الطاهر المعز يعرض كتاب ” المُبيدات الحَشَرِيّة – الاستعمار الكيميائي ” – تأليف لاريسا ميس بومباردي (البرازيل)*

237

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 10/5/2024 م …

باحثة وجغرافية وأخصائية في مجال المبيدات الحشرية والسُّمُوم الزّراعية …

يُوضّح كارل ماركس كيف كان نهب أمريكا الجنوبية ضروريا لتطوّر الرأسمالية في بدايات انتشارها، واقتبست المُؤلّفة فقرات مُطَوّلة من ماركس لتوضيح أسباب ومخاطر “الإستعمار الكيميائي” الذي تعتبره بمثابة إعادة إنتاج الاستعمار الكلاسيكي بمظهر “ديمقراطي”، يخفي ( هذا المظهر الديمقراطي) عدم التّكافؤ بين الكُتَل وبين الدّول، ويخفي دَور اللُّوبيات (مجموعات الضغط) ونفوذ الشركات العابرة للقارات، ويستند هذا “الإستعمار الكيماوي” إلى الاتفاقيات الدّولية بشأن المواد السّامّة، مثل اتفاقيات ستوكهولم وروتردام وبازل، التي تكون فيها الكَلمة الفَصْل للدول الإمبريالية وشركاتها متعدّدة الجنسية، ويتمثل دَوْرُ المؤسسات الدّولية والإتفاقيات التي تنبثق عنها في إضفاء الشّرْعِيّة على عدم المساواة.

لقد قاومت فئات عديدة من سُكّان الدّول الغنية، ومن بينها الدّول الأوروبية، استخدام المبيدات لمّا تَبَيَّنَ ضررها على صحة الإنسان والبيئة، وتمَّ حَظْرُ استخدام بعض المبيدات الحشرية في أوروبا، لكن لا تزال المصانع تنتجها لتصديرها إلى الخارج لِتُسْتخدم كأسلحة كيماوية ضدّ السّكّان الأصليين في أمريكا الجنوبية بهدف إزاحتهم والإستيلاء على الأراضي ومصادر المياه والثروات، وهو ما يحصل في البرازيل وكولومبيا وبيرو والمكسيك وغواتيمالا وكذلك في الولايات المتحدة وكندا…

تدرس الباحثة “لاريسا ميس بومباردي” هذا الموضوع من خلال ما يحصل في بلادها (البرازيل)، إحدى أكبر مراكز الإنتاج الفلاحي في العالم، وتُشكل الصّين المستورد الرئيسي للمنتجات الزراعية البرازيلية، وتُؤكّد : “اليوم، في ظل الرأسمالية العالمية، لم يعد الإنتاج الزراعي مرادفًا للغذاء. لقد أصبحت البرازيل بمثابة آلة لإنتاج السلع والطاقة الزراعية، وتقوم الشركات التجارية بتسويق هذه السلع في البورصات العالمية ولا يهم بالنسبة لها ما إذا كانت تتاجر بالخام أو النفط أو الحبوب، لأن الربح فقط هو المهم، وما عليك إلاّ أن تتداول وتتلاعب بالقيم…”، ورغم وَفْرَة الإنتاج الفلاحي وتنوعه فإن البلاد لا تنتج لتلبية حاجة السّكّان، بل تنتج من أجل التّصدير وتلبية حاجة الأسواق الخارجية، بتشجيع من جهاز الدّولة، خصوصًا خلال رئاسة “بولسونارو” حيث انتشر الجوع من جديد بين الفئات الهَشّة للسّكّان، وبالأخص في الأرياف، رغم الإنتاج القياسي للحبوب، إذ أصبحت أسعار الأغذية مُتقلبة وخاضعا لقانون العَرْض والطّلب، وتقلصت مساحة زراعة المواد الغذائية التي تُشكل ركائز النظام الغذائي في البرازيل، كالأرز والفاصوليا السوداء و”فيجاو” والكسافا مقابل زيادة مساحة الزراعات المُعَدّة للتصدير، مثل فول الصويا، وصارت أسعار الأغذية الأساسية مُتقلبة في السوق تبعاً للعرض والطلب، وكلما زادت مساحة الزراعات المُعدّة للتصدير، زاد استخدام المبيدات السّامّة، ولم يتغير الأمر بعد عودة لولا دا سيلفا للسلطة سنة 2023، بل استمرت وتيرة المُوافقات على مبيدات الآفات الجديدة، رغم التزام وزارة التنمية ووزارة الصحة ووزارة التنمية الزراعية بالحد من المبيدات الحشرية وبتشجيع الزراعة العُضْوِيّة، ورغم عودة البرنامج الوطني للأغذية العضوية، وهو برنامج يجعل المطاعم المدرسية تتزود من المزارع الصغيرة القريبة منها...

في أوروبا، جدّد الإتحاد الأوروبي الترخيص باستخدام المبيدات الضّارّة بالبيئة وبصحة الإنسان، مثل “غليفوسات” من إنتاج شركة “باير” التي استحوذت على شركة مونسانتو الأمريكية (المُصنّع الأصلي لهذا المبيد الأكثر رواجًا والأشد أضرارًا في العالم)

خصّصت الباحثة قسمًا من كتابها للأضرار المتعلقة بصحة النّساء جراء استخدام المبيدات السّامّة في مُحيطِهِنّ، ومن بين هذه الأضرار: الإجهاض وتشوهات الجنين، وأشارت إلى نشاط النساء في البرازيل ضد العَوْلَمَة الرأسمالية، وخصوصًا في المناطق الريفية حيث تُساهم البساتين والمزارع الصغيرة في تأمين غذاء أغلبية السّكّان الذين يتبادلون البُذُور والخبرات والتجارب في إطار شبكات محلية أدّت إلى تأسيس منظمة “فيا كامبسينا” التي أثارت اهتمام المدافعين عن البيئة والحركات الاجتماعية…

تُحاول بعض منظمات صغار المُزارعين ومنظمات حماية البيئة، بالتعاون مع المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالمواد السامة وحقوق الإنسان، إطلاقَ إطار تنظيمي دولي يُشرف على استخدام المبيدات الحشرية، وحَظْر الرش الجوي للمبيدات الحشرية في بداية الأمر، ثم حَظْر الرّش تمامًا في مراحل لاحقة، ويتطلب نجاح هذا البرنامج تنسيق الحركات الاجتماعية التي تجمع بين الفلاحين والباحثين والنقابات والجمعيات والهيئات المحلية المنتخبة…   

تعرّضت الباحثة والمناضلة النسوية والمناضلة من أجل سلامة البيئة والعاملين في القطاع الزراعي ” لاريسا ميس بومباردي” للتهديد بالقتل في البرازيل عدة مرات، ولذلك انتقلت إلى العيش في أوروبا، منذ ثلاث سنوات، ولم تتراجع عن مواقفها أو تتنازل عن مبادئها.