من ذاكرة الفتى المقتول / قاسم حداد

427

قاسم حداد ( البحرين ) – الخميس 8/2/2024 م …

كنتُ صبياً في نهاية العشرة الثانية من العمر، يغمس يده في الإسمنت الأخضر، تتلطّخ رقبته بالإسمنت. كمن يريد أن يصنع تمثالاً لنفسه. يسأله الأب ألا يتأخر يوماً عن العمل. (فإذا لم تشتغل منذ الآن لن تنال حقك). لم يكن الصبي يدرك الحق الذي يشير إليه الأب. لكنه حين يعود في المساء مزخرفاً بالطين والعرق ويكاد أن يسقط من التعب، يحنو عليه الأب، ويسرد عليه مشاعر الرقيق التي كانت تنتابه عندما ذهبَ للعمل في «زكريت» في قطر الأربعينيات من القرن العشرين، باحثاُ عن لقمة العيش للعائلة. «كان سقط البحر، مثل الصحراء، من الثعابين والشمس لا يرحم، والبحر كان هو غذائنا الوحيد. لم يكن لنا مفرٌ من جزيرة الفولاذ المنصوبة في عرض البحر. كأننا لم نفارق الغوص أبداً. بحرٌ ثقيل تكاد تجاعيده تنطوي علينا واحداً بعد الآخر. ومن يسقط أثناء العمل في البحر لا يجد فرصة للنجاة، حيث أسماك القرش تنتظر هناك جائعة وتحرس العمل من فرار العبيد. وها أنت تريد أن تخبرني عن التعب».

٭ ٭ ٭

الاعتقال الأول
دفعته يد قوية من ظهره بقوة رمته على أرض المكان.. وصفقوا خلفه الباب المشغول من حديد قديم وخشب جديد، وبذل جهداً لكي يفتح عينيه في الظلمة. ظلمة كثيفة تكاد تطبق على جفنيه مثل رماد رطب بارد. سحب جسده المضروب حتى أقرب جدار، اسند ظهره عليه، فلسعته برودة عرف منها أن ثمة قميصا مفقودا ترك جسده عارياً. لمس بأصابعه ركبتيه فغطست في لزوجة دم متخثّر تقريباً. فعندما تذكر آخر اللطمات التي فجرت صوتاً وألماً عميقين في أذنه اليمنى، ترك أعضاءه لما يشبه الانهيار، لكي تأخذ أقصى ما يمكنها من الارتخاء العضلي، استباقاً لما يمكن توقعه لاحقاً.
تناوب على جسده ثلاثة أشخاص، يوجهون له أسئلة بالأيدي والأدوات، وهو يستعرض لهم كل الأجوبة التي يتوقعونها، دون أن يختاروا شيئاً منها. قالوا إنهم يبحثون عن الحقيقة، فأخبرهم إنه هو أيضاً يبحث عنها. غير أن الظلمة سوف تَحول دون العثور على أي حقيقة يشتهي أن يتوصل إليها الإنسان. لكنهم اعتبروا ذلك دعابة ليست في مكانها، فشعر بكل أشجار الغابات وسعف النخل وأحجار الجبال وحديد المناجم وأمواج البحر ومخالب الجوارح وحوافر الوحوش وأنياب الضواري، تستفرد به وتتناوب عليه، تتبادل جسده شلواً شلواً. تصرخ به الجدران وتصيح فيه الأبواب والنوافذ. وهو ساهمٌ سادرٌ وغير موجود. فقد استحوذت عليه جنيّة سَلَبتْ روحه وطارتْ به تجوبُ غرفاً في صدور أصدقاء له في القرى والمدن، يشهقون مع قلبه ويعضدون روحه ليقدر الجسد على التجربة. واستذكر في برق العذاب أصدقاء التجربة في خريطة العرب، عبد اللطيف في الرباط وسميح في فلسطين والحضراني في تعز وسعدي في بغداد.
يؤرجح أصفاده في يديه كمن يعزف أغنيته المفضلة.. يمشي في حديد ثقيل، ويزعم لأطفاله أن للحرية طعما لا تعرفه إلا النفوس الحرة، وإذا صادفَ أن استعاد بعضهم هذا الجسد بعض الوقت، فإن حرية طاغية في داخلي تمنحني الثقة بأن كل هذا زائل، وأن الحرية إذا لم تكن من نصيبي الآن، فإن أولادي أو أولادهم سينالونها.
المصادفات الأسطورية هي التي جعلتني حَداداً. لكن ثقوا جيداً بأنني لم أصنع قيداً طوال حياتي، ربما لأنني جرّبته، وعرفت عذابه ومعناه. هل تسمعون معي إيقاع هذه الأصفاد، إذن اصغوا إليها جيداً.

٭ ٭ ٭

كن مستحيلاً يحمل الرايات
كن يوماً على ليل الطريق
وكن فريقاً يستعير اللون من أعلامنا
لا تنحني في قوس باب النصر
هذا نصرهم
ينتصرون عليك
يا مستحيلاً في الهزيمة
كن غنيمةً من جملة الأسلاب
باب النصر لا يسع الغريب
فيا غريب البيت
يا بيت الغريب
جيوش الروم تنتظر القياصرة الطغاة
فكن نجاة البيت من كابوسه
من يأسه الدموي
كن مستحيلاً يرفع الرايات في ليل الطغاة
كن لي نجاةً،
مثلما الآيات، مثل النجم،
قرآناً لديك.

التعليقات مغلقة.