أ. د. أمين محمود يكتب: الاتحاد السوفييتي ومشروع تقسيم فلسطين
ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية ووضعت أوزارها حتى بادر الاتحاد السوفييتي آلى ارساء أسس التحرك السياسي النشط تجاه العديد من القضايا الدولية ت والتي كانت موضع شد وجذب بين قوى الحلفاء . وقد استمر السوفييت في اتباع سياسة التنسيق المفترض مع هذه القوى وخاصة الولايات المتحدة ، حيث لم يكن لديهم أي وسيلة أخرى للتدخل في هذه القضايا الدولية ، الا كقوة كبرى ضمن تسوية سلمية عالمية شاملة . وكان في مقدمة هذه القضايا القضية الفلسطينية ومشروع الدولة اليهودية ، التي مارس السوفييت بشانها ضغطا كبيرًا على بريطانيا للموافقة على عرضها أمام المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة المنعقد في سان فرانسيسكو عام ١٩٤٥ ، الا ان هذا الضغط والإلحاح في الموقف السوفييتي ادى إلى اثارة الشكوك لدى البريطانيين مما جعلهم يترددون في عرض القضية على المنظمة الدولية ويلجأون إلى التلكؤ في عرضها ، ولم يتغير هذا الموقف البريطاني الا في فبراير ١٩٤٧ حين أعلن ارنست بيفن عزم الحكومة البريطانية على تحويل قضية انتدابها على فلسطين إلى الأمم المتحدة . . . وقد ادى هذا الموقف البريطاني إلى حرمان السوفييت طيلة فترة التلكؤ والتأجيل من فرصة التدخل الفعلي في الشؤون المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي كانوا يسعون من ورائها الى تامين موطىء قدم لهم في المنطقة العربية .وامتنع السوفييت طيلة هذه الفترة عن إصدار أي بيانات أو تصريحات رسمية حول موقفهم من مستقبل فلسطين السياسي طالما ان القضية لم تنتقل للمنظمة الدولية كقضية تتطلب حلًا عمليًا . ولكنهم من ناحية أخرى اتخذوا عددا من الخطوات العملية التي تخدم الأهداف الصهيونية ،ومن أهمها تسهيل عملية الهجرة للعديد من اليهود البولنديين الى مناطق احتلال الحلفاء في النمسا وألمانيا مدركين ان هؤلاء المهاجرين سيتوجهون. في النهاية الى فلسطين . وكان السوفييت يهدفون من وراء ذلك الى استغلال آلصهاينة في الضغط على بريطانيا والولايات المتحدة للإسراع في احالة قضية فلسطين الى الأمم المتحدة . ولم يخف السوفييت قلقهم من تزايد التنسيق الأمريكي البريطاني حول فلسطين والذي بدا واضحًا في * تقرير اللجنة الأنجلو- أمريكية لاستقصاء الحقائق في فلسطين * المنشور في مايو ١٩٤٦ ، حيث اتضح من التقرير ان بريطانيا كانت تسعى جاهدة الى جذب الولايات المتحدة للوقوف الى جانبها والقضاء على أي احتمال للتدخل السوفييتي في فلسطين والشرق الأوسط (لمزيد من المعلومات عن التقرير انظر: ( Richard Crossman, Palestine Mission , p. 130) .
وقد ورد الكثير من هذه المعلومات في كتاب Bartley Crum الذي نشره حول اللجنة ومهامها عام ١٩٤٧ تحت عنوان Palestine Mission وتناقلته الصحافة السوفييتية بكل تفاصيله غير ان السوفييت لم يتوقفوا عن المطالبة بعرض القضية الفلسطينية على المنبر الدولي . ففي خريف عام ١٩٤٦ طالب المندوب السوفييتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بضرورة ايجاد حل سريع لهذه القضية من خلال المداولات التي كانت الجمعية العامة آنذاك تقوم بها حول الإجراءات المنوي إتخاذها في اوضاع الأراضي المنتدبة ، كما انتقد وزير الخارجية الروسي مولوتوف خلال المناقشات الرامية الى إنشاء أنظمة وصاية دولية ، سياسة دول الانتداب في فلسطين وغيرها وذلك لفشلها في المهام التي أنيطت بها لنقل هذه البلدان الخاضعة للانتداب الى دول مستقلة أو على الأقل ايصالها الى مرحلة الحكم الذاتي . كما انتقد المندوب السوفييتي كوفيكوف في مجلس الوصاية المحاولات البريطانية لتسوية القضية الفلسطينية مع الولايات المتحدة خارج إطار الأمم المتحدة ، وطالب بالالتزام بتسوية القضية ضمن اروقة الأمم المتحدة وبمقتضى المبادىء والمواثيق التي تقوم عليها هذه المنظمة .
وأخذت سياسة الاتحاد السوفييتي منذ مطلع عام ١٩٤٧ تتحول تدريجيا الى تبني فكرة التقسيم بالنسبة لفلسطين ، متخذة منحى يقوم على اعتبار هذه القضية مسالة داخلية تهم فقط ^ مكوني * الشعب الفلسطيني : العرب واليهود . ولذا فقد وجد السوفييت في تقسيم فلسطين الحل الأمثل والأكثر عدالة بالنسبة لهذين المكونين . وقد اكد غروميكو ، رئيس الوفد السوفييتي آنذاك الى الأمم المتحدة ، هذا التوجه بقوله : * اننا نعتقد بعمق ان القرار الذي يمكن ان يتخذ حول تقسيم فلسطين يتطابق مع المصالح القومية الأساسية لكل من اليهود والعرب … وان الاتحاد السوفييتي لا يمكنه الا ان يؤيد طموحات أي دولة وأي شعب مهما كان وزنه صغيرا في الشؤون الدولية ، وذلك في نضاله ضد التبعية الأجنبية وبقايا الاضطهاد الاستعماري * ( Observer , April 18 , 1848 ) .
ويستخلص من كلمة غروميكو هذه اعتراف السوفييت بأحقية اليهود بان يكون لهم وطن ودولة وأحقية عرب فلسطين بان يكون لهم أيضا دولة مستقلة خاصة بهم ، شريطة ان تتخذ هاتان الدولتان موقفًا معاديًا للنفوذ البريطاني وأعوانه المتمثلين * بالبورجوازية الوطنية * ذات القيادة التقليدية .
وحينما تم عرض القضية الفلسطينية في مايو ١٩٤٧ أمام اول جلسة خاصة للجمعية العامةللامم المتحدة ألقى غروميكو خطابا طويلا اقترح فيه تصفية الانتداب البريطاني على فلسطين وإنشاء دولة عربية ثنائية القومية ، وإذا تعذر تحقيق ذلك فالبديل هو * تقسيم فلسطين الى دولتين مستقلتين احداهما يهودية والأخرى عربية * ، وأعلن غروميكو انه يؤيد البديل الثاني في حال تدهور العلاقات العربية اليهودية في فلسطين واستحالة التعايش بين الشعبين * ، كما أسهب غروميكو في الحديث عن * الحق اليهودي التاريخي * في فلسطين والمعاناة الشديدة التي لقيها اليهود على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية وطالب بضرورة تقديم كل المساعدات الممكنة لهم . وكان مما ورد في خطابه أيضًا :
* ان ممثلي الدول العربية يزعمون ان مشروع قرار تقسيم فلسطين سيذكره التاريخ على انه قرار.غير عادل وغير منصف ، ولكن وجهة النظر هذه غير مقبولة لان للشعب اليهودي حقا تاريخيا وثيقا في فلسطين * ، ومضى غروميكو قائلا : * ان حل القضية الفلسطينية على أساس دولتين منفصلتين له دلالة تاريخية كبيرة ، اذ ان هذا القرار سيحقق المطالب المشروعة للشعب.اليهودي ، حيث ان الآلاف المؤلفة منه – كما تعلمون – لا يزالون بدون وطن أو ماوى * ( UN , General Assembly , Offiicial Records , 1st Special Session , May 1947 ,pp. 127 -135 ).وكان التبرير الذي استخدمه غروميكو بهذا الصدد هو * ان قضية فلسطين لا تمس مصالح اليهود في فلسطين وحدها وإنما تمس أيضا مصالح اليهودفي شتى أنحاء العالم * . وهذا تبرير بتناقض وراي لينين بان إطلاق صفة الأمة على اليهود يمثل * الرجعية السياسية * ، كما ان التمسك ب * القومية اليهودية * يتعارض مع مصالح البروليتاريا اليهودية . وقام غروميكو من جانبه أيضا بدعم الاقتراح الذي يمنح الوكالة اليهودية حقًا استثنائيًا يتيح لهم الاشتراك في مناقشات ومداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة .
ولا يملك المرء الا ان يرى في خطاب غروميكو وموقفه من القضية الفلسطينية جميع المكونات التي تعكس المنطق الذي دابت على استعماله الإمبريالية الغربية في الاعتراف بالحقوق الأزلية لليهود في ارض فلسطين وضرورة تعويضهم على حساب عرب فلسطين عن * الظلم * الذي تعرضوا له في دول الغرب . واللافت للنظر ان المنطق الذي استخدمه غروميكو يتفق أيضا ومنطق الإمبريالية الغربية التي تسعى لاستخدام اليهود في فلسطين كاداة توظفها لخدمة مصالحها الذاتية التوسعية .
تلقت الجاليات اليهودية وخاصة في نيويورك وتل ابيب خطاب غروميكو بالحماس والتأييد . وقد عبر بن غوريون عن تأثره الشديد لما ورد في ذلك الخطاب . وأعلن ناطق باسم الوكالة اليهودية ان موقف الاتحاد السوفييتي الجديد مهد الطريق لاشهار الدولة اليهودية . أما جريدة هاآرتس الصهيونية فقد ذكرت ان كلمات غروميكو عن المعاناة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية تتميز بشكل واضح عن كلمات الأنجلو ساكسون الباردة والجافة ، في حين اشارت جريدة الدفاع المقدسية الى ان خطاب غروميكو فتح الطريق أمام العديد من المهاجرين اليهود من بولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية للتوجه نحو فلسطين والاستقرار فيها على حساب سكانها الأصليين من العرب (Kramer , p17) .
ولدى عرض مشروع التقسيم على الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر ١٩٤٧ تم إقراره باغلبية الأصوات . فقد صوت الى جانبه ٣٣ دولة وعارضته ١٣ دولة وامتنعت عن التصويت ١٠ دول . ودعا القرار أيضا الى تصفية الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين الى دولتين : عربية ويهودية بحدود إقليمية محددة . كما دعا الى ايجاد وضع خاص لمدينة القدس وقيام تعاون اقتصادي بين الدولتين . وقد بذل كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة جهودًا مكثفة لتامين موافقة ثلثي الأصوات اللازمة للمصادقة على هدا القرار ، وقام ممثلو الدولتين الكبيرين باستخدام شتى وساىل الضغط على العديد من مندوبي الدول الأعضاء وخاصة ممثلو الدول الآسيوية ودول امريكا اللاتينية . ومن الملاحظ انه كثيرا ما يشار الى ان قرار التقسيم *وفر الأساس القانوني لإعلان قيام دولة اسرائيل * ، وإذا كان هذا الأمر صحيحًا فمن الأصح هو ان قرار التقسيم يشكل أيضا هو الأخر أساسًا قانونيًا لإنشاء دولة عربية في فلسطين .
رحبت القيادة الصهيونية بقرار التقسيم وأقرته مرحليًا دون تخليها بالطبع عن هدفها النهائي بإقامة الدولة اليهودية مستقبلا على ارض فلسطين باكملها . وقد ورد في تقرير لهيئة الاركان المشتركة الأمريكية ان * الاستراتيجية الصهيونية سوف تسعى في سلسلة من العمليات العسكرية التي تتسع وتتعمق باطراد لتحقيق أهدافها الاستراتيجية * . وسرد البيان الأهداف كالاتي :
١- سيادة يهودية في البدء على جزء من فلسطين .
٢- قبول الدول الكبرى بحق الهجرة اللامحدود .
٣- بسط السيادة اليهودية على فلسطين بكاملها .
٤- توسيع رقعة اسرائيل نحو * الدول المجاورة .
٥- بسط السيطرة اليهودية العسكرية والاقتصادية على الشرق الأوسط بأسره .
أما بالنسبة للجانب العربي الذي كانت تمثله الهيئة العربية العليا فانها أعلنت رفضها قرار التقسيم وساندتها في ذلك دول الجامعة العربية التي أعلنت استعدادها لمقاومته بشتى الوسائل . وقد استغل الصهاينة الرفض العربي لقرار التقسيم الذي حرمهم بجرة قلم من ٥٧٪ من وطنهم فقاموا بتجاوز ما خصص لهم ضمن قرار التقسيم واحتلوا اكثر من نصف ما خصص للعرب أيضا ، وذلك في أعقاب القتال الذي دارت رحاه بين الطرفين عام ١٩٤٨ ، ثم ما لبثوا ان أعلنوا فيما بعد رفضهم النهائي لقرار التقسيم .
وفي منتصف ابريل عام ١٩٤٨ عقدت الجمعية العامة جلسة خاصة لمناقشة تطورات القضية الفلسطينية ، وقد اتسمت مناقشاتها بالجدل البيزنطي العقيم ، فانتهز وايزمان الفرصة وكان على اتصال مستمر مع ترومان، فقام قبل يومين من انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين بتوجيه رسالة الى البيت الأبيض يستفسر فيها عن جاهزية الولايات المتحدة للاعتراف بالدولة اليهودية الجديدة فيما لو تم إعلانها ، فكان الرد ردا إيجابيا . وقام بن غوريون على اثرها وحسم الأمر بإعلانه قيام دولة اسرائيل وانتهاء الانتداب البريطاني في منتصف ليلة الرابع عشر من مايو ١٩٤٨ .
ومن اللافت للنظر انه لم ترد أي إشارة الى حدود الدولة اليهودية الجديدة بموجب اعلان الاستقلال . ويبدو ان غالبية الزعماء الصهاينة كانوا من دعاة رسم الحدود بقوة السلاح بحيث تتغير كلما ازدادت دولتهم توسعا . ولم تمض احدى عشرة دقيقة على اعلان الدولة اليهودية حتى أعلن الرئيس الأمريكي ترومان اعتراف بلاده بهذه الدولة اعتراف الأمر الواقع de facto . وجاء الإعلان عن تلك الموافقة اثناء إلقاء فارس الخوري مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة خطابه في الجلسة الختامية لمناقشة قضية فلسطين ، اذ قاطعه رئيس الجلسة ليعطي حق الكلام للمندوب الأمريكي الذي أعلن قائلا : * ان دولة يهودية تم الإعلان عنها في فلسطين ، وتعلن الولايات المتحدة اعترافها بالحكومة الاسرائيلية الموقتة على انها سلطة الأمر الواقع في الدولة اليهودية الجديدة * .
وفي الثامن عشر من مايو من العام نفسه خطا الاتحاد السوفييتي خطوة ابعد من خطوة الولايات المتحدة ، فمنح اسرائيل اعترافا قانونيا de Jure بكل ما يترتب على ذلك من نتايج ( Kramer , p. 28 ) . وهكذا وخلال أربعة أيام كانت اسرائيل قد ثبتت نفسها بالقوة ككيان سياسي شرعي ، وتمكنت من الحصول على الاعتراف الفعلي والقانوني للدولتين العظميين في الكتلتين الغربية والشرقية على التوالي. . ومما يسترعي الانتباه ان الاتحاد السوفييتي كان اول دولة تمنح اسرائيل اعترافا قانونيا مما وفر لها مصداقية كانت بأمس الحاجة اليها، وأعطاها نفوذا معنويا متزايدا في عيون العالم . وكان الموقف السوفييتي هذا سابقة تبعته دول عديدة أخرى . وكانت بدايتها ستة دول شيوعية حذت حذو الاتحاد السوفييتي واعترفت بأسرائيل خلال شهر واحد من إقامتها .
التعليقات مغلقة.