فن التسحيج.. الفقراء يصفقون خوفا من الجوع والأغنياء يسحجون طمعا بالمزيد! / عدنان البدارين

0 248

 عدنان البدارين ( الأردن ) – الجمعة 20/6/2025 م …

في السنوات الأخيرة، تحول مصطلح “التسحيج” من دلالته الفولكلورية المرتبطة بالدبكة والأعراس إلى مفهوم سياسي واجتماعي مثير للجدل. فبينما يعرفه البعض على أنه “التطبيل الأعمى” للسلطة أو للأشخاص النافذين، يرى آخرون أنه تعبير مشروع عن التأييد أو الامتنان عندما يكون صادرا عن قناعة. 

لكن اللافت هو تحول الكلمة إلى أداة اتهام جاهزة تلقى على كل من يخرج عن خطاب العداء للحكومات والدول أو يثني على إنجاز ما، حتى لو كان مستحقا، فكيف وصلنا إلى هذه الثنائية؟ وهل يمكن فصل الظاهرة عن سياقها الاجتماعي والسياسي الأوسع؟.

المشكلة أن المصطلح أصبح يستخدم كفزاعة لتكميم الأفواه، فالمدح المبالغ فيه مرفوض، والنقد مرفوض أيضا إذا اتهم صاحبه بـ”معاداة الوطن”، ما خلق حالة من الانقسام حيث لم يعد هناك مساحة للرأي المتوازن.

ويلجأ الناس إلى “التسحيج” عند الخوف أو المصالح، ويتحول في أنظمة تسودها المركزية الشديدة التأييد إلى وسيلة للبقاء أو الترقي، خاصة عندما تغيب العدالة وتختزل الفرص في الولاء لا الكفاءة، هنا يصبح “التسحيج” تعبيرا عن علاقة قوة غير متكافئة. 

او يلجأون اليه عند غياب البديل النقدي، عندما ينظر إلى أي تأييد – حتى لو كان موضوعيا – على أنه “تسحيج”، يدفع الناس إلى الصمت أو التطبيل، لأن النقد نفسه قد يعتبر خيانة.

كذلك بسبب الفجوة بين الدولة والمواطن، حيث إذا فشلت الدولة في توفير الحد الأدنى من العيش الكريم، سيرى أي مدح لها كـ”تزويق للفشل”، حتى لو جاء من مواطن مخلص.. العجز عن تمييز التأييد الصادق من النفاق يعكس أزمة ثقة عميقة. 

عندما تتداخل المصالح الوطنية مع المصالح الضيقة، يصبح التعبير عن الولاء مهنة لها روادها، وما عليك سوى أن تفتح التلفزيون، أو تدخل مبنى حكوميا، لتشهد عروضا بهلوانية من نوع خاص.. موظفون يصفقون لقرارات لم تنفذ، وإعلاميون يبيعون ضمائرهم، و”مثقفون” يكتبون قصائد المديح مقابل مقعد في الصف الأول. 

أما السؤال الأهم: هل هؤلاء “سحيجة” بالوراثة، أم أن النظام – أي نظام – حولهم إلى مهرجين؟ الجواب ببساطة كليهما.. عندما تغلق أبواب العدالة، وتفتح نوافذ المحسوبية، يصبح “التطبيل” هو الوسيلة الوحيدة للبقاء. الفقراء يسحجون خوفا من الجوع، والأغنياء يسحجون طمعا بالمزيد. 

في المقابل، تحول اتهام الآخرين بـ”التسحيج” إلى وسيلة لإسكات أي صوت مختلف، فحين ينعت المواطن الذي يرفع علم بلاده أو يفرح بإنجاز وطني بـ”السحيج”، تختزل قضيته في اتهام يلغي شرعيته دون مناقشة حجته، هذا يذكي الاستقطاب ويبعد المجتمع حتى عن التفكير الموضوعي. 

الغريب أن الجميع يلعن “المسحجين”، لكن أحدا لا يسأل لماذا يوجدون؟ والجواب بسيط.. لأن الأنظمة التي تخلقهم تريدهم!، عندما تحاسب المواطن على صمته أكثر من نفاقه، فأنت تدفعه إلى أن يصبح “مهرج” يسبح بحمد الرياح حيث تميل. 

الأكثر سخرية أن “التسحيج” لم يعد مقتصرا على الحكومات! بل صار لكل حزب مسحجوه، ولكل زعيم قبيلة مهرجوه، بل حتى “المعارضة” صار لها “مسحجو المعارضة” الذين يصفقون لزعيمهم بنفس العقلية!. 

يجب ان نفهم بعمق التفريق بين المدح المشروع والنفاق اذ ليس كل تأييد “تسحيجا”، فالثناء على إنجاز صحي أو تعليمي – مثلا – حق إذا كان مستحقا، وان المواطن عندما يشعر أن حقوقه مكفولة، يقل انخراطه في علاقات الولاء القسري، ويصبح نقده أو تأييده أكثر صدقا. 

في النهاية يجب تجنب التوصيفات الجاهزة فاتهام الآخرين بـ”التسحيج” لمجرد اختلاف الرأي يعمق الانقسام والأجدى هو مناقشة الأفكار بدل تصنيف الأشخاص. 

الخطورة ليست في “التسحيج” نفسه، بل في تحويله إلى سلاح لإقصاء الخصوم أو تبرير الفشل، فإذا كان النفاق الاجتماعي دليلا على اختلال النظام، فإن اتهام كل صوت إيجابي بالتسحيج دليل على اختلال النقاش العام، المجتمع السليم هو الذي يميز بين التأييد القائم على الحقائق والمدح الزائف، دون أن يجبر أفراده على اختيار أحد طرفي المعادلة المستحيلة، إما “التسحيج” أو “العداء”، وهنا تبدأ المعضلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 4 =