بين تيار الدولة وتيار الشركة.. “طوفان الأقصى” وإعادة التأكيد على السيادة الوطنية! / كمال ميرزا

193
بين تيار الدولة وتيار الشركة.. طوفان الأقصى وإعادة التأكيد على السيادة الوطنية!
كمال ميرزا ( الأردن ) – الخميس 25/4/2024 م …

 

من بركات “طوفان الأقصى” أنّنا شهدنا داخل أجهزة الدولة وأروقة صناعة القرار في الأردن خلال الشهور الستة الماضية عودة تدريجية لـ “التيار المُحافِظ” على حساب “التيار النيوليبرالي” المتغرّب بأذرعه التكنوقراطية.
وصف هذا التيار بـ “المحافظ” قد لا يكون دقيقاً، فهذه هي التسمية التي يطلقها عليه خصومه ومنتقدوه، وهي تسمية تأتي غالباً في سياق الانتقاص والذم وليس المديح. وأحياناً يصفونه بالتيار التقليديّ، أو المُتزمّت، أو الرجعيّ، وقد يصل الأمر لدى البعض حدّ وصف منتسبي هذا التيار بـ “الديناصورات”!
ربما يكون أكثر إنصافاً وموضوعيةً لو أطلقنا على هذا التيار اسم تيار “الدولة الدولة”، وذلك لتمييزه عن تيار “الدولة الشركة” الذي تسيّد المشهد طوال العقدين الماضيين. ووصف منتسبيه بـ “الحرس القديم” في مقابل “المغامرين” و”تجار الشنطة” العصريين!
كما سَبَقَتْ الإشارة فإنّ عودة تيار “الدولة الدولة” قد جاءت تدريجية، وغالباً غائمة ومُلتبسة وغير حاسمة، ولكن حضور هذا التيار قد تجلّى بشكل واضح خلال حدثين مفصليين شهدتهما الساحة الأردنية والإقليمية الشهر الماضي:
المفصل الأول هو حصار سفارة الكيان الصهيوني في عمّان من قبل المتظاهرين المتضامنين مع غزّة والمقاومة، ومحاولة بعض النخب المُصنّعة مدعومة بخطاب إعلامي خارجيّ وذباب إلكترونيّ لا يُعرف مصدره التجييش ضد حِراك الأردنيين وشيطنته، وافتعال وقيعة غير موجودة بين المتظاهرين والسلطات بما يخدم أجندات لا تصبّ لا في مصلحة الأردن ولا غزّة ولا المقاومة.. الأمر الذي استدعى تدخّل تيار “الدولة الدولة” من أجل احتواء الموقف، وقطع الطريق أمام التصعيد والتأزيم والمتصيّدين في الماء العكر، وعدم ترك الساحة للأغرار أو ضيقي الأفق أو أصحاب المواقف الصبيانية من جميع الأطراف، وإعادة الأمور إلى نصابها وتوازنها بما يحفظ للجبهة الداخلية تماسكها ومتانتها، ويحافظ على الحدّ الأدنى المطلوب من اللُحمة والتوافق والتكامل بين الموقفين الشعبي والرسمي.
والمفصل الثاني جاء مع عبور عشرات المسيّرات والصواريخ الإيرانية سماء المملكة ضمن عملية “الوعد الصادق” التي نفّذها الحرس الثوري الإيراني ردّاً على الهجوم الذي قام به الكيان الصهيوني المحتلّ على القنصلية الإيرانية بدمشق.
فالتصريحات الأردنية التي تلتْ هذه العملية، والطريقة الصارمة التي تمّ التعامل بها مع محاولات تجيير الأردن لصالح هذا الطرف أو ذاك، أو إقحامه في دوّامة الاستقطابات والفرز والتعبئة القائمة.. أظهرتْ بشكل جليّ أنّ تيار “الدولة الدولة” قد عاد إلى الواجهة، وإلى أخذ زمام المبادرة، وذلك لتدارك رخاوة وسيولة “التيار النيوليبرالي” الذي أوصل الأردن إلى وضعية أغرتْ الآخرين به، وجرّأتهم على التعامل معه بطريقة لا يستطيع أي مواطن منتمٍ وغيور أن يصفها بالبراءة أو الاحترام أو النديّة.
المثالان أعلاه، واستمرار حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، والمنحى التصاعدي الذي تتخذه الأحداث يوماً بعد يوم، وزيادة احتمالات توسّع دائرة القتال ونشوب حرب إقليمية، ووجود الأردن جغرافيّاً وديمغرافيّاً وسياسيّاً في القلب من ذلك كلّه.. جميعها عوامل تدفع بإلحاح نحو إجراء مراجعة معمّقة وحثيثة للحالة التي آلت إليها ثوابت الدولة الأردنية، وتشخيص أي أضرار أو اختلالات محتملة قد ألمّت بهذه الثوابت وفي مقدّمتها “السيادة الوطنية”!
فـ “السيادة” هي المفهوم المركزي بالنسبة لمنظومة العلاقات الدولية سياسياً واقتصادياً، وهي وفق الأدبيات السياسية “السمة الخاصة للدولة الحديثة التي تميّزها عن الكيانات البيروقراطية السابقة”.
ويتعدّى مفهوم “السيادة” مجرد بسط السلطة بمعناها المباشر على رقعة جغرافيّة من الأرض محدّدة بنطاق إقليمي نطلق عليه اسم “الحدود السياسية”.
فالأرض هي فقط “الساحة المكانية” لمفهوم السيادة، أمّا السيادة نفسها فهي مفهوم مركّب مكوّن من بُعدين أو مناطين اثنين:
المناط الأول داخليّ أو متّجه نحو الداخل، وهو يرتبط بشكل أساسي بعلاقة الدولة بالأنشطة الاجتماعية والاقتصادية القائمة على أراضيها عبر مفهومي “الأمن” و”الحماية”، واللذان يرتبطان بدورهما بثلاثة عوامل رئيسية هي وجود جهاز بيروقراطي مركزي كفؤ، ونظام ضريبي مُنصف وفعّال، وجيش كبير يتناسب حجمه مع مساحة الدولة وعدد سكانها وموقعها الجيوسياسي وأي مخاطر وتهديدات محتملة يمكن أن تتعرّض لها.
والمناط الثاني خارجيّ أو متّجه نحو الخارج، وهو مناط متبادل أو باتجاهين بين الدول، ويرتبط في حالة كلّ دولة منفردة باعتراف الدول الأخرى بشرعية سيادة هذه الدولة بما يتيح لها الدخول في إطار منظومة العلاقات الدولية.
ولو استعرضنا الواقع الحالي لسيادة الدولة الأردنية في بُعديها الداخلي والخارجي، سنجد أنّ السياسات النيوليبرالية المتواصلة على مدار العشرين سنة الماضية قد أسهمت من حيث تدري ولا تدري في إضعاف هذه السيادة والأخذ من رصيدها!
بالنسبة للبعُد الداخلي فإنّ الكلام والشرح يطولان، خاصة أنّ ما حدث قد حدث في ظل سياسات الخصخصة وتحرير الأسواق والاستجابة لضغوطات البنك الدولي والدول المانحة، ولكن يكفي في هذا السياق الإشارة إلى أنّ السياسات النيوليبرالية قد ساهمت في إضعاف الولاية العامة لسلطات الدولة وأجهزتها، وغالباً تحت مسمّيات برّاقة مثل تشجيع الاستثمار والشراكة مع القطاع الخاص والتحديث والتطوير والرقمنة والابتكار، وتبعات ذلك السلبية على “هيبة الدولة” و”الأمن الوطني” الذي تمّ اختزاله في المعنى البوليسي المباشر لكلمة “أمن” على حساب الأمن بمفهومه الشامل اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً..
واختزال مفهوم “الحماية” في حماية مصالح وامتيازات ونفوذ فئات محدودة من المجتمع، أو “النخبة”، أو نادي السلطة والمال والأعمال شبه الحصريّ والمُغلق.. وذلك على حساب السواد الأعظم من أفراد الشعب أو المواطنين، والذين يُفترض أنّهم يمثّلون الطرف الأول والأساسي ضمن “العقد الاجتماعي” بحقوقه ورفاهه الذي يمنح أي دولة كيانها وشرعيّتها ودستوريّتها.
وبالنسبة للبُعد الخارجي، فإنّ السياسات النيوليبرالية قد جعلت اعتراف الآخرين بالسيادة الأردنية واحترامهم لها، وبوجه خاص اللاعبين الأساسيين والقوى الأساسية في المنطقة، رهناً باستعداد الأردن لاتخاذ مواقف و/أو لعب أدوار قد تتناقض مع سيادته، وتتعارض مع النديّة والتكافؤ والاحترام المتبادل الذي ينبغي أن يسود العلاقات بين الدول.
فبالنسبة للكيان الصهيوني الذي يتهافت النيوليبراليين على التماهي معه، ودمجه في المنطقة، وقطف ثمار سلامه الاقتصادي الموعود لأنفسهم.. فإنّ موقف الكيان من السيادة الأردنية يتوزّع بين ثلاثة تيارات متطرّفة يمثّل “نتنياهو” نقطة التقاء لها وقاسماً مشتركاً بينها:
فالتيار الأول، ورغم توقيع اتفاقية “وادي عربة” وكلّ الالتزامات التي أبداها الأردن تجاه “خيار السلام”، فإنّه مايزال ينظر إلى الأردن باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من “أرض الميعاد” و”إسرائيل الكبرى”، وهو التيار الذي يمثّل “سموتريتش” واجهةً صريحةً له ضمن ائتلاف حكومة الحرب الصهيونية الحالية.
والتيار الثاني يرى في الأردن “وطناً بديلاً” و”جغرافيا مستباحة” يستطيع الكيان الصهيوني أن يصدّر “مشاكله” إليها، وواجهة هذا التيار هو “بن غفير” الذي هو في نفس الوقت الوزير المسؤول عن تسليح قطعان المستوطنين في الضفة.
والتيار الثالث يرى في الأردن “عمقاً إستراتيجيّاً” و”خطّ دفاع أول” عن أمن الكيان، وهو التيار الذي يمثّله “غالانت” ومجمل الماكينة العسكرية الصهيونية.
وبالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، والتي يُفترض أنّ الأردن يرتبط معها باتفاقية عسكرية مشتركة، فقد أوضحتْ بشكل مُعلن وصريح وعمليّ لا يحتمل اللبس أنّ “أمن إسرائيل” بالنسبة لها هو الخط الأحمر غير القابل للمساس أو الانتقاص على مستوى المنطقة، وأنّ الموقف الأميركي من أمن أي دولة أخرى في الإقليم هو بمقدار ما يصبّ أو لا يصبّ هذا الأمن في نهاية المطاف في أمن إسرائيل.
وما يسري على أميركا هنا يسري على بريطانيا وفرنسا وسائر منظومة الدول الغربية.
وبالنسبة للدول صاحبة المشاريع المناوئة أو المنافسة للمشروعين الصهيوني والأميركي في المنطقة، فإنّها تحاول التعامل مع الأردن كـ “خاصرة رخوة” أو “جبهة جانبية” تستطيع من خلالها تجنّب الدخول في مواجهات مباشرة مع خصومها ومنافسيها الرئيسيين.
وبالنسبة للدول التي تتخذ من ثرواتها الطائلة وملاءتها المالية مُحرّكاً لسياستها وأداةً لدبلوماسيتها، فإنّها تحاول جعل الأردن “منطقة عازلة” تعفيها من أن تكون على تماس مباشر مع كيانات تاريخية بعينها، و”ساحة خلفية” لممارسة النفوذ على غرار ما اعتادت هذه الدول القيام به في ساحات إقليمية أخرى كالساحة اللبنانية.
ما تقدّم يعيد التأكيد على الأهمية الكبرى التي تُمثّلها عودة تيار “الدولة الدولة” و”الحرس القديم” لتولّي زمام المبادرة في الأردن ولو على مستوى العقلية ومنطق التفكير وأسلوب التعامل، وضرورة أن تكون هذه العودة حالة مستدامة يُبنى عليها، وتغييراً إستراتيجيّاً في النهج القائم، وليس مجرد استجابة عارضة أو آنية أو تكتيكية تمليها ظروف المرحلة!
وتستطيع الدولة الأردنية وصانع القرار الأردني هنا الاستفادة من أربع مسائل في غاية الأهمية:
المسألة الأول هي الأثر الذي أحدثه “طوفان الأقصى” في إعادة إحياء وتأكيد وتوحيد وعي الشعوب العربية والإسلامية وطنيّاً وقوميّاً ودينيّاً بعيداً عن الانتماءات القُطرية والانقسامات الإيديولوجية وتركة الاستعمار.
المسألة الثانية هي أواصر الأخوّة والدم ووحدة الحال والمصير والوجدان التي تربط الشعبين الأردني والفلسطيني كما لا تربط سواهما، ونظر الشعب الفلسطيني بجميع مكوناته وفصائله بما في ذلك المقاومة وحاضنتها الشعبية إلى الشقيق الأردني باعتباره “منهم.. وهم منه”.
المسألة الثالثة حقيقة أنّ تيار الممانعة بجميع أطرافه لم تصدر عنه لغاية الآن أي مواقف متشنّجة أو تصريحات رسمية تهاجم الأردن أو تستعديه صراحةً.. وذلك في مقابل متطرّفي الكيان الصهيوني الذين لا يكاد يمرّ يوم دون أن يطلقوا سهام حقدهم وعداوتهم ومخططاتهم المبيّتة تجاه الأردن، إلى جانب اعتداءاتهم وانتهاكاتهم التي لا تنقطع على المسجد الأقصى والتي تمثّل مساساً وتحديّاً سافراً للوصاية الهاشمية.
المسألة الرابعة والأهم هي الميزّة الفريدة التي يكاد الأردن ينفرد بها خلال السنوات الخمسين الماضية مقارنةً بحال بقية الدول والأنظمة العربية؛ ففي الأردن جميع ألوان الطيف السياسي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وحتى أشرس المعارضين وأشدّهم جرأة أمثال الراحِلَين ليث شبيلات وناهض حتّر رحمها الله، أو السيدة توجان فيصل أسبغ الله عليها لباس الصحة والعافية.. جميعهم ليس لديهم تحفّظات أو اعتراضات أساسية على النظام الأردني بما هو نظام، بل هم يكادون يتشاطرون قناعة موحّدة مفادها أنّ النظام الأردني بصيغتة القائمة هو أفضل الممكن في ضوء المعطيات الموضوعية للواقع العربي، وأنّ معارضتهم هي معارضة تحت النظام وليست فوقه، والهدف منها هو النقد البنّاء والتنبيه لمواطن الضعف والخلل والتجاوز والفساد والإفساد بهدف إصلاحها بما يسهم في توطيد أركان النظام والدولة لا إضعافهما.
خلاصة الكلام، إذا كانت كلمة “ديناصور” تشير إلى أولئك الرجالات وتلك العقليّات التي استطاعت أن تعبر بسفينة الوطن نحو برّ الأمان خلال قائمة طويلة من الحروب والمواجهات الإقليمية الكبرى، والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية الحادّة، واستطاعت أن تنجز ذلك التحوّل الديمقراطي الذي شهده الأردن سنة 1989.. فلا نستطيع أن نقول في ضوء الظروف الحرجة والحساسة التي تشهدها المنطقة حالياً سوى: مرحى للديناصورات!