الاغتراب والضغوط النفسية على الإنسان المعاصر / فواد الكنجي

376

فواد الكنجي ( العراق ) – الخميس 8/2/2024 م …

الضغوط النفسية التي يتعرض لها (الإنسان المعاصر) نتيجة متغيرات الواقع.. وطغيان قيم المادة.. والصناعة الرأسمالية وفلسفتها الليبرالية الراديكالية التي عولمت العالم بهذه القيم عبر تطورات التكنولوجية الهائلة والخاطفة والمتلاحقة؛ والتي أثرت تأثيرا مباشرا على مختلف أنماط الحياة الاجتماعية.. والاقتصادية.. وحتى السياسية؛ وكل ذلك صب تعقيدها على كل معطيات هذا العصر؛ ليكون تأثيرها الأكبر على حياة (الإنسان المعاصر) ليصيب بالكثير من الاضطرابات والمشاكل الاجتماعية والنفسية التي أخذته إلى دائرة الانغلاق النفسي بالعزلة.. والضياع.. والوحدة.. وفقدان الهوية؛ بعد إن فقد الأمان.. والحب.. والوفاء.. والعاطفة؛ في جو ملئه متناقضات؛ فطغى على إحساسه ومشاعره (مشاعر الاغتراب)؛ بما أدى بشعور الفرد بالاضطراب.. والقلق.. وعدم الانتماء.. وفقدان الثقة.. ورفض القيم والمعايير الاجتماعية؛ ليصيب بحالة من برود وتبلد مشاعره اتجاه نفسه واتجاه الآخرين بدا بمحيط أسرته وانتهاءا بحلقات محيطه الاجتماعي .

 

الاتصالات والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي سببت برود المشاعر بين أفراد الأسرة

 

وهذه المتغيرات – في ثورة الاتصالات والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي – والتي تحدث في محيط (الفرد) تنعكس سلبا على سلوكه فيحاول بقدر الإمكان الهروب من هذا الواقع؛ لشعوره المتواصل بـ(الاغتراب) لعدم تمكنه من التواصل والتفاعل مع الآخرين بشكل مباشر رغم انه يتواصل مع الأخريين عبر مواقع التواصل ولكن بصورة سلكية وليس بشكل مباشر؛ فيلجئ إلى (الانعزال) و(الانطواء) لعدم الثقة بالنفس.. وشعوره الدائم بالنقص.. وعدم التفوق؛ فيصبح شخصية سلبية يصعب التعامل معها بقدر ما يصعب (الفرد) نفسه التعامل مع الآخرين؛ ونتيجة لمصاعب الحياة وتعقيدها وانشغال الكل في تدبير شؤون حياته اليومية؛ فلا (الأب) ولا (الأم) يتمكنان التواصل مع الأبناء؛ و(لا) الأبناء مع أولياء أمورهم؛ والكل نتيجة (ثورة الاتصالات والتكنولوجيا) وانتشار و(سائل التواصل الاجتماعي) من الانترنيت.. والهواتف الذكية.. واللابتوب؛ والكل.. يعكف مع جهازه، وهذا ما يصيب (الفرد) نوع من التراخي وبرود مشاعره في العلاقات الأسرية من المودة.. والتعاطف.. والآلفة.. والمحبة؛ فالكل يواجه قدرة في هذه (المعاصرة) لتضيع وتتحطم أحلامهم.. وطموحاتهم.. وآمالهم؛ لان (الاغتراب) اخذ مأخذه من (الفرد)؛ وهذا ما أدى إلى فقدان الهوية .

 

الضياع احد مظاهر الاستلاب عند الإنسان المعاصر

 

وفي ظل هذه الأزمات التي تعصف بـ(المجتمعات المعاصرة) والتي جلها أزمات ونزعات (اللاعقلانية) و(اللا معقولة) طغت مفاهيمها في الفكر السياسي.. والاجتماعي.. والأخلاقي؛ في (واقع) يشهد تغييرات سريعة على مختلف أصعدة الحياة ومستويات لمعيشية (الفرد)؛ ليكون (الضياع) احد مظاهر الاستلاب عند (الإنسان المعاصر)، ومن هنا جاءت مشكلة (اغتراب الفرد المعاصر) نتيجة البؤس.. والقهر الاجتماعي.. عبر برود مشاعر علاقات (الأفراد) بمحيطهم وبيئتهم الاجتماعية وعدم استطاعتهم الاندماج والتفاعل مع معطيات وجوده الاجتماعي؛ نتيجة تأثرهم الشديد بمظاهر (الصناعة التكنولوجية الحديثة) وما تبثها (العولمة) من فلسفة مرتبطة بمناهج (الرأسمالية) عبر الأجهزة الالكترونية المتطورة على منصاتها المتعددة، فكان التفاعل الاجتماعي والنفسي – والأتي عبر هذه المنصات – تفاعلا مضرا نفسيا واجتماعيا – وإلى ابعد حدود – ساهم في استلاب (الفرد) وضياعه لعدم إمكانيته إيجاد الأنشطة الفكرية في أعماقه لتعبير.. والإبداع.. ومكافأة أنشطنه الفكرية، فأخذته (غربة الذات) لعدم قدرة الذات تحقيق وجودها؛ لتعيش اغترابها؛ بعد إن وجدت (ذات الفرد) بأنها غير قادرة على التأثير الاجتماعي بشكل مباشرا؛ لينجر سلوك الذات (الفرد) باتجاه السلب لكل مواقف الحياة؛ وهذا ما يجعل الفرد (متمردا) ويسعى إلى تحطم المعايير الاجتماعية المنظمة لسلوك الأفراد بما يجره الانفعال الذاتي وتكتيمه في الذات دون إمكانية إفصاح عن مكنونات الذات إلى (الانعزال الذاتي) ليتوسع أمره إلى (الانعزال الاجتماعي) بعد إن يشعر بالعجز بعد إن لا يستطيع مواجهتها لتأثيره الشديد في المواقف الاجتماعية المتذبذبة بفعل ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فيشعر بالعجز لدرجة التي لا يستطيع السيطرة على أفعاله.. وتصرفاته.. ورغباته؛ وبالتالي يأخذه التقهقر؛ لأنه لا يستطيع أن يقرر مصيره؛ لأنه يعجز من إقامة علاقات مع الآخرين وبشكل مباشر وفعال؛ فيطغوا عليه مشاعر الوحدة.. والفراغ النفسي.. فيتقوقع على ذاته دون أن يكون له أهداف وطموحات .

 

الرأسمالية حين تجعل من الفرد جزء من عتلاتها تقطع عنه كل العلاقات الاجتماعية وضميره الإنساني

 

فالفرد بعد إن تسيطر على نفسيته مشاعر سلبية ويفقد الهدف عن وجوده؛ فيتمرد على قيم المجتمع ولا ينصاع لها؛ لان الكراهية والعداء تأخذه لكل ما هو محيط حوله فتنحصر حياته بمحيط عمله لـ(يشيؤ) فيها ويصبح جزء من عتلاتها تدور به كما تدور الآلة الصناعية للقوى الرأسمالية المهيمنة على كل العلاقات الاجتماعية في (العالم) وهو غريب عنها؛ وفي نفس الوقت يعيش فيها – رغم انفه – بعد إن تحطمت كل طموحاته في (وطنه) نتيجة الوعي الذي اكتسبه عبر ثقافة (الليبرالية الراديكالية) والتي تبث فلسفتها عبر (مواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني) ليصطدم (المتلقي– الفرد) بواقع يعاكس كل ما هو بناه في إدراكه (الواقعي وليس الخيالي) بالقيم الأخلاقية.. والفضيلة.. والسمو؛ لدرجة التي افقد أحساسة بـ(الهوية) بعد إن يجد بان كل شيء قد اقتلع من جذوره وفي (ضميره الإنساني) وبأنه لا محال مقتلع؛ حيث لا جذور له؛ لأنه يشعر بان السلوك الاجتماعي يتجه نحو التعصب.. والطبقية.. والعنصرية.. والصراعات سياسية وصناعية.. والاستحواذ.. والتهميش.. وظروف العمل القاسية التي فرضتها (الرأسمالية الصناعية)؛ لدرجة التي مهدت لـ(اغتراب الفرد) نتيجة حرمانه من فرص تحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية التي يسعى لتحقيقها؛ لان (الفرد) يجد نفسه في خضم هذه الآلة الصناعية الرأسمالية (متسيئؤ)، وفي نفس الوقت شخص (مغترب) عن وسائل الإنتاج طالما لا احد يصغي له؛ ولا يستطيع جني ثمرة جهوده وتعبه وبما يشعر باستحقاقه؛ وهذا ما يعزز في (ذات الفرد) مشاعر (الاغتراب) في محيطه؛ لأنه على الدوام وبشكل متواصل يشعر بأنه إنسان ضعيف؛ وان كيانه الوجودي يستند على وجود قوى خارجية أخرى لا تمت بأي صلة لذاته، وحين تصل مشاعر (الفرد) إلى هذا مستوى من الإحساس بـ(الإذلال) فانه لا محال يسقط في قلب (الاغتراب)؛ لان (الفرد) وعلى الدوام؛ تطغي في مشاعره بأنه غير قادر من إيجاد ذاته لإحساسه الشديد بكونه مسلوب الذات.. وضائع.. وتائه.. ومستغل من قبل الآخرين، لذلك يحاول الهروب من واقعه هذا؛ بعد إن يجد بان هذا الواقع يدمر إنسانيته وإبداعه ويقزم شخصيته، فيهرب إلى (الخيال) لتكوين واقع افتراضي ليتم رويدا.. رويدا انعزاله التام عن الواقع الحقيقي؛ وهذا ما يجره إلى (الاغتراب) عن محيطه وبيئته متشبعا بـ(الخيال) للبحث عن كل ما لا يستطيع تحقيقه في (الواقع) المعاش؛ ليدور عالمه في شكوك لا أول لها ولا أخر؛ وهذا ما يجره إلى أعماق (الاغتراب) الوجودي والنفسي؛ لأنه يغترب عن ذاته الإنسانية؛ لا يختلط مع الأخريين بشكل مباشر؛ لشعوره الدائم بالنقص وعدم الثقة بالنفس؛ لاهتزاز شخصيته وهذا السلبية في الحياة وفي السلوك هي ابرز ملامح (الاغتراب النفسي) بما تزيد من هموم (الفرد) الذاتية وإخفاقه في إقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين .

 

مشاعر الاغتراب تجعل من الفرد متمردا على نفسه ووجوده ومحيطه لتوصف أعلب المجتمعات الغربية بكونها مجتمعات مريضة نفسيا

 

(تكنولوجيا الاتصالات) عبر وسائلها المتعددة والتي تستحوذ عليا الرأسمالية وعبر فلسفة الليبرالية التي تبث برامجها عبر هذه الوسائل؛ عززت في رسم ملامح الذات الانعزالية؛ لان محيط (الفرد) الأسرية (محيط مفكك)؛ لان (الأب) و(الأم) على دوام منشغلون مع أجهزة الاتصالات؛ فلا يبقى لهم ما يعطوه لتربية أولادهم واحتضانهم لحل مشاكلهم، فضياع المودة.. والتعاطف.. والألفة؛ مفقودة داخل الأسرة وهو الأمر الذي يعزز في ذات (الفرد) مشاعر (الاغتراب) .

فمشاعر (الاغتراب) النفسي الذي يشعر به (الفرد) هو ما يجعله يتمرد على نفسه ووجوده ومحيطه؛ فيعيش في ظل هذه المشاعر منفصلا عن مجتمعه ومحيطة الأسري دون إن يدرك بأنه (مغترب عن الآخرين) بقدر ما ينتابه من شاعر الضجر.. والضيق.. والقلق.. وعدم الراحة.. وعدم الشعور بالأمان، الأمر الذي يجعل الفرد يصاب بنوع من الفتور والعزلة الاجتماعية مع محيطه الاجتماعي؛ وما يزيد من تفاقم هذه العزلة و(الاغتراب النفسي) هي ثورة (التكنولوجيا الاتصالات) وأدواتها من الانترنيت.. والموبايل.. واللابتوب ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث ساهمت هذه (التكنولوجيا المعاصرة) في توسيع (العزلة الاجتماعية) بين الأفراد إلى درجة كبيرة.. وكبيرة جدا؛ رغم أنها عنوانها جاء تحت مسمى (التواصل الاجتماعي) ولكن (تواصل) هنا هو تواصل مبني على المصلحة وعدم الاكتراث بمشاعر الآخرين – المجتمع – بصورة عامة ؛ وخصوصا بين فئة الشباب، وهذا ما سبب إلى فقدان (التفاعل الاجتماعي بشكل مباشر وفاعل وايجابي) وبرودها بينهم لدرجة التي أصبحت في (الحياة المعاصرة) حالة مرضية لذلك اليوم توصف أعلب (المجتمعات الغربية) بكونها (مجتمعات مريضة نفسيا)، لان واقع (الحياة المعاصرة) خضعت خضوعا كاملا لمتطلبات (المادة) بدا وانتهاءا بغياب لكل القيم الروحية؛ وهذا ما عزز من مشاعر (اغتراب الفرد) بدا مع ذاته وانتهاءا مع محيطة الاجتماعي؛ لان (اغترابه مع نفسه) يولد بطبيعة الحال (اغتراب مع أفعاله ومشاعره) نتيجة التبعية وانتماء لـ(القيم المادية) التي لا محال (تشيئه) في هذه (المادة) التي بداءا وانتهاءا – كما قلنا – يتراكض ورائها دون الاكتراث بأي شيء؛ بقدرة رغبة بامتلاك ما تنتجه (الآلة) من منتجات – حتى وان كان فائض عن احتياجاته – لان الصناعة الرأسمالية في مجتمعاتها (أفرزت قيم) هي قيم (غريبة عن القيم الإنسانية) التي أورثها الإنسان منذ نشر (الديانات)؛ لتخلق مجتمعا استهلاكيا لا يمتلك من القيم الإنسانية الأخلاقية إلا بقدر ما يمتلك من المادة؛ وفي نفس الوقت يخضع الإنسان ويسحقه لنظام لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد، وهذه (الرأسمالية) التي لا يهم عندها (القيم الإنسانية) بقدر ما يهم هو (تشيئؤ الفرد) ليكون عبدا للمادة وتأخذ منه كمصدر للإنتاج فحسب، وحتى (الحرية) التي تتبجح بها (الرأسمالية) وتبثه عبر قيم (الليبرالية والليبرالية الراديكالية) لا تصدر منها عن القناعة بـ(الحرية) بقدر ما تأخذ منها غطاء لتمرير ولتسويق (فلسفاتها الليبرالية) لاستحواذ على قيم البشرية بمفاهيمها لتجرده من مشاعر الوطنية والقومية؛ لان (تكنولوجيا الاتصالات المعاصرة) التي أخذت منها (الرأسمالية) وسيلة لبث كل ما تريده لاحتواء كل المجتمعات الإنسانية وأينما كانت على هذا الكوكب؛ فقضية (الحريات) لا تصدر من الرأسمالية وليبراليتها عن قناعة بالحريات الأفراد؛ لان في قيمها لا أهمية تذكر للأفراد؛ بقدر ما يعتبرون أدوات من أدوات الماكينة الصناعية؛ وعلى الإفراد وفق هذا القيم الامتثال والطاعة فقط دون سؤال .

 

تشيؤء الفرد يخلق في أعماقه إحساس بالفشل والإحباط

 

ووفق قيم (الرأسمالية) وأدواتها من (الليبرالية) و(الليبرالية الراديكالية) ومنتجاتها في الصناعة التكنولوجية الحديثة من الانترنيت.. واللابتوب.. والموبايل.. ومواقع التواصل الاجتماعي؛ وجل ذلك ولانشغال (الفرد) وانعكافه الدائم معها ليل – نهار.. ورويدا.. رويدا.. يفقد (الفرد) أحساسة بالأشياء الجميلة دون إن يشعر بذلك، لان (الاغتراب) عن نفسه هو (اغتراب) عن كل القيم الإنسانية.. والاجتماعية.. والثقافية.. والاقتصادية؛ لان (تشيؤء الفرد) هو التي يخلق في أعماقه هذا الإحساس بالإحباط وهو إحساس بالفشل.. والخواء.. وانه لا شيء؛ وهو لا يحس بأنه (لا) شيء؛ لان هذه القيم أصبحت في (الحياة المعاصرة) ظاهرة (تستلب الإنسان وعيه)؛ نتيجة العجز والإحباط؛ وهذا الإحساس يجعله غير قادرا على الوعي بشقائه ومعاناته؛ لأنه مستلب الوعي، وهذا (الوعي) لا يتغير في ذات (الفرد) إلا بتغير وعي (المجتمع)، لان تأثير (الفرد) يأتي أولا وأخيرا من خلال احتكاكه بالمحيط الذي يعيشه وهو (المجتمع)؛ ومتى سعى (الوعي المجتمعي) بإيجاد حلول جذرية بمكافحة الظواهر السلبية من بنية المجتمع من الجهل.. والأمية؛ وذلك من خلال نشر الوعي.. والثقافة.. وتشجيع الإبداع والمبدعين وقدراتهم الإبداعية ويعطي المجتمع حق الكفاءات وللمبدعين استحقاقاتهم دون تميز؛ وحين يصل (الوعي المجتمعي) إلى هذا المستوى من تحمل مسؤولية البناء.. والعمل.. من اجل تطوير قدرات أبناء المجتمع نحو حياة أفضل؛ فان ذلك يساهم في معالجة الأمراض النفسية ومعالة كل ما يتعلق بمشاعر (الاغتراب) التي تأتي نتيجة لتفكيك العلاقات الاجتماعية بصورة عامة في (المجتمع).. وسوء استخدام التكنولوجيا المعاصرة ومنتجاتها.. وعدم وجود مؤسسات لتوعية المجتمع بكيفية استخدام هذه التكنولوجية بما يخدم المجتمع وينهض بواقعه.

 

الوعي عند الفرد هو من يجعله ينتصر على (الاغتراب) رغم هيمنة قيم الرأسمالية

 

ومتى وصل وعي (الفرد) إلى مستوى يمكن الفرد تحمل مسؤوليته؛ فان ذات (الفرد) ستكيف نفسها لتواكب التغير الايجابي الحاصل في محيطه؛ و(الفرد) بطبيعة وعيه يستطيع التميز كل المواقف الإنسانية في محيط وجوده؛ لأنه قادر على اكتشاف إمكانياته والعمل على تنميتها بما يخدم مصالحه ومصالح (المجتمع)؛ لان جدل ارتباطه مع الآخرين هي جدلية تلقائية اثر وتأثير.. والتحليل والنقد؛ لان (العقل) عند (الفرد) ذو حسية شديدة؛ هو الذي يجعله ينتصر على (الاغتراب) رغم هيمنة قيم المادة.. والمنفعة.. وقيم الرأسمالية.. والبيروقراطية مؤسساتها التي تستحوذ على كل شيء ايجابي في (المجتمع)؛ والتي باحتكارها لكل شيء يضمر الحس الايجابي ويسود في (المجتمع) حالة من اللامبالاة؛ بعد إن تستحوذ قيم الليبرالية على مقدرات المجتمع وتفكك الأسرة بنظام (العولمة الليبرالية) وما تبثه من قيم مادية لتفكيك خصوصية الأسرة والمجتمع في (العصر الحديث)؛ والتي تنمط كل مجريات الحياة لتجعل (الفرد) أداة من أدوات (الصناعة الرأسمالية الاحتكارية)، ولكون (الفرد) منذ إن خلق على هذه الأرض كان ومازال مخيرا في أفعاله؛ فانه – لا محال – قادرا على الإبداع والانتصار بكل ماتت بها (فلسفة العصر الرأسمالية الحديث) من قيم لتشيئه، فهو قادر على الانتصار إذ تمسك بقدراته العقلية في التحليل والتفسير؛ لأنه قادر على خلق كل المتناقضات في أن واحد النافع والضار.. والمفيد والمدمر؛ لان (إبداع الإنسان الحر) لا حدود له، وما حالة (الاغتراب) الذي يعانيه (الفرد) إلا قد جاء نتيجة التفكير المعمق.. والبحث المستمر.. والنقد.. والتحليل لكل صور الحياة، وهذا التعمق في ماهية كل ما هو محيط به يعرضه لمصاعب ومشاكل؛ لان سلوكه يكشف عورة الآخرين؛ عورة المجتمع أو نظام السلطة وعلى كافة الأصعدة الدينية.. والسياسية.. والاجتماعية، فوضع (الرأسمالية) القيود على مجالات الفكر في النقد والتحليل و كل ما هو محيطة بالعقل؛ لا تستطيع ثني قدرات (الفرد) في الإبداع والتحدي.

 

المجتمع الذي يخسر مثقفيه والمثقف حين يخسر مجتمعه معادلة قاسية جدا يفرضها (الاغتراب) كحاصل تحصيل

 

وكلما زاد (وعي الفرد) بواقعه والإشكاليات التي تحيط ببيئته من تفشي الجهل.. والأمية.. والتمرد على المنطق السليم.. والظلم الجائر.. والفساد السياسي والإداري.. وتغيب العدل.. وتقيد حرية الرأي والتعبير.. وفرض رقابة صارمة على وسائل الحوار والمناقشات الفكرية في صالات المثقفين ومنابرهم الثقافية والإعلامية.. وتقيد حرية الفردية.. وإنتاج الفكر الناضج، كلها عوامل كبلت المجتمع من إنتاج (الوعي الجمعي البناء) يخدم مؤسسات (التربية والتعليم) ليتخرجوا منها جيل متسلح بالفكر البناء لناضج؛ وهذا الإقصاء لهذه الطبقات ساهمت في (اغتراب) المثقف بتهميشه في بلاده و وطنه؛ لتمهد كل عوامل المحيطة حول بيئته إلى الهجرة؛ و(الهجرة) من الوطن قد تكون متنفسا لفتح قريحة الإبداع عند المبدعين، ولكن (الهجرة) هي أقسى عذابا من محيط الذي خرج منه (الفرد)؛ وبالتالي ليكون (الوطن البديل) في المهجر موتا بطيئا له؛ لان انسلاخ (الفرد) ليس بالأمر السهل للمهاجر؛ ليعش وسط مجتمع غريب عنه لا يستطيع التفاعل معه؛ فيدرك حينها حجم التهميش وهو يعيش على ضفاف وأطراف ذاك المجتمع ولا يستطيع الاندماج مع محيطه في بلاد الغربة؛ لان الكل عنده غريب؛ وهو الغريب البعيد عن وطنه؛ يطرح أفكاره لمعالجة اختناقات الحاصلة في وطنه؛ ولكن دون إن يصغي له احد؛ لان من في وطنه من أدوات للسلطة تمنع وصول صوته (إلا) بشكل سري أو ضمني إلى الجماهير بكل مستوياتهم؛ لنكون أمام معادلة قاسية؛ مفادها بان المجتمع خسر مثقفيه والمثقف خسر مجتمعه، هذه المعادلة قاسية جدا يفرضها (الاغتراب) كحاصل تحصيل .

 

المجتمع لذي لا يعاني مما يفرزه (الاغتراب) في ذات (الفرد) هو مجتمع ميت محكوم عليه بالفشل

 

فالمجتمع بدون وجود نخب من المثقفين والمفكرين الذين هم من يشخص مناطق الخلل في بنية المجتمع؛ وحين يتم لهم نقد سلبيات ومشاكل وهموم الشعب ومتناقضات المختلفة الذي يفرزها الواقع المعاش في يوميات الأفراد يستطيعوا بهذا الشكل أو ذاك – سواء بنشر الوعي أو حث الجماهير بالتظاهرات ومطالبة بحقوقهم – أن يوفروا مستلزمات الحياة السليمة.. والنجاح.. والإبداع.. وبناء الحوار والنقاش حول مختلف جوانب الحياة والفعاليات الاجتماعية ومع ما يحدث في العالم، ولكن بتغيب هذه الطبقة من المنورين وانعدام الحوار المجتمعي.. والتفاهم.. واحترام الآخر؛ يزداد في وسط المجتمع سوء الفهم وانعدم التفاهم بما يمزق أوصال المجتمع والبلاد، لان (الرأسمالية) حين فتحت آفاق (الاغتراب) بين الإفراد لاغترابهم عن المجتمع أرادت تمزيق وتفكيك وحدة كل بلدان العالم والابتعاد عن الفكر الوحدوي ليتم استعمار بلدان العالم اجمع وإخضاع مواطنيها للآلة الصناعية الرأسمالية ليتم عبرها كسر إرادتهم وغسل أدمغة المجتمعات بالأفكار (الليبرالية الراديكالية) والتي تنشرها عبر التكنولوجيا الحديثة والاتصالات الحديثة ليكونوا عبدا لها؛ لا هم لهم ولا فعل سوى انعكاف ومتابعة مواقع (التواصل الاجتماعي) التي تبث سمومها في تخدير المجتمعات وقمعهم بالفكر (الرأسمالي المادي) ليتشيؤ في المادة، ولكن لم تعي (الرأسمالية) بكل وسائلها وفلسفاتها بان (الاغتراب) في ذات (الفرد) هو الذي فتح أبواب تساؤلات.. وطرح الأسئلة؛ وهذا الأسئلة هي أسئلة مشروعة في كل زمان ومكان وهي دائرة (الاغتراب الكبرى) لكل المجتمعات وليس للفرد هنا أو هناك، وهي أسئلة ثورية قادرة على التغيير والتعيير الجذري وإحداث ثورات وطنية تحررية كبرى؛ والتاريخ يذكرنا كيف حدث الثورات الكبرى في العالم؛ وكيف حررت دول نفسها؛ وستحرر نفسها؛ رغم جبروت وضخامة الأسلحة (الرأسمالية)، و(المجتمع) الذي لا يعاني مما يفرزه (الاغتراب) في ذات (الفرد) و(المجتمع) وفي ظل هذه الأزمات العقلية والمنطقية في (المجتمعات المعاصرة) هي مجتمعات ميتة محكوم عليها بالفشل؛ لأنها مجتمعات (متشيئة) ضمر فيها الحس الخلقي والعقل النير؛ بعد إن هيمن عليها قيم (المادة) و(المنفعة)، وهي مجتمعات لا بد إن يأتي لها يوم؛ لتجد نفسها وهي تحرر نفسها من عبودية المادة .

التعليقات مغلقة.