أيُستتابُ القلب ؟ … ثرثرات في الحب – السادسة / د. سمير أيوب

453

د. سمير محمد ايوب ( الأردن ) – الأربعاء 13/11/2019 م …

مع غروب ذات يوم ، ما عاد اهتمامها يحتويني ، تسرب من قلبي ونيسُه . وخسرَت روحي أنيسَها . اختارت طريقا آخر .أخذت معها بعضا من شقاوة أبجدياتي ، وأصول ترتيلها . وما عادت تراها عيناي . أضعتُ عِنواني . خسرتُها بِلا وداعٍ فاصلٍ . فالوداعُ كما اعتادتْ أن تقولَ لي ، لا يَقعُ إلا لِمَنْ يعشقُ بعينه فقط .
محدِّثَتي صديقةٌ طبيبةُ أشعة ، لبلوغ السن القانوني ، تقاعدت قبل أشهر من وزارة الصحة ، ردَّتْ على ما قلتُ ونحنُ جلوسٌ نحتسي قهوة الصباح ، في مكتبي في أحد شوارع عمان : بسؤالٍ محدَّدٍ مُحايدٍ : كيف تراها يا صديقي ؟
قلتُ مزهوا : إمراة ، أنوثتُها بشغفٍ أجادَت ترتيبَ أولوياتي . أتْقَنت الابحار في أحلامي ، بلا وثائق سفر، وبلا رغبةٍ في صيدٍ ، أوعبَثٍ بدفاتر. لَمْلمت ، رمَّمَت وهَنْدَست ، وطنا نعيشه بلا إرهاق . حصَّنَته بسماءٍ ظليلةَ التَّفهُّم . أرضُه ذليلة باهتمامٍ مُستدام ، أسوارُه محصَّنة بالناضج من الحياء ، طرقاته سلسة بظنٍّ حسنٍ ، وأبوابُه محروسةٌ بالتسامح .
قالت محدثتي بصوتٍ أثقلته تعمُّدا بحيرة رجراجة : ولكن ، من كان مثلها ، لا تنتهي يا صديقي برحيل ، وإن غادرت .
أكملتُ دونَ أنْ أتبيَّن كثيرا مما قالت : بمغادرتِها ضيَّعتُ شُطآنيَ . إتسعت كل الأماكن ، وضاق صدري . وكيلا يموت نبضُ ذاكرتي ، حاولت ألا أغرق في جعبة هزائمي ، وطبول حنيني . سارعتُ إلى السحبِ الظَّليلةِ . حاولتُ استبدال إسمٍ بإسم . أتى في غيابها عابرون . مُبعثرا جاء حمامٌ ويمامٌ وغربانٌ وغَمام .
ظننت أن صمتها يسأل بقلق : وماذا بعد ؟
فتابعت قائلا وأنا بينَ البَينين : هزمتني ملامحُها ، ومسافاتُ إبحارها ، وإغواءاتُ عطرها . فظلت كؤوسيَ فارغةً ، والحكايةُ بلا عنوان .
قالت وهي تتنهد بعمق وتتلفت بقلق : من الطبيعي ، أن يبقى رجل غادَرَته امراة مثلُها ، فارغَ الصدر، قلبُه كقلبِ أمِّ موسى . ولكنْ قُلْ لي بربك ، كيف أقنعت قلبَك أنها لَمْ تُغادر؟ أيُّ صبرٍ هذا الذي أبقاكَ مُبتسما ، بعد أن لم يعد فيك شيء ملتئما ؟
قلتُ بوجعٍ بَيِّنٍ : حين بدأ بعض ما بيننا على غير عادته ، استشرفت الكثير مما كنا قد توافقنا عليه ، ووثقنا بصحته . إنه اليقين بأنَّ أفراحَ المُحبين لا تنبع من ظروفهم ، بل من قلوبهم . فقررتُ كي لا ألعن الانتظار . الإحتماء بذاتي وبحسن ظني بها . صادقتُ نفسيَ أكثر. مَحَوْتُ كلَّ جِهاتي . وتمرَّنتُ على الوحدة .
لأن لنا في ذِمَّةِ الحبِّ وأذرعه نبع أحلام مشتركة . أدَمتُ قلبيَ مُطوَّقا بقلبها، وأبقيت جلَّ مشاعري في سباتٍ عميقٍ . زرعتُها في كلِّ همومي . رسمتُها على وِسادتي . أغتابُ طيفَها كلَّ ليلة . أجَّلتُ أفراحي ، واثقاً أنَّ آخرَ ملامحِ هذا الوجع ، شروقٌ نمضي معا فيه. فصرتُ قابلا للعناقِ والإشتعال .
إكتسى وجه محدثتي بمشاعر مستنفزة ، لم أفهم سببها ، فعاجلتها بمرافعة قلت فيها : نعم يا سيدتي ، من الممكن أنْ لا تكونَ صاحبتك أجمل النساء ، ولكنها بالتأكيد أحبهن إلى قلبي . ما بينها وبينكُنَّ جميعا ، مدى من فوارقَ تعنيني أنا . لا يُدركُها غيريَ أحدٌ . تفاصيلٌ صغيرةٌ كثيرةٌ غيرَ زينتها ، لامَسَتْ مشاعريَ وجذبَتني إلى ضيائِها ، وأبقتني على قيد الحياة .
بقيت شفاه محدثتي مزمومةً ، رضا أو غضبا ، لست أدري ولا أريد أن أدري . فتابعتُ بفرح طفولي ، وكأني دون أن أدري ، أتعمد إغاظتها :
انها مختلفة يا سيدتي ، مثل أمي ليس كمثلها شبيه .لا يضاهيها أوحتى يدانيها ، في تأجيج صخب الحضور، إلا نكهةُ جوزة الطيب في تتبيلة عجوة امي ، وهي تحشو به كعكع عيد الفطر ، او نكهة جبنتها وهي تسلقها بالمستكة والمحلب وحبة البركة ، اومكدوس باذنجان تحشوه بكرم بالجوز والشطة ، وتغرقه في فيضٍ من زيت الزيتون البكر ، وترصه بعناية في مرتبانات البلور . او تضاحك جاراتنا مع امي ، وهي تجمعهن مع اول زخات المطر ، لمعاونتها في تخليل الزيتون الأسود والأخضروالرصيع والجرجير والقَرْقيع .
سألَتْ محدثتي وكانها تستكملُ موجَ حيرتِها : لِمَ تثقُ إلى هذا الحدِّ بأنها عائدة ؟
قلتُ وأنا أتنهد بعمق : قلبيَ بها أحق ، فهوَ بِها يَضِج .ولنا فيه ذكرياتٌ وتفاهُمات . فمنذ الومضةِ الأولى ، بوعي التزمنا بهَيبةِ الحبِّ . أحراراً ابحرنا فيه . متفقين على إبقاء قوانينَ الجذبِ مَفْصلية . وحرصنا على أنْ يكونَ الخصامُ بيننا ، مؤدَّبا مهذَّبا مشذَّبا ،انيقا وعادلا .
سألتْ وهي تداعب اصابع يدها باصابع يدها : أولم تختلفوا ، ترتطموا أو تتصارعوا كلَّ هذه السنين ؟
قلتُ بوجعٍ مُبتسمٍ : كي لا نموت مرتين في ضجيج الحياة ، إتفقنا على أن نبقى كالماء عصيَّيْنِ على الكسر . كنَّا نرى المشاكلَ مِنْ بعيدٍ ومِنْ قريب . كي لا نُسيءَ تقديرَها أو فهمَها ، كنَّا نقرأ بودٍّ بعيدا عن جدَلِ الاثمِ والبراءة . نتحاورُ بحبٍّ لا بِبُغض ، ونقتصدُ في الظُّلم .
قالت مُتعجبةً مُتعجِّلة : إذن لِمَ وصلتم إلى هنا ؟
قلت محزونا : خنّاسُ الكبرياء ، في غفلةٍ منا تسلل وسوسَ في عقولنا . وأثقل أرواحنا بشيء من أسيجة التشاؤم . فما عاد سفرنا محصورا في حقول الياسمين ، بل بات بعضه كرَّا وفرَّا في حقول الجوري ، المثقل بالكثير من الشوك الواخز وأحيانا المدمي . فاختلط علينا العتمُ بالنور وبالغيم ، فإغتربنا مهزوزين .
وسألَتْ وهي تحدِّقُ في عينيَّ بقلقٍ : مذا لو نادَتْكَ عبريَ الآن ؟
قلت مقاطعا بفرح طفولي ، أجيؤها ، وربي قبل أنْ يرتدَّ إليها طرفُها . وصولي لها لن يستغرق إلا تنهيدة . فأنتِ ممَّنْ يعلمون أنَّ كهوفي في صدرها ، هناك غار حرائي . ليت الذي بيني وبينها ، يا سيدتي باب يدق .
نهَضَتْ واقفةً ، مدَّت يدَها اليمنى باتجاهي وهي تُردد : وعهدُ الله أنَّ عينيها في غيابك كحضورِك ، لم تمتلئ إلا بك . هيا بنا ، إنها بانتظارنا هناك .
الاردن – 23/11/2019

التعليقات مغلقة.