سيرة شهداء مقاومين: “خميني عيناثا”، “ملاك كونين” و”مصنع الجبّين” / مهدي عقيل

295

مهدي عقيل –  الخميس 22/2/2024 م …

كثيرة هي القصص التي يتداولها أهل المقاومة في لبنان عن الشهداء الذين يسقطون في الحرب التي تدور رحاها على أرض الجنوب اللبناني منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023.. وهذه بعض نماذجها، تبعاً لروايات الأهالي ومنصات “السوشيل ميديا”. محمد باقر بسام، الملقب بـ”خميني”، إبن بلدة عيناثا الجنوبية، عشية استشهاده يوم الإثنين الفائت في بلدة مارون الراس، لم يتمنّ الشهادة وحسب، بين جمع من رفاقه، بل أرادها بأن لا تُبقي منه أي أثر، ويبقى مجهول القبر، على غرار سيدته فاطمة الزهراء، إبنة النبي محمد. إنما زاد على سيدته التي لها قبر لكنّه غير معروف المكان، لإلتزم زوجها الإمام علي بن أبي طالب بوصيتها، فتم دفنها ليلاً حتى لا يتعرّف أحد على قبرها. فيما “خميني عيناثا” الترابي لا قبر له أبداً، وهو الذي يروي عنه رفاقه حكايات عن تأثره بالطرق الصوفية. تفاعل هذا الموضوع كثيراً على مواقع التواصل، واندهش رفاقه بهذه المكانة التي حظي بها، حتى عاتبه أحدهم، لماذا “لم تقل لنا ماهية علاقتك بالسيدة الزهراء؟” وناشده مجازاً “قل لي ماذا قلت لفاطمة حتى صرت مفقود الأثر مثلها”، وسأله “بأي روحية كنت تحضر مجالس عزاء أبنائها؟”. ولم تنتهِ قصة “خميني عيناثا” هنا، وقد نُقل عن رفيقه وإبن بلدته عبد الكريم محمد علي سمحات، بأن محمد باقر بسام اختار أحد القبور الجاهزة في جبانة عيناثا، لكن بعد أن تحقّقت أمنيته ولم يبقَ من جسده أي أثر لدفنه في القبر المذكور، شاء القدر أن يملأ القبر نفسه رفيقه عبد الكريم سمحات (“جعفر”) الذي استشهد بعد ثلاثة أيام من تاريخ استشهاد رفيقه. ولسان حال رفاق الشهيدين “جعفر” و”خميني عيناثا”، أن سمحات “لبّى النداء”، وكأنه يقول لرفيقه “لن يبقى الضريح خالياً يا صاحبي أكثر من ذلك، وها قد لحقت بركبك بعد ثلاثة أيام، ليسكن جسدي المتشظّي في القبر الذي ظنّ أهل الأرض أنه لك وكان يعلم أهل السماء أنه لي”. ولعل الصورة الأكثر تعبيراً في مأتم سمحات أن صورته ورفيقه محمد بسام قد تقدمت مسيرة التشييع، بحضور العائلتين، وتردّد أن والد “خميني عيناثا” تمنى على المقاومين ألا يخاطروا بالبحث عن ما بقي من آثار جثمان ولده حتى لا تتعرض حياة أي مقاوم للخطر في الخطوط الأمامية.. برغم الحسرة على الضريح المعلق في تربة الشهداء في عيناثا. “روح الله”.. ملاك في سرير! الشهيد إبراهيم علي الدبق، الملقب بـ”روح الله”، ابن بلدة كونين الجنوبية، أبى أن يموت قلبه وكبده وإحدى كليتيه، فلم يكتفِ بالشهادة وحسب، إنما أوصى بالتبرع بكل ما يصلح من أعضائه (لم يشترط التبرع لأحد من لون طائفي أو مذهبي معين). وشاء القدر بأن يستشهد بعد عدة أيام من سقوطه جريحاً في الميدان، مما سمح في استئصال قلبه وزرعه في جسد آخر، وكبده وكليته على طريق الزرع أيضاً. لكنّ السر ليس هنا، إنما في الشعور الذي عاشه الطبيب محمد صعب أثناء عملية الإستصال والزرع في مستشفى الرسول الأعظم في بيروت، والتي تكلّلت بالنجاح. ومن جملة ما كتبه صعب “أنا في المهنة منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. رأيتُ اليوم ملاكاً في سَرير، رأيت الإنسانية كلّها على السَّرير، ولستُ ماهراً بعد اليوم إلا في البكاء.. وقفت والطاقم الطبي تسع ساعاتٍ متواصلة على أعتاب العشق، رأس إبراهيم متوقّفٌ عن العمل، وفي الوصيَّة قد خطَّ أن يتبرَّع ويتبرع..”، وأضاف الطبيب “أمامه لم نكن نحن الأطباء، كان هو الذي يصنعنا سِراً، كان هو من يُعطينا الحياة، لم نكن نحن من نُطبِّب”. وختم صعب “تسع ساعات في جنة غرفة العمليات، 10 ساعات، 11 ساعة، لم أعد أحسب حساباً للزمن، لم أرِد أن أخبرَ أحداً، لكنَّ السرَّ السماوي يجب أن يُذاع”. “أبو عقيل”.. التحق بعمه وشقيقيه حسين أحمد عقيل، الملقب بـ”أبو عقيل”، من بلدة الجبين الجنوبية، من عائلة امتهنت مقاومة العدو منذ زمن بعيد، ولم تلتفت تحت أي راية تقاتل، كل ما يعنيها بأن تكون فلسطين قضيتها. في العام 1978، استشهد محمد عقيل عم الشهيد (شقيق والده) في مواجهة العدو الإسرائيلي، وكان من أوائل الشهداء الذين قضوا قي القتال ضد إسرائيل. وعام 1997، إبان حقبة الشريط الحدودي المحتل (قبل التحرير في العام 2000)، كانت العائلة على موعد مع شهادة إبنها البكر علي، الذي قضى في عملية للمقاومة (أمل) في خراج بلدة طيرحرفا، واستولى العدو على جثمانه، قبل أن يُستعاد ضمن صفقة تبادل أشلاء جنود العدو في عميلة أنصارية في العام التالي، وكان من بين الجثامين المستعادة جثمان نجل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الشهيد هادي. وللمصادفة فإن أحد أشقائه كان يُنفذ عملية استطلاع لحزب الله في نفس البقعة، وقام بمساندة مقاتلي “أمل” من دون أن يعلم بأن شقيقه من ضمنهم. إقرأ على موقع 180  تفاقم حالات التحرش الجنسي في جيش إسرائيل وفي حرب تموز 2006، استقبلت العائلة شهيدها الثاني، حسن، في خراج بلدته، وهو يتصدّى على رأس مجموعة من حزب الله، لإحدى هجمات جيش العدو على أطراف البلدة. شهادة شقيقين لم تمنع أحمد من تكملة المسير، حتى استشهد أول من أمس على الحافة الجنوبية في منطقة اللبونة قرب الناقورة، ولم يبقَ في العائلة سوى شاب واحد، إلتفّت من حوله العائلة، أثناء تشييعه شقيقه، تقبيلاً وشمّاً لرائحته، والعيون شاخصة إليه، وكأن لسان الأقارب يُردّدون، “دفعنا ما يكفي من أثمان بكل فخر وإيمان، لكن لم يبقَ في العائلة من يُضمّد جراحها إلّاك”. هي عائلة مجبولة في العمل المقاوم. أبٌ وأمٌ محتسبان، لم ينبتا ببنت شفة سوى بعبارة “الحمد الله.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون”، واللافت للإنتباه أن الشهداء الأخوة قضوا في بقعة واحدة لا يتعدى قطرها الخمسة كيلومترات، من خراج بلدة طيرحرفا، حيث استشهد علي، مروراً في خراج بلدة الجبين، مكان استشهاد حسن، وصولاً إلى الحافة الحدودية حيث قضى حسين. وهذا ما يؤكد ما تطرق إليه السيد حسن نصرالله، في خطابه ما قبل الأخير، بأن أهل الجنوب هم من يدافعون عن بلداتهم. والجدير ذكره أن عائلة عقيل لديها ما يماثلها في الجبين، إذ أن عائلة سامي مسلماني قدّمت أيضاً ثلاثة شهداء على مذبح المقاومة، وما زالت على استعداد لتقديم المزيد، من دون أن ننسى شهيد البلدة وقناة “الميادين”، حسين عقيل، قريب الشهيد “أبو عقيل”، حتى أن هناك من يُردّد بأن بلدة الجبين أحد أبرز مقالع الشهداء والمقاومين. الجنوبيون بالفطرة مقاومون. ورثوا أرض عاملة التي مرّ عليها أبو ذر الغفاري على ذمة التاريخ، وقال فيها “جبل عامل ما أرادك جبّارٌ بسوء، إلّا وقصم الله ظهره نصفين” أو “جبل عامل، ما دخلك غازياً واستقر”.

التعليقات مغلقة.