن نتائجها ليست ملزمة للوزارة باعتبار أنها مجموعة غير رسمية من الموظفين!!
أرأيتم بالله عليكم حجم التدليس وسعة النفاق في التعامل الامريكي وطريقة تنفيذها لقوانينها وأنظمتها التي تشرعها إذا ما طبقت بحق دولة الاحتلال!!
ولم يقتصر الأمر على ازدواجية معاييرهم في تطبيق “قانون ليهي”، بل تعدى ذلك ووصل إلى عدم اكتراثهم لمقتل مواطنيهم وحاملي جنسياتهم (الأمريكية) على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأن دماء وأرواح (مواطنيهم الأمريكان) رخيصة جدا ما دام من قتلهم وأزهق أرواحهم هي قوات الاحتلال الإسرائيلي، فسرعان ما ينسونهم ويطوون صفحاتهم!!
أتذكرون:
1- الإعلامية شيرين أبو عاقلة.. مراسلة الجزيرة التي اغتيلت برصاصة إسرائيلية في 11 مايو/ أيار 2022، أثناء تغطيتها الهجوم الإسرائيلي على جنين.
فبرغم الإدانة الدولية لاغتيال قوات الاحتلال الإسرائيلي لها، وما صدر عن شبكة “سي أن أن” (CNN) في تحقيقها بظروف مقتلها، حيث جمعت أدلة تؤكد أن الجيش الإسرائيلي استهدف مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في جنين، وأن تحليل آثار الرصاص في الشجرة التي احتمت بها شيرين يدل على أنه تم استهدافها عمدا لاغتيالها، علاوة أن التحقيق قد أشار إلى “عدم وجود مسلحين أو مواجهات مسلحة قرب شيرين أبو عاقلة خلال اللحظات التي سبقت قتلها… وأنها قد استهدفت من قبل القوات الإسرائيلية”!!، إلا أن واشنطن أعلنت في 4 يوليو/تموز 2022 أن منسق الأمن الأميركي قد خلص بعد الاطلاع على تحقيقين منفصلين أجراهما الجيش الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، بالإضافة للتحليل الجنائي – ورغم اعترافه بأن شيرين أبو عاقلة قتلت على الأرجح بإطلاق نار من موقع الجيش الإسرائيلي، كما قالت الخارجية الأميركية-، إلا أن منسق الأمن الأمريكي بدأ بسوق التبريرات والأعذار حول ظروف مقتلها، وأنه لم يجد أي سبب للاعتقاد بأن مقتل شيرين كان متعمدا، واصفا إياه بأنه كان “نتيجة لظروف مأساوية خلال عملية عسكرية”، وفق تعبيرها!!
وهكذا تم طي صفحة اغتيالها، وذهبت دماؤها سدى، دون أن تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2022 وحتى ساعة كتابتي لهذا المقال أي إجراء يطال قوات الاحتلال، بل بالعكس، فإنها زادت من حجم مساعداتها العسكرية لدولة الاحتلال أثناء عدوان الأخيرة الوحشي على غزة!!
2- استشهاد المتضامنة (الأميركية) من أصول تركية عائشة نور إزغي أيغي (26 عاما)، بتاريخ 6 أيلول 2024، والتي تطوعت ضمن حملة “فزعة” لدعم وحماية المزارعين الفلسطينيين من انتهاكات الاحتلال والمستوطنين، حيث أصيبت برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء مشاركتها في المسيرة الاحتجاجية الأسبوعية المناهضة للاستيطان في محيط جبل صبيح ببلدة بيتا جنوب نابلس!!
لقد اكتفت الخارجية الأميركية بإصدار بيان قالت فيه إنها “على علم بمقتل المواطنة الأميركية بالضفة الغربية، وبصدد جمع مزيد من المعلومات عن الملابسات“!!، وكذلك، قال السفير الأميركي لدى إسرائيل جاك لو “نعمل على جمع مزيد من المعلومات بشأن ظروف وفاة المواطنة الأميركية في الضفة”!!
نقول للحكومة الامريكية، لا داعي للاستعجال بجمع الأدلة والبراهين على اغتيال (المواطنة الامريكية) في نابلس على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، فالأمر معروف لنا سلفا، فمادام الجاني هو إسرائيلي، فلن يُدان على جريمته حتى وإن كان الضحية القتيل (أمريكي الجنسية)!!!
وأخيرا وليس آخرا …
واستكمالا لعرض مسلسل التدليس والكذب والخداع الأمريكي، فإننا لو تمعنا النظر بالتصريحات التي أدلى بها الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن طيلة فترة العدوان الإسرائيلي على غزة والى وقت قريب بشأن موقفي إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية حماس تجاه المفاوضات التي ترعاها، فإننا سنلحظ بما لا يقبل الشك بأن واشنطن طرف غير نزيه، فهي تلقي التهم جزافا وتدعي أن حماس تتراجع عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وأنها تتراجع عن خطة الهدنة المطروحة مع إسرائيل، في وقت بات الجميع يدرك حقيقة أن تصريحات بايدن وبلينكن تأتي في إطار الانحياز الأميركي التام للاحتلال الإسرائيلي والشراكة في العدوان وحرب الإبادة الجماعية بحق أهالي غزة، ولعل ما يؤكد ذاك الانحياز الأمريكي لإسرائيل ما نراه ونسمعه عبر شاشات التلفاز والقنوات الفضائية من إضرابات شعبية ينفذها آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في شوارع تل أبيب والقدس متهمة النتن ياهو بالكذب والسعي لتعطيل وإجهاض إبرام صفقة تبادل الأسرى، ومطالبة بإتمامها وإسقاط الحكومة، بما يدحض تماما ويكشف زيف الرواية الامريكية التي تلقي مسؤولية تعطيل إبرام الصفقة على حماس تحديدا!!
قال تعالى في وصف هؤلاء:
“هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ”…(الشعراء:221-223).
وقال تعالى في سورة إبراهيم، الآية 42:
“ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ”.
سماك العبوشي
العراق 12 أيلول 2024