سوسيولوجيا ظاهرة الانتحار / د. فايز رشيد

574

حادثة الشاب اللبناني الذي انتحر مؤخرّاً في شارع الحمراء في بيروت، بإطلاق رصاصة على نفسه هزّت الضمير اللبناني والعربي والإنساني في الصميم. فقد ترك ورقة كُتبَ عليها: «أنا مش كافر… بس الجوع كافر». الشاب أقدم على الانتحار بعدما سُدّت كل الطرق أمامه، في بلد يتداعى فيه الأمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي للناس. وتأتي الحادثة في ظل شعور باليأس والبؤس، وصل إليه السواد الأعظم من الشعب اللبناني، الذي يئن اقتصاديا منذ أشهر، في ظل ظروف سيئة لم يشهدها لبنان في تاريخه.
ولم ينته «اليوم الأسود»، كما وصفه لبنانيون في شارع الحمرا، ففي جدرا جنوب بيروت، عثر على جثة مواطن مشنوقا داخل شقته في الشوف بجبل لبنان، وذكرت وسائل إعلام لبنانية، أن الرجل المشنوق هو والد لطفلة، ويعمل سائقا لحافلة ركاب. وبحسب إحصاءات البنك الدولي، فإن 50% من اللبنانيين باتوا تحت خط الفقر، و30% منهم تحت خط الفقر المدقع. بعدما وصل سعر صرف الدولار إلى 10000 ليرة لبنانية. وتشير التوقعات إلى أن أي تحديث للأرقام سيكشف مزيدا من الفقر والعوز في البلاد.

الانتحار بالنسبة لعلماء النفس هو «حالة الموت الناتج عن فعل يأتيه الضحية بنفسه، بقصد قتل نفسه، وليس التضحية بها لشيء آخر، أي هو موت إرادي يقدم عليه الفرد للخلاص من مشاكله وصعوباته غير المحتملة، التي نشأت من حياته في الجماعة، ويقوم بنفسه بالوسيلة التي تحقـق له غيابا تاما»، ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يلقى ما يقارب 800000 شخص حتفه سنوياً بسبب الانتحار. أيضا، مقابل كل حالة انتحار، هناك الكثير من الناس الذين يحاولون الانتحار كل عام، وتمثل محاولة الانتحار أهم عامل خطر لعموم السكان. ووفقاً لتقرير المنظمة، يعد الانتحار ثالث سبب للوفاة عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19عاما. وتستأثر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 79% من حالات الانتحار في العالم. ويعتبر ابتلاع المبيدات، والشنق والأسلحة النارية من بين الأساليب الأكثر شيوعا للانتحار على مستوى العالم.
عربيا، سجلت مستويات الانتحار في الدول العربية، تقديرات متوسطة من حيث العدد، لكن الظاهرة فيها آخذة في الارتفاع وفق تقرير للأمم المتحدة. تتصدر مصر قائمة الدول العربية من حيث عدد حالات الانتحار في عام 2019 (3799) حالة. وحلت السعودية في المرتبة السادسة، فيما جاءت لبنان وسوريا بآخر القائمة، رغم اللجوء والحرب. المغرب يعتبر البلد العربي الوحيد الذي شهد ارتفاعا ملحوظا في حالات الانتحار لدى النساء. تميز الأردن بظاهرة انتحار الأطفال، إذ تقدر نسبتهم بنحو 18% من حالات الانتحار في المملكة. يربط الباحثون أسباب الانتحار بتدهور الوضعية النفسية للمنتحر، بسبب الاكتئاب الناتج عن الفقر، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الحياتية، والمشاكل العائلية والإصابة بأمراض نفسية لم تعالج، والإحباطات الكثيرة في الحياة، والإدمان على الكحول والمخدرات، وغيرها من العوامل. كذلك، فإن بعض حالات الانتحار العربية، كانت بمثابة رسالة خاصة، أو صرخة ألم، كما فعل التونسي محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار بنفسه، ليفجر الثورة التونسية، ويمهد لما عرف بالربيع العربي، وتكرر مشهد البوعزيزي عدة مرات في تونس وعدة بلدان عربية.

الانتحار ظاهرة مجتمعية سلبية، يتوجب على الدول وضع استراتيجيات لمقاومتها، وتوفير الشروط الحياتية الكريمة للمواطن

ووفقا لتقرير المعهد الأوروبي الدولي حول الانتحار، فإن دول أوروبا الشرقية، تشهد أعلى معدلات انتحار حول العالم. وتتصدر لتوانيا قائمة الدول الأوروبية في هذا المضمار، متبوعة بروسيا. في أوروبا الغربية تعتبر بلجيكا وفرنسا وأيرلندا الدول الأعلى في معدلات الانتحار. في المقابل، تسجل أدنى معدلات الانتحار في اليونان وفنلندا وفق التقرير. في الولايات المتحدة ليس الوضع أفضل حالاً، فقد زادت نسبة الانتحار إلى أكثر من 30% حتى عام 2019. وفي الآونة الأخيرة، أصبح الانتحار في الولايات المتحدة، أحد أهم قضايا الصحة العامة الوطنية، حيث وصل عدد حالات الانتحار المسجلة في عام 2016 إلى (965) حالة.
في العام ذاته، أفادت «المؤسسة الأمريكية لمنع الانتحار»، بأن الانتحار كان السبب الرئيسي العاشر للوفاة في الولايات المتحدة، وانها خصصت 69 مليار دولار كميزانية لمواجهته. يطرح علماء النفس مسألة التفاوت بين الجنسين في معدلات الانتحار. ويحاولون أيضاً تفسير جنوح الرجال أكثر للانتحار، رغم أن الاكتئاب أكثر شيوعاً بين النساء. من بين التفسيرات التي قدمت، أن النساء ،يملن أكثر إلى التنفيس عن مشاكلهن عكس الرجال. لكن في الولايات المتحدة لوحظ أن النساء أكثر ميلاً للتفكير في الانتحار، حيث كانت معدلات الإبلاغ عن محاولات انتحار النساء أعلى من نظيرتها لدى الرجال، ربما يرجع هذا وفق علماء النفس، إلى أن الرجال يستخدمون وسائل انتحار أكثر فتكاً، تزيد احتمالات موتهم قبل وصول المنقذين. على الصعيد العالمي، هنالك ضعف في إتاحة البيانات الخاصة بالانتحار والإقدام عليه ونوعية هذه البيانات، فلا يوجد سوى 80 دولة فقط من الدول الأعضاء لديها بيانات جيدة عن تسجيل الأحوال المدنية، يمكن استخدامها مباشرة لتقدير معدلات الانتحار. مشكلة ضعف البيانات حول الوفيات لا تقتصر على الانتحار، ولكن نظرا لحساسية المسألة، فمن المرجح أن يكون ضعف الإبلاغ، وسوء التصنيف بالنسبة للانتحار أكبر منه بكثير، مع سائر أسباب الوفيات الأخرى. ووفقا لمنظة الصحة العالمية فإنه كل 40 ثانية ينتحر شخص حول العالم.
هناك بعض الناس يقدم على الانتحار الجزئي، أي لا يكون في تفكيره وتصميمه وضع حد لحياته حتى الموت، وإنما يسعى من وراء ذلك إلى تفريغ ما في نفسه وروحه من شحنات الألم، حتى يستعطف من حوله، ليشعروا به وبمعاناته، وبالتالي ليحوز اهتمامهم ومشاركته أحزانه، والتخفيف عنه، ومساعدته للخروج من هذه الأزمة التي ألمت به، ولم يستطع التغلب عليها لوحده. وهناك أيضا من يهددون بالانتحار للفت الانتباه، فيصعدون إلى سطح عمارات وجسور عالية، ويهددون برمي أنفسهم، فتأتي جهات من سلطة الدولة، تحاول إقناعهم بالعدول عن خطوتهم، أو تتسلل في الصعود إليهم، وتقوم بالقبض عليهم. بالطبع، لا يوجد تفسير واحد للسبب وراء وفاة الناس عن طريق الانتحار، لأن السلوك الانتحاري ظاهرة معقدة، تتأثر بعدة عوامل تتفاعل مع بعضها بعضا، وهي عوامل شخصية، واجتماعية ونفسية، وأيضا ثقافية، وبيولوجية، وبيئية، وهي في النهاية تشكّل وعي الإنسان وطبيعة سلوكه، والحكم على صحة سلوك الانتحار من عدمه في اللحظة التي يُمارسُ فيها. من الأسباب أيضا المشكلات الصحية التي تمنع الإنسان من ممارسة حياته طبيعيا، حيث أكّد أطبّاء عديدون، على وجود ارتباط وثيق بين المشاكل الصحيّة والانتحار، ومن بينها إصابات الدماغ المرضية، والسرطان، والفشل الكلوي، والإيدز، وغيرها من الأمراض، كما أن الانتحار قد يكون نتيجةً للآثار الجانبيّة لبعض الأدوية، ومن أبرز الأسباب التي تشكّل حالةً نفسيةً للشخص، التحرش والاعتداء الجنسي، والتّفكّك الأسريّ والبطالة.
ومن بين الأسباب المشجعة على الانتحار، ما تقوم به بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي تظهر حالة الانتحار بطريقة غير مقصودة، على أنه عمل مبرر، ما يشجع الشباب ممن يتأثرون بداء التقليد. في كل الأحوال، فإن الانتحار ظاهرة مجتمعية سلبية، يتوجب على الدول وضع استراتيجيات لمقاومتها، إضافة إلى توفير فرص العمل للمواطن وتوفير الشروط الحياتية الكريمة له، والحرص على حريته وكرامته ليشعر بقيمته كإنسان.
من بين من كتبوا عن الانتحار، الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، وقد وضع لهذا العلم منهجية مستقلة تقوم على النظرية والتجريب في آن معا. أبرز آثاره كتاب «في تقسيم العمل الاجتماعي»، وكتاب «قواعد المنهج السوسيولوجي». أسس رسمياً مفهوم الانضباط الأكاديمي لعلم الاجتماع مع دو بويز، وكارل ماركس، وماكس فيبر، يُستشهد به عادة باعتباره المؤسس الرئيسي للعلوم الاجتماعية الحديثة، وتمثل دراسته بعنوان «الانتحار» معلما بارزا في بحوث علم الاجتماع، التي تتقصى العلاقة بين الفرد والمجتمع. فعلى الرغم من أن البشر يعتبرون أنفسهم أفرادا يتمتعون بكامل الإرادة والحرية، إلا أن أنماط سلوكهم كثيراً ما يجري تشكيلها وصياغتها مجتمعيا. يعتقد دور كايم بأن العالم الاجتماعي المحيط بالفرد، له اثره الكبير، وهو الذي أصرّ على تقديم تفسيرات سوسيولوجية لهذه الظاهرة. فكما اعترفت الدراسات السابقة، بتأثير العوامل الاجتماعية والنفسية على الانتحار، غير أنها تطرقت إلى اعتبارات من نوع العرق، والمناخ، والاضطرابات العقلية لتفسير ميل فرد ما الى الانتحار. أما بالنسبة الى إميل دوركايم، فإن الانتحار لديه، هو حقيقة اجتماعية لا يمكن تفسيرها إلا بحقائق اجتماعية، هو يعتقد: إن الواقع الحالي مصاحَب بتحول عمیق في منظومة القیم المجتمعیة لدى كل الدول. وقد برزت بشكل حاد حالات من القلق الحضاري الذي بدأ ینتاب البشریة كلھا، وبدأ معھا السؤال الوجودي یتجدد؟ ما مصیر الإنسان؟ وما ھو ھدفه في الحیاة؟ وما معنى الحیاة أصلاً؟ إلى غیرھا من الأسئلة المحرقة التي باتت تؤرق البشریة برمّتھا في ظل تعدد المرجعیات الدینیة والثقافیة والقانونیة والسیاسیة، وهذه ظواهر اجتماعية وأسباب مهمة لفعل الانتحار.

التعليقات مغلقة.