كيف غيّر اليمن شكل الصراع مع إسرائيل وكيف بات المرور عبر البحر الأحمر وباب المندب حلماً إسرائيلياً مستعصياً / د. محمد علي صنوبري
د. محمد علي صنوبري * – الأربعاء 22/11/2023 م …
في 25 مارس 2015 شنت قوات التحالف العربي حرباً شعواء على اليمن واستمرت هذه الحرب لحوالي 8 سنوات متتالية راح ضحيتها أكثر من 377 ألف شخص بحسب الأمم المتحدة. كما تشير الإحصائيات الاقتصادية إلى تضرر الاقتصاد اليمني بنحو 200 مليار دولار، كل هذا ناهيك عن أزمات النزوح الداخلي وانتشار الأمراض والتدمير الكامل للبنى التحتية. كل هذا لم يمنع هذا البلد العربي الأصيل من الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وذلك لإن الشعب اليمني وقيادته يتشاركون قضية الظلم والتدمير والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
قبل ثلاثة أسابيع من اليوم أعلنت الحكومة اليمنية عبر المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة اليمنية، الدخول في الحرب ضد إسرائيل بشكل رسمي وعلني. من الناحية العسكرية والجيوسياسية يعتبر تدخل اليمني الرسمي في الحرب نقطة تحول هامة للغاية، إذ أن هذا التدخل أظهر عجز الدول العربية أو عدم رغبتها في تقديم المساعدة الحقيقية للشعب الفلسطيني. ففي الوقت الذي ترفض فيه الدول العربية والإسلامية الغنية مقاطعة إسرائيل أو ممارسة ضغوط أكبر على حليفتهم الولايات المتحدة لإقرار هدنة أو وقف إطلاق نار أو حتى فتح معبر رفح لإيصال المساعدات، فتح اليمن البلد الفقير جبهة جديدة للمقاومة ضد إسرائيل.
منذ ذلك الوقت تحّول يحيى السريع (المتحدث باسم الجيش اليمني) إلى أبو عبيدة أخر، ينتظر العالم تصريحاته ويراقبون حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي لإنه حمل لهم المفاجأت في كل تصريح أدلى به.
استراتيجية يمنية شاملة
على الرغم من التحليلات السطحية التي صدرت عن بعض المحللين الذين اعتبروا دخول اليمن في الحرب كحالة رمزية فقط وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين شككوا في قدرة الصواريخ اليمنية على الوصول إلى إسرائيل، إلاّ أن الجيش اليمني كان مجهزاً بخطة استراتيجية شاملة وتدريجية للتعامل مع ملف إسرائيل.
بدأ اليمن حربه ضد إسرائيل عبر إطلاق الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الموجهة بشكل دقيق. وكان على صواريخ أنصار الله الحوثيين أن تقطع أكثر من 1600 كيلومتر لتصل إلى الأراضي المحتلة. كما عمل الجيش اليمني على تفادي المضادات الجوية المصرية والسعودية عبر المرور عبر البحر الأحمر ومن ثم اجتياز خليج العقبة. وبالفعل فقد تسببت هذه الهجمات بخسائر بشرية ومادية كبيرة في “إيلات” الإسرائيلية.
ومتابعة للخطة اليمنية العسكرية في المواجهة مع إسرائيل، فقد قامت القوات البحرية اليمنية باحتجاز السفينة الإسرائيلية “غالاكسي ليدر” المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي المقرب من الموساد “رامي أنغر”، كما قام الجيش اليمني باقتياد السفينة إلى السواحل اليمنية وتم احتجاز طاقم السفينة والذي يُعتقد بأنّ أغلبهم من الإسرائيليين. إن ما قام به الحوثيون لا يعتبر من أعمال القرصنة أو الإرهاب بحسب القانون الدولي البحري وذلك لإن يحيى السريع صرّح قبل أيام من احتجاز السفينة بأن الجيش اليمني سوف يستهدف السفن الإسرائيلية في المياه الإقليمية كما نصح الدول الأخرى التي يعمل رعاياها في البحر الأحمر بالابتعاد عن أي عمل أو نشاط مع السفن الإسرائيلية. ولذلك فإن احتجاز السفينة يأتي في سياق عسكري بحت ولا يمكن لإسرائيل الترويج لنظرية تعطيل التجارة الدولية أو تهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وكعادتها في كل مرة تتعرض سفنها للاستهداف، فقد نفت إسرائيل عبر وزارة دفاعها ملكيتها للسفينة التجارية ونفت كذلك وجود مواطنين إسرائيليين على متن السفينة. تُذكرنا هذه الحادثة بحادثة استهداف السفينة الإسرائيلية “ميرسر ستريت” عبر طائرة مسيرة انتحارية قبالة سواحل عُمان في يوليو 2021 والتي راح ضحيته اثنين من طاقم السفينة الإسرائيلية. والغريب في التصريحات الإسرائيلية هو أنه لو لم تكن هذه السفينة مملوكة لإسرائيل إذا لماذا كل هذه التهديدات والتصريحات التي تطلقها إسرائيل ضد اليمن!! يبدو بأن نفي إسرائيل المستمر لملكية السفن التي تتعرض لهجمات في الخليج الفارسي أو البحر الأحمر وباب المندب يوفر لها ملاذاً للفرار من الرد العسكري على هذا الاستهداف.
على أي حال يبدو بأنّ أنصار الله يعرفون جميع التفاصيل الاستخباراتية لهذه السفينة وغيرها من السفن الإسرائيلية التي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب وجاء ذلك عبر تصريح وزير الإعلام في حكومة الإنقاذ الوطني “ضيف الله الشامي” الذي أكد بأنّ لدى صنعاء معلومات عن كل السفن الإسرائيلية التي تعبر البحر الأحمر. وبناء على ما تقدم فإن أنصار الله يعلمون جيداً بأن أغلب العاملين في السفن الإسرائيلية هم إسرائيليون مزدوجو الجنسية ويحملون جنسيات أجنبية أخرى.
اليمن يعطل الاقتصاد الإسرائيلي
تحدثنا أعلاه عن الخطة الاستراتيحية المتكاملة لأنصار الله الحوثي في تدخلهم في الحرب إلى جانب أخوتهم في فلسطين، هذه الخطة التي بدأت عبر استهداف إيلات بالصواريخ والمسيرات. وقد جاءت عملية احتجاز السفينة لإكمال تعطيل ميناء إيلات والممرات البحرية المؤدية إليه. يدرك العالم أجمع والولايات المتحدة على وجه الخصوص أهمية مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر للتجارة العالمية حيث يمر عبر هذا الممر المائي حوالي 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً إضافة إلى حوالي 30% من التجارة العالمية للغاز التطبيعي تمر عبر هذا المضيق ناهيك عن 10 % من إجمالي التجارة العالمية. ولهذه الأسباب يأتي تحرك الحوثيين تحدياً للولايات المتحدة التي تنشر سفنها وحاملات طائراتها الحربية في المنطقة وهي وقفت عاجزة أمام قوات الجيش اليمني التي احتجزت السفينة عبر زوارق بحرية بدائية وعمليات انزال جوي.
بالإضافة إلى التأثير العالمي لهذه العملية فإن هناك تأثيرات اقتصادية خطيرة على إسرائيل تتمثل بقدرة أنصار الله الحوثيين على تعطيل طرق إمدادت إسرائيل بالبضائع الأساسية التي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب والقدرة على تعطيل ميناء إيلات في جنوب الأراضي المحتلة والذي يعتبر أكثر الموانئ الإسرائيلية حيوية إلى جانب ميناء حيفا.
بشكل عام لدى إسرائيل خمسة ممرات بحرية لتأمين وارداتها من النفط والغاز والبضائع الأساسية أهم هذه الممرات يمر عبر مضيق باب المندب الذي يسيطر عليه الجيش اليمني. الممر الاستراتيجي الأول والذي يعتبر عصب الاقتصاد الإسرائيلي هو الممر الذي يصل الهند بإسرائيل مروراً بخليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر وينتهي إلى ميناء إيلات في جنوب إسرائيل. 30% من واردات إسرائيل (بقيمة حوالي 30 مليار دولار) يمر عبر هذا الممر. وأما الممر الثاني فهو الممر المائي الواصل بين أمريكا الجنوبية وإسرائيل والذي يمر كذلك عبر المحيط الأطلنطي ومن ثم خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى ميناء إيلات.
بعد سيطرة الحوثيين على السفينة الإسرائيلية ظهر عمق تحليل خامنئي لعناصر القوة التي ستلجم إسرائيل. فتأكيده على ضرورة إيقاف تصدير النفط والبضائع إلى إسرائيل ومن ثم دعوة الدول الإسلامية إلى قطع علاقاتها مع الاحتلال ولو لمدة محدودة، يدل على أنّه لو التزمت الدول الإسلامية بهذه النصائح وامتنعت عن أن تكون ممراً للنفط والبضائع إلى إسرائيل سينهار الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كامل وسوف تتوقف إسرائيل عن الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.
تغيير لمجرى الحرب وتعزيز موقف المقاومة
يعتبر تدخل اليمن في الحرب إلى جانب غزة تجسيداً حقيقيا لمفهوم وحدة الساحات الذي يعني إشغال العدو على جبهات متعددة وهو تطبيق عملي للرسالة التي أرسلها قائد فيلق القدس الجنرال إسماعيل قاآني إلى قادة المقاومة الفلسطينية التي أكد فيها بأن المقاومة الفلسطينية أظهرت للعالم أجمع بأنّ إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت كما أكد التزام محور المقاومة وقادته بمنع العدو من الوصول إلى أهدافه القذرة كما أن محور المقاومة سوف يقوم بما يلزم في هذه المعركة التاريخية.
من النتائج غير العسكرية الهامة التي ستحققها عملية احتجاز السفينة والتدخل اليمني الكلي في الحرب إلى جانب الأخوة في قطاع غزة هو تعزيز موقف المفاوض الفلسطيني في طاولة الحوار. وجاءت ورقة التفاوض الرابحة هذه في وقت راوغت ورفضت فيه حكومة نتنياهو أي عملية لتبادل الأسرى أو لوقف إطلاق النار لأكثر من 45 يوماً. ولكن وبعد العملية اليمنية بشكل مباشر، بدأ الإسرائيليون يتحدثون عن تقدم كبير في التوصل إلى صفقة تبادل أسرى وإقرار وقف لإطلاق النار لمدة خمسة أيام متتالية.
وعلى الصعيد الإقليمي، أثبت تدخل أنصار الله في الحرب موقفهم العروبي والإسلامي الثابت تجاه القضية الفلسطينية وما نلاحظه اليوم بأنّ الفئات الشعبية العربية أيدوا الخطوة اليمنية وأثنوا عليها. كما تحدثت بعض التقارير الإعلامية عن قرب توقيع اتفاق مصالحة بين الفرقاء اليمنيين وهذا كله إن دل على شيء فهو يدل على أنه على الرغم من كل المؤامرات والفتن التي زرعتها الولايات المتحدة في المنطقة ها هو اليمن اليوم يتحول إلى قوة إقليمية وجيوسياسية لا يمكن تجاهلها أبداً.
* مدير ورئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية
التعليقات مغلقة.